أسماك شديدة السواد: كيف تكيفت هذه المخلوقات مع ظلمة المحيطات؟

3 دقائق
سمك, محيطات, عالم الحيوان
سمكة التنين السوداء ثاني أكثر الأسماك سواداً والتي درسها فريق البحث. الصورة: كارين أوزبورن/ سميثسونيان

هناك العديد من الحيوانات قد تكون تكيّفت لتعيش في قاع المحيطات المظلم، مثل قناديل البحر التي تمتلك إضاءة حيوية، أو سمكة «أبو الشص» التي تضيء من زوائدها. لكن هناك أسماكاً تعيش في الأعماق قد تكيفت بطريقةٍ مختلفة كلياً، حيث طوّرت صبغات تتموضع في جلدها لتمتّص كل الضوء الذي قد يسقط عليها، ويعكس القليل جداً. هذه الآلية سمحت لهذه الأسماك بالتماهي تماماً والاختفاء في ظلمة قاع المحيطات.

في بحث جديد نُشر مؤخراً في دورية «كارنت بيولوجي»، فقد درس العلماء 16 نوعاً من حيوانات أعماق البحار التي يمكنها امتصاص أكثر من 99.5% من الضوء المرئي الذي يسقط عليها، مما يجعلها من أكثر الحيوانات المعروفة سواداً. لدى هذه الأنواع الستة عشر صلة قرابة بعيدة جداً، وعلى الرغم من ذلك فقد وجد العلماء أنها تمتلك صبغات كثيفة في خلايا جلدها تنتظم بشكلٍ مميز يعمل على تشتيت الضوء وامتصاصه على حدٍ سواء.

تقول «كارين أوزبورن»، عالمة الحيوان في متحف سميثسونيان الوطني للتاريخ الطبيعي، ومؤلفة البحث الرئيسية: «يتراوح حجم معظم هذه الأسماك من بضع سنتيمترات إلى حجم يد الإنسان. مظهرها ناعم مخملي، ولونها أسود حالِك، ومن الصعب جداً رؤية تفاصيلها الدقيقة. إنها مخلوقاتٌ رائعة حقاً».

تقوم أوزبورن بتصوير الحيوانات التي تصادفها أثناء رحلاتها البحثية. بدأ اهتمامها بهذه الأسماك حالكة السواد عام 2014 عندما وجدت صعوبة بالغة في التقاط صور لها. تقول: «يكاد يكون من المستحيل الحصول على صورٍ جيدة لهذه الأسماك في أعماق البحار المظلمة جداً. يبدو أنها تمتص كل الضوء بغض النظر عن كيفية ضبط إعدادات الفلاش أو الكاميرا».

يقول «ألكسندر ديفيس»، طالب دراسات عليا في جامعة ديوك، والذي شارك في تأليف الورقة وعمل نمذجة لبُنية خلايا الجلد لدى هذه الأسماك: «في حين أن جلد هذه الأسماك ليس بسواد المواد التي يصنعها الإنسان؛ مثل مادة «الفانتابلاك» التي تُصنع من ألياف الكربون، وتمتص 99.965% من الضوء، لكن من المذهل أن تكون هذه الحيوانات قادرة على إنتاج خلايا شديدة السواد إلى هذه الدرجة». 

هذا السواد الشديد هو بالتأكيد إستراتيجية تتبعها هذه الأسماك للتمويه، حيث يسمح لها بالتخفي عن أعين الحيوانات المفترسة. لكن الرؤية منخفضة جداً في أعماق البحار، حيث يسود الظلام شبه التام، فلماذا تلجأ هذه الأسماك لهذا الأسلوب في تمويه نفسها؟

يقول ديفيس: «لا تصل أشعة الشمس إلى الأعماق، ولكن الخطر يأتي من الحيوانات التي تمتلك أضواء كاشفة، أو تشعّ قليلاً من الإضاءة الحيوية على رؤوسها لتساعدها على صيد الفرائس. وهناك أنواع أخرى يمكنها نفث سوائل بيولوجية كاشفة في محيطها قادرةٍ على إظهار الفرائس». امتصاص هذه الأضواء يساعد أسماك الأعماق على التخفّي والهروب من المفترسات، كما يساعدها على التجول بحرية أكبر بحثاً عن غذائها.

