هذا المقال محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً
تُعد مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها هي وكالة الصحة العامة الأميركية الأولى والرائدة منذ تأسيسها في 1 يوليو/ تموز عام 1946. وهي مسؤولة عن الحفاظ على صحة المواطنين، وتعزيز ممارسات الصحة العامة القائمة على الأدلة العلمية، وإجراء الأبحاث حول مختلف الأمراض وطرق الوقاية منها. يثق الناس في الولايت المتحدة والعالم فيها ثقة مطلقة للحصول على معلوماتٍ دقيقة حول مختلف القضايا الصحية التي تهمهم.
لكن الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها دفعت بالعديد من العاملين في مجال الصحة العامة إلى التشكيك في نزاهة قيادتها، لافتقارها للأدلة العلمية التي تدعمها، وخضوعها للضغوط السياسية. لقد أضرت الإجراءات الأخيرة بالفعل بجهود قطاع الصحة العامة، وأدت إلى إرتباك وعدم ثقة الناس بها بشكلٍ عام.
بصفتي اختصاصية في علم أوبئة الأمراض المعدية، فقد قضيت معظم حياتي المهنية -سواء الأكاديمية أو في قطاع الصحة العامة- في دراسة كيف تصيب الفيروسات الناس، وطريقة اختبار السكان لتحديد مستوى انتشار العدوى والمناعة لديهم. يمكنني القول أن تسييس (مرتبطة بالسياسة أو تخضع لها) النصائح الصادرة عن مراكز السيطرة على الأمراض، هو أمرٌ مزعج حقاً ومقلق.
كانت آخر التوصيات غير المستندة إلى الأدلة العلمية، وأكثرها فظاعةً تغيير التوصية لمن ينبغي اختباره للكشف عن فيروس كورونا. إليك تفاصيل ما حدث، ولماذا يعتبر ذلك مهماً ليس فقط بالنسبة لخبراء الصحة العامة، بل لعامة الناس أيضاً.
الاختبارات هي مفتاح احتواء الفيروس
في الواقع، علم خبراء الصحة العامة الكثير عن فيروس كورونا المستجد منذ ظهوره لأول مرة. على سبيل المثال، أصبحنا نعلم أن نحو 4 أشخاص من أصل 10 لا تظهر لديهم الأعراض مطلقاً، ولكن يمكنهم نقل العدوى للآخرين دون علمهم. بالإضافة إلى لك، يمكن للأشخاص المصابين الذين تظهر عليهم الأعراض أن ينشروا العدوى قبل يومٍ أو يومين من ظهورها. يبين هذان السببان مدى صعوبة احتواء الفيروس فعلاً.
وتشير الدلائل إلى أن الاختبار واسع النطاق الذي يشمل الأشخاص بدون أعراض من شأنه أن يقلل بشكلٍ كبير من انتشار الفيروس؛ عن طريق قيام الحاملين للفيروس بعزل أنفسهم ببساطة. يمكن تحديد المخالطين لتلك الحالات بدون أعراض واختبارها أيضاً. كانت تلك توصية مركز السيطرة على الأمراض منذ أن أظهرت الدراسات إمكانية نشر المصابين بدون أعراض للعدوى.
بعد ذلك، غير مركز السيطرة على الأمراض في 24 أغسطس/ آب 2020 إرشاداته وأوصى باختبار الأشخاص الذين تظهر لديهم أعراض المرض فقط. وهو الأمر الذي صدم العديد من خبراء الصحة العامة، لأن هذه التوصية من شأنها تضييع فرصة اكتشاف نصف المصابين تقريباً.
بعد يومين من تغيير الإرشادات على موقع مركز مكافحة الأمراض، أوضح المدير «روبرت ريدفيلد» أنه يمكن اختبار الأشخاص الذين كانوا على اتصال بحالاتٍ مؤكدة أو بدون أعراض حتى لو لم تظهر عليهم الأعراض. ولكن كان هذا الحال في السابق.
لقد عززت الإرشادات المعدلة على موقع مركز مكافحة الأمراض الارتباك الحاصل، ولم تتغير حتى تاريخ كتابة هذه السطور في 31 أغسطس/آب. وقد أعلنت ولايات أريزونا وكاليفورنيا وكونيتيكت وفلوريدا وإلينوي وتكساس ونيوجيرسي ونيويورك أنها لن تتبع إرشادات الاختبار الجديدة الصادرة من المركز، مما يُظهر إدراكهم لأهمية الاختبارات أكثر من مركز مكافحة الأمراض.
ما هو موقف فوتشي؟
جاءت هذه التوصية الجديدة من فريق عمل البيت الأبيض المعني بالتصدي لفيروس كورونا، ووافق عليها مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها. لكن الدكتور «أنتوني فوتشي»، عضو فريق العمل ورئيس المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية، كان يخضع لعملية جراحية على أحباله الصوتية في أثناء اجتماع فرقة العمل في 20 أغسطس/ آب، واتخاذها قراراً بتغيير التوصيات.
