هنا في المملكة المتحدة، ومع عودة حركة المرور والزحام، وغياب أصوات العصافير التي اعتدنا سماعها خلال أيام الإغلاق، وعودة الناس للشوارع وقضاء الإجازات في الخارج، من السهل زوال تأثير الإغلاق الصحي الذي أدى لانخفاض تلوّث الهواء إلى حدٍ كبير في زمنٍ قياسي. إذا لم نستفد من هذه الفرصة للتوقف والتأمل قليلاً أمام الفرص المتاحة أمامنا للتخطيط لمستقبلٍ أفضل نتخذ فيه تغييراتٍ جذرية للحد من استهلاك الوقود الأحفوري؛ فإنّ التغيرات المناخية التي سببتها إجراءات الإغلاق ستكون عديمة الأثر ومؤقتة في مسار مناخنا عموماً.
في وقتٍ سابقٍ من هذا العام، عندما فُرض الإغلاق، وجدنا أنا وابنتي أن لدينا المزيد من الوقت، فقد أُلغيت امتحاناتها، ولم يكن زملائي قد اكتشفوا بعد إمكانية التواصل معي عبر تطبيق زووم. لذلك قمنا بالتخطيط معاً لمشروع يمكننا القيام به من المنزل ينطوي على دراسة كيف يؤثر الإغلاق على انبعاثاتنا، وبالتالي على المناخ عموماً. وقد نشرنا نتائج دراستنا في دورية «نيتشر كليمت تشنج».
المناخ والإغلاق
في الواقع، من الصعب تقدير انبعاثات غازات الدفيئة خلال فترةٍ زمنية قصيرة، فقد تؤثر عوامل الطقس المختلفة على قياسات الانبعاثات مباشرة، وعادة ما تصدر التقارير الحكومية، وتقارير قطاع الصناعة حول بيانات انبعاثاتها كلّ 18 شهراً أو أكثر.
لذلك كنت أنا وابنتي بحاجة إلى طريقة أسرع لمراقبة تغير الانبعاثات. استناداً إلى المنهجيات التي طورتها جامعتا غرب أنجليا وستانفورد. قررنا الاعتماد على دراسة مقدار التغير في كل من حركة المرور وتوليد الطاقة، والأنشطة الاقتصادية المختلفة كمرآةٍ يمكن من خلالها تقدير التغيرات في انبعاثات غازات الدفيئة. تقوم فكرتي على إذا عرفنا انبعاثات هذه القطاعات عادة، وعرفنا مقدار انخفاض نشاط هذه القطاعات أثناء الإغلاق، يمكننا إلى حدّ ما تقدير التغير الحاصل في الانبعاثات.
وقد اعتمد بحثنا على بيانات التنقل التي أتاحتها كل من جوجل وأبل حديثاً، والتي قدمت لنا طرقاً جديدة وغير متوقعة لتقدير مستوى الانبعاثات من قطاع النقل والصناعة والطاقة، والقطاع العام والسكني. سمحت لنا هذه البيانات بدراسة كيفية تأثير الإغلاق على الانبعاثات في 123 دولة تعتبر مسؤولة عن 99% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في العالم. تمثلت خطوتنا التالية، بعد جمع البيانات، باستخدام نموذجٍ مناخي بسيط لتقدير تأثير تغيرات الانبعاثات على درجة الحرارة لعامين مقبلين ابتداءً من تاريخ اتخاذ إجراءات الإغلاق في الصين حتّى نهاية عام 2021.
لم نتمكن فقط من تقدير التغير في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وحسب، بل تمكنا أيضاً من تطبيق منهجية بحثنا على 9 غازاتٍ وملوثاتٍ أخرى. بالرغم من أن ثاني أكسيد الكربون هو أكبر مسببٍ للاحترار العالمي الذي يسببه الإنسان، إلا أن الانبعاثات الأخرى تؤثر على المناخ أيضاً. على سبيل المثال، انخفضت انبعاثات أكاسيد النيتروجين الناجمة عن حرق الوقود الأحفوري أثناء الإغلاق أيضاً مع انخفاض حركة النقل عموماً.
وكان هناك انخفاض أيضاً في انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكبريت من محطات الطاقة والصناعات الثقيلة. بينما تسبب أكاسيد النتروجين احترار المناخ، فإن غاز ثاني أكسيد الكبريت يساعد على تشكّل الهباء الجوي الذي يعكس ضوء الشمس إلى الفضاء، بالتالي تبريد الأرض. هكذا وجدنا أن تأثير انخفاض كلا الغازين على درجة الحرارة يكاد يلغي بعضها البعض.
