في الوقت الذي تواجه فيه أوروبا موجة جديدة من انتشار فيروس كورونا بعد تخفيف إجراءات الإغلاق العام، يبرز أحد أهم الأسئلة المتعلقة بالإجراءات الهادفة إلى الحد من انتشار الفيروس، وهو: كيف يمكن للناس أن يحققوا شرط التباعد الجسدي (الاجتماعي) في الأماكن العامة المزدحمة؟ في الواقع، انخفضت قدرتنا وميلنا لاتباع أقصى درجات السلامة خلال الوباء إلى حدٍ كبير، مما أثار المخاوف بشأن ازدياد معدل انتشار الفيروس في الأماكن العامة في المستقبل.
قامت مجموعة البحث والتطوير التي أنتمي إليها في جامعة «أوترخت»، بالإشتراك مع شركةٍ ناشئة صممت برنامج محاكاةٍ حاسوبي يُدعى «يوكراودز» لمحاكاة ازدحام الناس في الأماكن العامة من أجل المساعدة في إدارة الزحام وتخفيفه للحد الأدنى، خاصة في ظلّ جائحة فيروس كورونا التي تتطلب تطبيق سياسات التباعد الجسدي للحد من انتشار الفيروس.
يتيح البرنامج للمستخدمين إنشاء نماذج وتشغيلها لمحاكاة سلوك الحشود الواقعي، بما في ذلك كيفية تحرك الأشخاص في مكانٍ ما، وكيفية تجنب الاصطدامات في البيئات التي يتحركون داخلها. تُشغّل المحاكاة في بيئاتٍ واقعية لدراسة فعالية طريقتهم.
كيف يعمل البرنامج؟
لا يتحرك المشاة في محاكاة البرنامج عشوائياً؛ حيث يكون لديهم وجهة محتملة واحدة أو أكثر. يمكن أن يكونوا وحدهم أو في مجموعات. إحدى الإضافات الحديثة نسبياً التي أضفناها إلى شروط المحاكاة؛ هي أن نسبةً معينة من الأشخاص يجب أن تشغل مساحة أكبر، مثل الذين يمشون في مجموعاتٍ صغيرة مؤلفةٍ من شخصين أو أكثر بقليل. ثم يتحرّك المشاة إلى وجهاتهم بطريقةٍ واقعية متجنبين الاصطدام بالآخرين وأي عوائق أخرى.
قمنا بنمذجة الطريقة التي يتحرك بها الأشخاص في عمليات المحاكاة باستخدام بياناتٍ جُمعت على مدى 13 عاماً، تُظهر كيفية تحرك الأشخاص على أرض الواقع. كما جمعنا بعض البيانات عن طريق إعطاء الطلاب أجهزة تتبعٍ أثناء سيرهم في الأماكن المزدحمة وغيرها من الأماكن. كما أجرينا تجارب أيضاً مع مجموعاتٍ كبيرة من الطلاب أثناء الاحتفالات الضخمة لجمع بياناتٍ عن طريق تحرك مجموعاتٍ كبيرة من الناس بجانب بعضهم.
ونظراً لأن نموذجنا يعتمد على طريقة تحرّك الأفراد والفئات الاجتماعية، فقد أصبح بإمكاننا الآن إضافة عامل التباعد الاجتماعي على النموذج. في الواقع، إن ما يؤدي إلى نشوء أنواع السلوكيات المختلفة التي نلاحظها عادةً في الحشود الحقيقية؛ هو التفاعل بين الأشخاص الذين يتحركون في مكانٍ ما إلى وجهاتٍ مختلفة. مثل تشكّل الأنساق أو الممرات (والتي تتشكل عادة عندما يتبع المشاة الأشخاص الذين يمشون أمامهم عندما تكون الحشود كبيرة)، وموجات الضغط، والمزيد من التردد في طريقة التحرّك لأن الأفراد يحاولون الحفاظ على مسافة اجتماعية أكبر بين بعضهم البعض.
