تبنّى النظام الصحي الأسترالي حلول الرعاية الصحيّة عن بُعد عن طريق الهاتف، أو مكالمات الفيديو، أو عبر الإنترنت أثناء جائحة فيروس كورونا الحالية للحفاظ على التباعد الاجتماعي، والحد من انتقال العدوى. لكّن من غير المؤكد كيف يمكن أن تتطوّر هذه الخدمة في المرحلة التي تلي انتهاء الجائحة، هل ستتوقّف أم سيتم متابعة العمل بها؟
لسوء الحظ، تحول الحجر الصحي إلى نوعٍ من العزلة الاجتماعية، مما خلق مستويات عالية من الإجهاد والقلق، والتوتر النفسي لدى الكثيرين منا. وذلك يعني أن الطلب على خدمات الصحة النفسية سيزداد بلا شكّ بعد الوباء، مما سيزيد الأعباء المُلقاة على نظام الرعاية الصحية النفسية المرهق أصلاً.
التقنيات الرقمية في متناول أيدينا
من الضروري أن تتبنى خدمات الصحة النفسية -العامة والخاصة- تقنيات جديدة للمساعدة في تلبية طلب الحصول عليها بشكلٍ متزايد المُتوقع حدوثه مستقبلاً. في الواقع، أدى اضطراب النظام الصحي وارهاقه الشديد الذي ترافق مع انتشار وباء كورونا إلى انتقال خدمات الرعاية الصحية إلى دعم نظام الرعاية الصحية عن بُعد، والذي يشتمل على الاستشارات الهاتفية، والمحادثات التي تتم عبر مكالمات الفيديو.
مر 144 عاماً منذ أن اخترع «ألكسندر جراهام بيل» أول هاتف عام 1876. لكّن دعونا نأمل أن لا يستغرق نظام الرعاية الصحية لدينا -خصوصاً الذي يُعنى بالصحة النفسية منها- وقتاً طويلاً لدمج التقنيات الرقمية في نظامه، والاستفادة من قوّته في القرن الحادي والعشرين.
من حسن حظ الأستراليين أنهم استفادوا بالفعل من العديد من الابتكارات التقنية في مجال الرعاية الصحية النفسية، وذلك بالتعاون بين الجامعات الكبرى والمنظمات غير الحكومية، مثل إطلاق مواقع على الإنترنت تقدّم خدمات الرعاية الصحية للمحتاجين إليها مثل؛ «موودجيم» و«إي هيدسبيس» و«بروجيكت سينرجي».
لم تكن هذه المشاريع هي الأولى من نوعها في أستراليا، فقد أُطلقت خدمة «ريتش آوت» عبر الإنترنت عام 1996 للحدّ من انتشار حالات الانتحار بين فئة الشباب.
استيعاب بطيء لخدمات الرعاية الصحة عن بعد
لم تنتشر خدمات الرعاية الصحية عن بعد أو أتيح الوصول إليها على نطاقٍ واسع. فمن بين 2.4 مليون زيارة للأطباء النفسيين في عامي 2018 و 2019، كان هناك 66000 زيارة منها تمت عن بُعد. من الواضح أن الكثير من الأستراليين الباحثين عن خدمات الصحة النفسية؛ لا يحصلون على الفوائد الممكنة المتاحة عبر خدمات الرعاية الصحية عن بُعد.
لا يقتصر هذا الفشل على أستراليا فقط. فقد سلّط المنتدى الاقتصادي العالمي الضوء على الفجوة الهائلة في تقديم الخدمات الصحية بين البلدان المتقدّمة والنامية، ودعا إلى نشر خدمات رعاية صحيّة أذكى، والتي تعتمد على التقنيات الرقمية بسرعة.
والآن، تُنبّه منظمة الصحة العالمية -وكل الهيئات الصحية الرئيسية الأخرى- إلى أن هناك حاجة ملحة لتوسيع خدمات الصحّة النفسية؛ استجابة لنتائج الاضطراب الاقتصادي والاجتماعي الناجم عن جائحة كورونا. علينا الاستفادة من تجارب الركود الاقتصادي القاسية السابقة، حيث كانت تتّسم بتدهور سريع للصحة النفسية لدى المتضررين منها، والتي تجلّت بازدياد محاولات الانتحار بشكلٍ عام.
تعزيز النظام الصحي
لمنع حدوث ذلك في أستراليا، نحتاج إلى زيادة الاستثمارات الاجتماعية والاقتصادية على نطاقٍ واسع، بالإضافة إلى نظام أفضل للصحة النفسية. في الواقع، قامت لجنة الانتاجية في مسوّدة تقريرها بتسليط الضوء حول خدمات الصحّة النفسية في أستراليا قبل جائحة كورونا؛ على النقص الحاصل في الاستثمارات المستدامة، وضعف التنسيق، والعجز الكبير في الاستجابة لاحتياجات الأشخاص الأكثر تضرراً، ودعت اللجنة إلى اتخاذ المزيد من التدابير الوقائية، والتدخل المبكر خصوصاً لدى الشباب والأطفال.