وقد وجدنا أن تأثير انخفاض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناجم عن الإغلاق ضئيل جداً، وحتى لو استمرت إجراءات الإغلاق لعامين، فلن تنخفض درجة الحرارة على مستوى العالم سوى 0.01 درجة مئوية واحدة؛ مقارنة بسيناريو الانبعاثات في حال عدم وجود الوباء أساساً.
لذلك توضح نتائجنا أن الإغلاق لا يساعد في الحد من مشكلة التغير المناخي عموماً، وأنه حتّى لو عشنا في عالم كانت فيه الآثار الاجتماعية والاقتصادية للإغلاق مقبولة، فإننا ما نزال بحاجةٍ إلى اتخاذ تدابير أكثر فعالية لإحداث فرقٍ حقيقي في مشكلة التغير المناخي. نحن بحاجة إلى تغيير جذري في الواقع.
في الواقع، يمكن أن يؤدي خفض الانبعاثات الناجمة عن حركة النقل على المدى القصير إلى تعويض الاحترار الناجم عن انخفاض انبعاثات ثاني أكسيد الكبريت الآتي من توليد الطاقة والصناعة الثقيلة. ولكن للحد من الانبعاثات الناجمة عن نشاط قطاع النقل على المدى الطويل، نحتاج إلى الاعتماد أكثر على وسائل النقل العام، وتشجيع الناس على استخدام الدراجات الهوائية في تنقلاتهم القريبة، وإنشاء الطرق الخاصة بها.
هل هناك انتعاش اقتصادي صديق للمناخ؟
تتخذ الحكومات في الوقت الحالي إجراءات من شأنها أن تؤدي إلى التعافي الاقتصادي بعد أزمة كورونا، ولكنها ستؤثر على المناخ بطريقةٍ ما في نفس الوقت. لذلك قمنا بوضع نموذجٍ لكيفية تطبيق هذه الإجراءات خلال العقد المقبل، مع إمكانية خفض انبعاثاتنا إلى الحدود الدنيا المقبولة، مع افتراض أن أمنية «بوريس جونسون» بأننا سنعود إلى الحياة الطبيعية بحلول عيد الميلاد لن تتحقق غالباً، وبأننا سنتعايش مع مستوى معين من الإغلاق حتى نهاية عام 2021.
لقد أظهرت دراستنا كيف أن الإغلاق العالمي قد قادنا إلى مفترق طرق مهمٍ جداً بالنسبة للتغير المناخي، فالانتعاش الاقتصادي الذي يعتمد على الوقود الأحفوري التقليدي، بالإضافة إلى خطط التعافي الاقتصادي الحالية؛ سيزيد من انبعاثات غازات الدفيئة بنسبة 10% بحلول عام 2030، وذلك يعني أنه لدينا فرصةٌأقل لتجنب تغير المناخ بهذا الشكل الخطير.
لكن استثمار 1.2% من الناتج المحلي الإجمالي في خطط التحفيز الصديقة للبيئة من الممكن أن يخفض الانبعاثات بنسبة 50%، واحترار المناخ إلى النصف من الآن وحتى عام 2050. وهذا من شأنه أن يجعل هدف درجة الحرارة الطموح الذي أقرته اتفاقية باريس للمناخ على المدى الطويل، وهو 1.5 درجة مئوية، قابلاً للتحقيق.
وعموماً، حتى الإغلاق المطول سيكون له تأثير ضئيل للغاية على المناخ العالمي، لكن جائحة كورونا أتاحت لنا الفرصة للتوقف والتفكير ملياً بأنه بدون اتخاذ إجراءات عالمية حقيقية، فإن التغير المناخي سيصل إلى مستوياتٍ خطرة ومدمرة. كما يسلط عملنا الضوء أيضاً على المنفعة العامة من إتاحة جوجل وآبل لبياناتهما بشكلٍ أكبر، وينبغي ألّا يتوقف ذلك مطلقاً.
هل نعود إلى الوضع السابق، أم سنغتم الفرصة التي أمامنا لتحقيق انتعاشٍ اقتصادي يكون صديقاً للبيئة أكثر يمكنه معالجة الآثار المدمرة المزدوجة لأزمتي جائحة كورونا والتغير المناخي؟ في الوقت الذي يُطلب فيه من الدول تحديث طموحاتها بشأن المناخ بحلول نهاية عام 2020، فلنحرص على أن تتخذ الحكومات الخيارات الصحيحة، وأن تضع صحة الكوكب وصحة الناس على رأس قائمة أولوياتها.