بالرغم من أن ميزة التخفي والتمويه مهمة جداً لدى الحيوانات، فإن امتلاك أي حيوان لجلد أو سطح قادر على امتصاص 99.5% من الضوء هو أمرٌ غير اعتيادي إلى حدٍ كبير. لذلك أراد العلماء مقارنة فائدة امتلاك هذه الأسماك لجلدٍ حالك السواد، مع الأسماك الأخرى التي تمتلك جلداً أو سطحاً أسود بسيط. وجد العلماء، بعد استخدام نموذجٍ حاسوبي، فمن الممكن اكتشاف الأسماك التي تعكس 2% من الضوء الساقط عليها من مسافةٍ أكبر بمرتين من المسافة التي يمكن عندها اكتشاف الأسماك التي تعكس 0.5% فقط منه.

تقول أوزبورن: «لا يوجد صلة قرابة وثيقة بين معظم هذه الأسماك، ومع ذلك فقد طورت نفسها ووصلت إلى نفس الحل وتمويه نفسها بهذه الطريقة. هناك اختلافات طفيفة في كيفية القيام بذلك، لكنها في الأساس نفس الإستراتيجية، إنها مثال جميل التطور التقاربي». فعندما يطور حيوانان غير مرتبطين يعيشان في بيئةٍ متشابهة تكيّفاتٍ متشابهة تعمل بنفس الطريقة؛ حتّى على المستوى الخلوي، تظهر هذه الصفات المشتركة؛ كما تشرح أزبون.

يميل جلد هذه الأسماك للاختلاف كثيراً عن الأسماك الأخرى، حيث تتراكم صبغات الميلانين لديها في طبقةٍ سميكةٍ جداً من الخلايا القريبة جداً من الجزء الخارجي من الجلد. إنها بينة غير مألوفة إلى حدٍ كبير، حيث أن معظم الأسماك تمتلك عادة عدة طبقات من الجلد فوق وتحت الطبقة التي تحتوي الأصباغ.

يُطلق على خلايا الجلد التي تحمل الصبغات اسم «الميلانوزومات». تطورت هذه الأسماك بطريقةٍ ما بحيث يمكن لهذه الخلايا المميزة تشتيت وامتصاص الضوء في نفس الوقت، كما يقول ديفيس: «الجمع بين هاتين الصفتين هو ما يجعلها حالكة السواد».

ويضيف ديفيس: «هذه الميلانوزومات حالكة السواد يمكن أن تلهم البشر في ابتكار مواد صناعية جديدة سوداء. في الواقع، ألهمت بنية تلك الخلايا الصباغية علماء آخرين لمعالجة صبغات الميلانين الصناعية بطريقةٍ مختلفة، حيث أن معظم المواد الشديدة السوداء التي يصنعها الإنسان حالياً مصنوعة من أنابيب الكربون النانوية؛ التي تُعد عملية توليدها وتجميعها صعبة وملكفة للغاية. مع ذلك، يمكن أن يسهم هذا الخط من البحوث الآتية من الطبيعة في مساعدة الخبراء لصنع موادٍ جديدة يمكن استخدامها في المعدات البصرية، مثل الكاميرات والتلسكوبات التي تعتمد إلى حدٍّ كبير على المواد الشديدة السواد لالتقاط أخفت الأضواء، وتقليل التشويش فيها إلى أدنى حدٍّ ممكن».

حقيقة أن هذه الأسماك تمتلك مواداً أكثر قتامة من أغلب المواد التي يصنعها الإنسان؛ تظهر أنه ما يزال أمامنا الكثير لنتعلمه من الطبيعة، وكيف أن الحيوانات قادرة على القيام بأشياء بالكاد نفهم آلية قيامها بها. هذه هي متعة العمل على أرض الواقع في المحيط كما تقول أوزبورن: «لن تعرف أبداً ما الذي ستكتشفه».

المحتوى محمي