يوجد في أستراليا نظامان منفصلان للصحة النفسية. تركّز الأنظمة الحكومية بشكلٍ كبير على خدمات الطوارئ، والعناية المشددة والإلزامية، لكن لا يستفيد من هذه الخدمات إلا عدد قليل ممن يعانون من الأمراض المزمنة والخطيرة. بينما توفر المستشفيات الخاصّة أسرّة إضافية لمن لديه تأمين صحي خاص، لكنّها تدعم أيضاً البرامج الصحية التي تكلّف كثيراً، وتقدّم في المقابل قيمة محدودة. ونتيجة لذلك، يوجد نقص كبير في خدمات الرعاية الصحيّة اللازمة للمواطنين الذين يحتاجون هذه الخدمات بشدة.
يحتاج النظام في أستراليا إلى رعاية أكثر تخصصاً في العيادات الخارجية، وتوفير اختصاصات متعددة للمحتاجين إليها. وهذا يعني وجود الأطبّاء العامين والنفسيين، والممرضّات والعاملين الطبيين المهرة في فرقٍ مُنسّقة. هناك حاجة ملحّة لهذه الخدمات في الضواحي البعيدة عن مركز المدن، وفي المجتمعات الريفية.
مستقبل رقمي، الآن
قد تقدّم الحلول الرقمية في مجال الصحة النفسية أفضل الحلول الممكنة لحلّ المشاكل السابقة. حيث يمكن للأنظمة الرقمية الذكية، -مثل تطبيقات الهواتف الذكية والتقنيات الأخرى-، أن تساعد في التقييم السريع لمستوى الحاجة، وتوجيه الأشخاص إلى أفضل العيادات والخدمات الصحية المتاحة. كما يمكنها مساعدة أخصائيي الصحّة النفسية على توفير خدمة أفضل للمرضى، وتوفّر أدوات أخرى يمكن الاستعانة بها مثل؛ دعم الأقران، وتقوية العلاقات الاجتماعية للمريض بغض النظر عن مكان تواجده.
يمكن الوصول إلى عدة أشكال متاحة على الإنترنت للعلاج السلوكي المعرفي، مثل خدمات الصحة النفسية التي تقدمها عيادات محلية مثل «مايندسبوت» و «ذيس واي أب»، وغيرها من التدخلّات النفسية القائمة على الأدلة؛ لتلبية الطلب المتزايد على هذه الخدمات.
هذه الابتكارات الرقمية يمكنها إيصال الخبراء إلى المرضى في منازلهم في المناطق الريفية والنائية، الذين لا يمكنهم زيارة الطبيب. في إحدى تجاربنا البحثية، تمكّن طبيب نفسي مختص بالأطفال والمراهقين -يعمل في بوجوتا في كولومبيا- من تقديم تقييمات متخصصة في نفس اليوم للشباب في مناطق بروكين هيل، نيو ساوث ويلز في أستراليا. في الواقع، تغيّرت خدمات الصحة النفسية المقدمة في البلاد بشكلٍ جذري خلال جائحة كورونا. فباتت استشارات الفيديو أساسية في عمل متخصصي الطب النفسي. كما وجد العديد من العملاء أنّ هذا المنهج أكثر ملاءمة، وأقل تكلفة بكثير من الحضور إلى العيادات العادية.
حان وقت العمل
إن المستقبل الرقمي لا يتعلّق فقط بإجراء تغييرات صغيرة. ينطوي المستقبل المعزز رقمياً للصحة النفسية على إعادة التفكير بشكلٍ أساسي في نماذج الرعاية الصحية المُقدمة. يجب استخدام أدوات الفحص عبر الإنترنت لإرشاد المرضى إلى أفضل سبل العلاج القائم على الأدلّة.
ستجعل هذه الأشكال الجديدة من الرعاية المُعززة رقمياً نظام الصحة النفسية بأكمله أكثر كفاءة، وتسمح له بتقديم المزيد من الموارد لمساعدة الكثير من الأستراليين الذين يحتاجون إلى رعاية طبية مُكثّفة.
أخيراً، يجب على حكومات الولايات الأسترالية اغتنام الفرصة التي أوجدتها جائحة كورونا الحالية. ينبغي النظر إلى الأنظمة الرقمية الصحية كبنيةٍ تحتية صحية أساسية؛ تمكّن الأستراليين من تلّقي الرعاية الصحية المناسبة.