بصراحة، يجب أن نكون جميعاً مرتاحين جداً مع الموت لدرجة أننا على استعداد لنحت الأشياء على جماجم الناس. ونتذكر هنا "تقديس الجماجم" في الحضارات القديمة والذي يعطي إحساساً مخيفاً، لأنه كان بمثابة نسخة العصر الحجري الحديث من ذلك الطفل ذو الشعر الرقيق الذي كان يرتدي دائماً نفس الجانب المظلم من قميص القمر في المدرسة الثانوية. فالدلالة المقصودة هي أن "هؤلاء الناس كانوا يركزون بشدة على الجماجم".
وإذا كان "تقديس الجماجم" الأثري الذي يتصدر الأخبار اليوم هو كالتقديس الذي يفكر فيه معظمنا، فإنه يعدّ سيئاً للغاية. ولا تشكل الجماجم الثلاث المنحوتة قيد الدراسة سوى 15 في المئة من كافة الجماجم الموجودة في معبد جوبيكلي تيبي الأقدم في العالم. وهذا مهم من الناحية الأثرية، ولكن من ناحية تقديس الجماجم، فذلك ليس بالكثير.
إذاً ما هو الشيء الفاضح جداً والذي يقف وراء هذه التشويهات؟ فقد تكون عقوبات للميت، من أجل إيذاء أصحاب العظام بعد وفاتهم. تخيل أن لديك القدرة على إلحاق الألم بروح شخص ما عندما يكون في الآخرة، ثم تخيل تنفيذ تلك الخطة في الواقع. فذلك من شأنه أن يكون تقديساً للجماجم.
للأسف فهذا ليس التفسير الوحيد الذي توصل إليه علماء الآثار. حيث جاءت الجماجم من أقدم معبد في العالم، والذي كان قائماً قبل 9000-11500 سنة. ولا يبدو بأن أحداً قد عاش هناك، فقد كان يستخدم فقط للطقوس. ولا يعدّ جوبيكلي تيبي هو الموقع الأثري الوحيد الذي توجد فيه دلائل على تقديس الجماجم، ولكن هذه هي المرة الأولى التي نجد فيها أدلة على كيفية تعامل السكان الذين عاشوا بالقرب من العصر الحجري الحديث مع موتاهم. ونشرت النتائج في مجلة "Science Advances" يوم الأربعاء. ويوجد في الأناضول - المنطقة التركية التي يوجد فيها معبد جوبيكلي تيبي - الكثير من المواقع التي تم فيها نحت الجماجم والتلاعب بها. ويوجد منها الكثير جداً لدرجة أن الباحثين يعتقدون بأنه كان جزءاً من أعراف الدفن في هذا الجزء من العالم. ومع ذلك، لا يعتبر جوبيكلي تيبي موقعاً للدفن. إذ لا توجد مقابر جماعية، وإنما هناك منحوتات وأعمدة من الحجر الجيري، ونقوش منقوشة في الحجر، ومباني أثرية ضخمة.
يشير كل ذلك إلى أن هذه الجماجم كانت جزءاً من الطقوس. إذ تميل المنحوتات في جوبيكلي تيبي لأن تكون مركزية الرأس، أو بشكل أكثر تحديداً، مفصولة عند مركز الرأس. وهي تتضمن أناساً مقطوعي الرؤوس ورؤوساً لوحدها تقدمها التماثيل. كما أن الطريقة التي نحتت بها العظام هي خاصة بالموقع. ففي إحداها ثقب محفور في الرأس، والذي يعدّ غريباً بالنسبة المنطقة، بالإضافة إلى أثلام منحوتة في نقاط رئيسية بحيث من المحتمل أنه كان مشنوقاً.
ربما كان مشنوقاً كعبرة للآخرين لعدم القيام بالشيء الفظيع الذي كان يفعله الشخص المشنوق في الحياة. أو ربما كان زخرفة. كما كان للجماجم أيضاً علامات صبغة أكسيد الحديد، والتي قد تكون من الطقوس، أو قد تكون جميلة ببساطة. وقد تكون الطقوس التي تم القيام بها هنا عبارة عن عقوبات، ولكنها يمكن أن تكون أيضاً نوعاً من التبجيل الذي يهدف إلى تمجيد الموتى.
في هذه المرحلة هناك الكثير من الأمور غير المؤكدة. فثلاث جماجم لا تعدّ كثيرة للبناء عليها، كما أن علم الآثار يشبه لغزاً مؤلفاً من 5000 قطعة ولكن أركانه مفقودة. سوف يستغرق ذلك بعض الوقت لمعرفة الأمر الذي كان نحاتو الجمجمة يرمون إليه.