وقد أوضحت جمعية الصحة العامة الأميركية إلى أن التغيير تمّ دون التشاور عملياً مع متخصصي الصحة العامة العاملين على الأرض للسيطرة على الوباء. بينما ما تزال منظمة الصحة العالمية توصي باختبار المصابين بدون أعراض، وتقوم معظم المنظمات الصحية عبر العالم تقريباً بنفس الأمر.
في الواقع، كان التحديث الأخير محيراً بالفعل، لأن عدم الوصول إلى الاختبار في الوقت المناسب كان دائماً مشكلةً خطيرة تعيق السيطرة على الوباء.
لا توجد أعراض.. ليس لديك فيروس؟
سيفتقر علماء الأوبئة إلى معلوماتٍ مهمةٍ دون الحصول على بيانات الاختبارات، حيث لن يتمكنوا من معالجة الجائحة دون أن تكون لديهم صورة كاملة تحتوي عدد الأشخاص المصابين في المجتمع، وكيفية انتقال الفيروس.
إن تحديد أولئك الذين قد تعرضوا للفيروس هو الأساس المنطقي الكامل لتتبع المخالطين، والذي ينطوي على العثور على الحالات، وتحديد المخالطين الذين قد يكونون مصابين بالعدوى وحجرهم ذاتياً، واختبارهم للكشف عن الفيروس. من الواضح أن الاختبارات هي أساس السيطرة على انتشار الأمراض المعدية.
يبدو أن الفكرة تقوم على مبدأ أن التقليل من عدد الاختبارات سيخفّض عدد الحالات.
من الواضح أن هذا لا يصح إلا في سياق السياسات. نعم، سينخفض عدد الحالات المبلغ عنها، لكن لن ينخفض عدد المصابين. إذا لم نحدد المصابين بدون أعراض وبقوا دون علمٍ بإصابتهم، سيتفاقم انتشار الفيروس حتماً.
لقد قال ترامب إنه «يحب الأرقام حيث هي»، وقال في تجمّع انتخابي في تولسا إنه سيطلب من فريقه «تقليل الاختبارات».
سجالٌ مستمر
كان مركز السيطرة على الأمراض محوراً للتجاذبات السياسية عدة مراتٍ خلال هذه الجائحة. في مايو/ أيار الماضي، أضاف مركز السيطرة اختبارات الأجسام المضادة، والتي تكشف عن الإصابة بالفيروس سابقاً، إلى اختبار «بي سي آر» الذي يكشف عن الإصابة الحالية. مما أوحى بأننا قمنا بإجراء المزيد من اختبارات الكشف عن الفيروس أكثر من الواقع.
وفي يوليو/ تموز، اختفت بيانات الإبلاغ عن الإصابات والوفيات خلال الجائحة من على موقع مركز مكافحة الأمراض، والتي طالما استخدمتها الإدارات الصحية والباحثون في جميع أنحاء العالم للنظر في حالة الوباء، حيث تولت شركة خاصة الإبلاغ عن الحالات حينها. لكن ما لبثت أن عادت هذه البيانات إلى الظهور على موقع مركز مكافحة الأمراض بعد بضعة أيام، مما أثار مخاوف حول قدرة المركز على جمع هذه البيانات وتحليلها.
I disagree with @CDCgov on their very tough & expensive guidelines for opening schools. While they want them open, they are asking schools to do very impractical things. I will be meeting with them!!!
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) July 8, 2020
وفي إحدى المرات، ضغط البيت الأبيض على مركز السيطرة على الأمراض لتعديل إرشاداته حتى توحي بإمكانية إعادة فتح المدارس بأمان. وقد قامت بذلك بالفعل رغم أن المبادئ التوجيهية الجديدة لم تعكس المعارف والأدلة العلمية الحالية مرة أخرى.
العالم الآن في ذروة أسوأ وباء منذ أكثر من قرن. تبلغ نسبة سكان الولايات المتحدة 4.4% من سكان العالم، ولكن لديها 24% من إجمالي الإصابات على مستوى العالم. يبدو واضحاً اننا لا نقوم بعملٍ جيد، وبان جهودنا للسيطرة على الفيروس باتت تفتقر إلى الثقة بإرشادات مركز السيطرة على الأمراض بعد أن قامت بتغييرها عدة مرات، ولا عجب أن الناس مرتبكة بشأن ما يجب عليهم فعله.
إذا لم يعد بإمكاننا الثقة بنصائح وإرشادات مركز السيطرة على الأمراض، فإن ذلك لن يضر بجهودنا للسيطرة على الجائحة الحالية فقط، بل ستثير لدينا المخاوف من الجوائح في المستقبل.
قبل بضعة أسابيع، سألني أحد المتصلين في برنامج إذاعي عما إذا كان بإمكاننا الوثوق بالمعلومات الواردة من مركز السيطرة على الأمراض. لم أفكر مطلقاً في أنني قد أكون في موقفٍ لا يمكنني الإجابة فيه بـ «نعم» الحاسمة على مثل هذا السؤال. عندما تطغى السياسة على العلم، لا يعود بمقدور الصحة العامة تحقيق رسالتها، وسيعاني الجميع.