تطبيقات عملية
كيف نستخدم هذه المعلومات للمساعدة في تطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي؟ في الواقع، يمكننا توسيع نطاق نماذج محاكاة الحشود إلى حدٍّ كبير إذا توفّر جهاز كمبيوتر سريع بما فيه الكفاية، حيث يمكن لمحرك المحاكاة لدينا محاكاة حركة ما يصل إلى 550 ألف شخص في الوقت الفعلي.
يمكن للبرنامج أيضاً التنبؤ بحركة الحشود أيضاً. على سبيل المثال، إذا أجرينا محاكاة لحركة 20 ألف شخص، يمكننا تسريع المحاكاة بسرعة تصل إلى 35 ضعف السرعة الفعلية على أرض الواقع، وبذلك يمكن للمسؤولين، باستخدام المحاكاة، التنبؤ بحدوث حالات اختناقٍ في حركة الناس، بالتالي اتخاذ الإجراءات المناسبة للحيلولة دون حصول ذلك، مثل إغلاق طرق الوصول إلى المناطق التي تصبح مكتظةً للغاية.
إذا استخدمت الحكومات هذا النوع من البرامج، فيمكنها مثلاً إرسال رسائل نصية إلى الهواتف المحمولة للمشاة لتوجيههم لاتخاذ مساراتٍ أخرى نحو وجهاتهم. حالياً، هناك مشروع قيد التجربة في محطة قطارات سانت بانكراس في المملكة المتحدة، والذي يوضح كيفية استخدام هذه التكنولوجيا.
استخدم هذا البرنامج سابقاً في سباق فرنسا الدولي للدراجات عام 2015، والذي شهد حضور 800 ألف متفرج إلى أوترخت وحدها. عمليات المحاكاة الافتراضية هذه قدمت الدعم لبلدية أوترخت في تخطيط المناطق المحيطة بدورة ركوب الدراجات، والتنبؤ بتدفقات المتفرجين. تضمن أحد السيناريوهات المفترضة الحد الأقصى الممكن لعدد المتفرجين مع الحفاظ على الأمان في وحدة المساحة. وهكذا، عند وصول عدد المتفرجين إلى هذا الرقم، يمكن إغلاق الوصول إلى تلك المساحات في الوقت المناسب للحفاظ على الأمان.
محاكاة المسافة الاجتماعية
قمنا مؤخراً بإدخال بعض التعديلات على المحاكاة لتعكس تدابير التباعد الاجتماعي المعمول بها في هولندا، والتي تطلب من الناس البقاء على مسافة 1.5 متر من بعضهم البعض.
لا تحدد المحاكاة الحد الأدنى للمسافة بين الأشخاص في المحاكاة على 1.5 متر فحسب، ولكنها تأخذ في الاعتبار حقيقة أن الأشخاص يقومون بتقديرات غير متناسبة أحياناً، حيث أصبح الناس منزعجين من التدابير الاحترازية ضد فيروس كورونا، بالتالي باتوا لايهتمون كثيراً بالالتزام بالتباعد الاجتماعي. كما يحاكي البرنامج مجموعاتٍ يمكن أن تضم أفراداً من نفس المنزل، والتي تقترب أكثر من بعضها البعض عادةً.
يمكن استخدام هذا النموذج من المحاكاة في ظل استمرار جائحة كورونا للحصول على نظرةٍ أعمق حول ما يمكن أن يحدث يومياً في محطات القطارات والمطارات، والشوارع المزدحمة، وحتّى في الاحتفالات. بالتالي يمكن الحفاظ على مسافات التباعد الاجتماعي المطلوبة في كلّ الأحوال. نأمل أن نساهم في المساعدة من خلال محاكاة مسافة التباعد الاجتماعي على إعادة فتح الاقتصاد مجدداً في ظل هذه الظروف العصيبة.