بصفتي باحثاً في علوم الغلاف الجوي، فإني أدرك جيداً الآثار السيئة لتلوث الهواء على كوكبنا وعلينا كبشر. وأدرك أيضاً، مثل الكثير، الأثر السيء لفيروس كورونا على البشرية. وبالرغم من أن الجائحة والتلوّث أسوأ في المدن، إلا أنّ الارتباطات البسيطة بين جودة الهواء، ووفيات فيروس كورونا فشلت غالباً في أخذ العوامل الجغرافية الأخرى ذات الصلة أيضاً بعين الإعتبار.
هناك تداخلٌ كبير بين الأمراض التي يتسبب بها تلوث الهواء- كالسكتات الدماغية وأمراض القلب والجهاز التنفسي وغيرها- وبين الأمراض التي تزيد من خطر الموت بفيروس كورونا. في الواقع، يمكن التعرض للملوثات وفيروس كورونا عن طريق الهواء، لذلك قد يكون الرابط بينهما حقيقي، على الأقل ظاهرياً.
ربما يكون من المفهوم الجدل الكبير حول تأثير تلوث الهواء على معدل الوفيات التي يسببها فيروس كورونا. ويتجلّى ذلك في العديد من الأوراق البحثية الجديدة- لكن ينبغي التعاطي معها بحذر نظراً لأن أغلبها لم يراجعها الأقران- بالإضافة إلى ذلك، نال هذا الموضوع تغطيةً اعلامية كبيرة (نشرت صحيفة الجارديان وحدها خمس قصص على الأقل حول الرابط بين العاملين السابقين).
عادة ما يكون تلوث الهواء في البلدان عالية الدخل مشكلةً تتمحور حول أثرها على السكان. لكن الارتباط الوثيق بين تلوث الهواء والمدن بحد ذاتها هو ما يصعّب فهم دور التلّوث بالضبط في معدل وفيات فيروس كورونا.
ظهر الفيروس لأول مرة في مدينة ووهان الصينية ذات الكثافة السكانية العالية وانتشر بعد ذلك بسرعة في مدنٍ رئيسية أخرى حول العالم. هذا أمر منطقي، حيث تتمتع مدنٌ مثل نيويورك ولندن بروابط سفر عالمية واسعة النطاق، ويمكن أن تتسبب كثافاتها السكانية العالية بارتفاع معدلات العدوى من شخص لآخر. في الواقع، كان لهذه المدن الدور الأكبر في النمو الأولي السريع لعدد الإصابات وكانت محط الاهتمام مبكراً.
لكن هناك عوامل أخرى، غير تلوث الهواء، يمكن أن يكون لها دورٌ كبير في انتقال العدوى في المدن. فسكان المدن غالباً ما يستخدمون وسائل النقل الجماعي، ويمكن أن تكون معدلات الفقر والحرمان بينهم أعلى، كما تضم المدن عدداً أكبر من الأقليات العرقية نسبياً. تزيد هذه العوامل من انتشار الأمراض التنفسية والقلبية والسكري أيضاً.
تساهم هذه العوامل مجتمعةً في زيادة احتمال الاصابة بفيروس كورونا وزيادة خطورة الاصابة به أيضاً.
ربما أدت نسب تلوث الهواء المتدنية التي جاءت نتيجةً لظروف الإغلاق إلى شيءٍ من التفاؤل. قد يكون من الممكن تحسين جودة الهواء بسرعة، لكّن أثر التدخين طويل الأمد وسوء التغذية لا يمكن عكس أثرهما. لقد أعطى وصف تفاعل الملوثات مع مرض كوفيد-19 بعض الأمل في هذه الأوقات الصعبة كطريقةٍ للحدّ من آثار الفيروس، حتى لو كانت التغير في معدل الوفيات غير مؤكدٍ إلى حدّ كبير، وربما لا يكاد يُذكر.
موثوقية بيانات التلوث
قد تشير موجة الأوراق البحثية حول موضوع تلوث الهواء إلى تحيّزٍ آخر. عادةً ما تُجمع بيانات التلوث لإظهار الامتثال للمعايير القياسية الرسمية في تحديد نسب التلوث (يبلغ الحد السنوي المسموح به في الاتحاد الاوروبي والمملكة المتحدة لثاني أكسيد النتروجين مثلاً 40 ميكروجرام لكلّ مترٍ مكعب). تخضع هذه المعايير للقانون، وتُتخذ اجراءاتٌ قانونية في حال تجاوزها.
هذه البيانات منسقةٌ جيداً ومن السهل الوصول إليها. لذلك يمكن الاستعانة بها للبحث عن الارتباطات بمرض كوفيد-19 سريعاً، ويمكن النظر فيما إذا كانت هناك علاقةٌ بين معدلات التلوث ومعدل العدوى والوفيات. قد تكون مشكلة بيانات التلوث في موثوقيتها العالية وسهولة الوصول إليها، لذلك قد نجدها كمتغيّرٍ في العديد من الارتباطات في الأوراق البحثية.
ستظهر مجموعات بيانات أكثر اكتمالاً بمرور الوقت، وسينتشر المرض على جغرافية أوسع ضمن كلّ دولة بعيداً عن المناطق الساخنة التي ضربها الوباء في البداية بشدّة. سيكون من الممكن على الأرجح التحقق من تاريخ الأفراد المتأثرين بمزيد من التفصيل لتحديد مدى تعرضهم على المدى الطويل لربط هذه التأثيرات البيئية بمرض كوفيد-19 وأخذ جميع العوامل المربكة الأخرى بعين الاعتبار.
ومع ذلك، وفي الوقت الذي ما زلنا فيه في وسط الجائحة، ولم يكمل الفيروس انتشاره بعد، فإن الارتباطات بين المرض وتلوّث الهواء لا يمكن التحقق منها. فلم يثبت للآن أنّ لتلوث الهواء تأثيرٌ إضافي أو غير محسوب على انتشار مرض كوفيد-19 أكثر من كونه عاملاً مهماً في الأمراض الأخرى لدى السكّان عموماً.
هناك بعض الأسئلة المهمة التي ينبغي الإجابة عليها خلال الأشهر القليلة المقبلة. هل سيكون لتخفيض تلوث الهواء في المدن أي تأثير مفيد ويرفع من نسبة المصابين المتعافين؟ وإذا كانت مواقع الفئات الأكثر ضعفاً معلومةً بالفعل، هل لُحظ تأثير تلوّث الهواء عليهم بالفعل في التخطيط الصحي؟ هل يلعب تلوث الهواء، خصوصاً الجسيمات الدقيقة، دوراً في انتشار في الفيروس عبر الهواء؟ يمكن الإجابة عن جزء من هذه التساؤلات من خلال علم البيانات، لكّن سيحتاج الجزء الأكبر منها إلى العمل في المختبر، وقد لا نحصل على الاجابات النهائية بسرعة.