غالباً لن تكون المأكولات البحرية أوّل ما يخطر ببالك عند التفكير بالصحراء الكبرى. تمتد الصحراء مترامية الأطراف عبر شمال أفريقيا، ومنذ آلاف السنين كانت موطناً لعددٍ قليل جداً من الحيوانات التي تكيّفت للحياة في المناطق الحارّة القاحلة. ووفقاً لدراسة حديثة، فإن هذه الصحراء خلال حقبة الهولوسين (العصر الحديث)؛ كانت مليئة بالمساحات الخضراء، وغنية بالأسماك.
فقد ذكرت درسةٌ نُشرت مؤخراً في دورية «بلوس ون» العلمية المُحكّمة، أنه من بين 17550 من البقايا الحيوانية التي عُثر عليها في كهفٍ صخري بجبال تاكاركوري في منطقة الصحراء الوسطى، فإن 80% منها كانت بقايا أسماك، وذلك يختلف كُلياً عن تصورنا للصحراء الكبرى القاحلة التي نعرفها اليوم.
تقول «كاثلين نيكول»، أستاذة الجغرافيا بجامعة يوتا، وغير المشاركة في الدراسة: «تعد المنطقة الواقعة جنوب غربي ليبيا لا تناسب الحياة في الوقت الحالي، نظراً لأنّها من أشدّ المناطق جفافاً وتصحّراً. هي منطقة غير عادية».
تُظهر السجلات الأحفورية أنّ الكائنات المائية شهدت انخفاضاً بمرور السنين مع تغير مناخ المنطقة. تتكوّن البقايا التي تعود إلى زمنٍ بعيد من حوالي 90% من الأسماك، لكّن قبل حوالي خمسة آلاف عام، شهدت الكائنات المائية انخفاضاً إلى أقلّ من النصف. وبحلول ذلك الوقت تقريباً، لم يتبقى سوى الأسماك التي تكيّفت للحياة في المياه الضحلة، ودرجات الحرارة العالية.
يقول «سافينو دي ليرنيا» مؤلف الدراسة، ومدير البعثة الأثرية بجامعة سابينزا في روما، والذي يعمل في ليبيا منذ عام 1990: «منذ حوالي 12 ألف سنة، أدّت التحولات في أنماط الرياح الموسمية إلى هطول الأمطار في المنطقة. ومع تزايد هطول الأمطار، تشكّلت العديد من الممرّات المائية التي ربطت بحيرة تشاد في الجنوب مع نهر النيل في الشمال، مما أتاح ممراً عبرت منه الأسماك للوصول إلى الصحراء الوسطى بأعدادٍ كبيرة».
تُظهر العلامات المُكتشفة على بقايا الأسماك دليلاً يثبت أن البشر اقتاتوا عليها. يقول دي ليرنيا: «لقد فوجئت شخصياً بحقيقة أن الأسماك كانت نوعاً من المواد الغذائية الأساسية، حتى خلال العصر الهولوسين، والعصور الرعوية. في نهاية المطاف، تحوّل العديد من قاطني هذه المنطقة إلى رعي الأغنام والماعز».
ثمّ قبل 5 آلاف عام تقريباً، تغيّر المناخ بشكلٍ دراماتيكي، حيث يقول مؤلّف الدراسة «أندريا زيربوني»، عالم الآثار الجيولوجي بجامعة ميلان في هذا الصدد: «أدت التغييرات في الغلاف الجوي بسبب موقع الأرض أثناء دورانها حول الشمس إلى تغيير موعد الرياح الموسمية بسرعة، واختفت الأمطار التي جعلت من الصحراء الكبرى خضراء عملياً في الزمن السحيق. لقد طرأ تغيّر كبير على المنطقة بأكملها، فقد تحوّلت بعض المناطق الخضراء إلى صحاري قاحلة جرداء فجأةً».
يعتقد بعض العلماء، ومنهم «دي ليرنيا»، أن البشر ربما كان لهم دور في هذا تغير مناخ الصحراء، حين تحوّلوا من الصيد وجمع الثمار إلى الحياة الرعوية. حيث نشر زيربوني وكاثلين ورقةً بحثية عام 2018 أوضحا فيها كيف تداخلت عوامل زيادة الرعي، وتعرية التربة وتغيّر أنماط الرياح الموسمية معاً، وأدّت في النهاية إلى زيادة رقعة الصحراء القاحلة.
لكّن لا يتفّق الجميع على فكرة أنّ دور الإنسان قد أسهم بتقدّم الصحراء على حساب المناطق الخضراء. فقد جادلت ورقةٌ بحثية أخرى عام 2018 بأنّ التحوّل نحو الرعي ربّما حافظ على المنطقة خضراء فترةً أطول.
بالنسبة إلى «نيك دريك»، أستاذ الجغرافيا الفيزيائية في كليّة كينج في لندن، وغير المشارك في الدراسة، فإنّ قصّة جفاف الصحراء الكبرى هي قصّة مرونةٍ مناخية، وهو شيءٌ يمكننا توقّعه عند النظر إلى الضغوط المتزايدة نحو التغيّر المناخي الناتج عن النشاط البشري.
يقول دريك: لقد تطلّع سكّان مدينة جرمة في ليبيا قديماً إلى تطوّر التقنيات في أنحاء العالم، والتي عملت على تحسين حياة الناس، مثل تقنيات أنظمة الري (القنوات) التي طوّرها الفُرس، وتجربة وسائل انتقالٍ جديدة مثل الخيول الرومانية والجمال العربية. لقد سمح لهم استخدام هذه الوسائل الجديدة بالبقاء، وحتّى الازدهار خلال فترة التحوّل المناخي المتطرّف لآلاف السنين، قبل أن تكتسح حضارتهم الامبراطوريات الأخرى. ربما اختفت الأسماك والحيوانات في فترةٍ كانت ما تزال المنطقة رطبة فيها، لكّن مجتمعهم نجح في البقاء لفترةٍ طويلة من الزمن.
يقول دريك إن الابتكار هو مفتاح الحفاظ على مجتمعاتنا في مواجهة مناخ متغير. فمع التقدّم الذي نشهده في مجالاتٍ عدة مثل تقنيات الطاقة المتجددة، فإنه -دريك- لا يزال يأمل بأن يقوم البشر بتكرار ما قام به سكّان جرمة قديماً.
«لدينا فرصة في الابتكار، ويمكننا أن نرى ذلك يحدث الآن في جميع أنحاء العالم».