أثبت العلم دائماً أنه وسيلة يمكن الاعتماد عليها للإجابة على جميع تساؤلاتنا المتعلقة بالعالم المادي. وبصفتي عالماً، فإنني دائماً ما أتسائل: هل قدرة العلم على إعطاء الأجوبة غير محدودة؟ هل يمكنه الإجابة على جميع أسئلتنا الوجودية الكبيرة التي تخطر في بالنا؟
علينا في البداية تحديد ما المقصود بالأسئلة الكبيرة. في رأيي يمكن تقسيمها إلى فئتين. تتضمن الفئة الأولى الأسئلة التي تخطر في بالنا كبشر، والتي غالباً ما تستند إلى استقراءٍ غير مبرر للتجربة الإنسانية. وتشمل أسئلةً عن هدف وغاية وجودنا، والمخاوف حول فناء النفس؛ مثل لماذا نحن هنا؟ وما هي صفات الروح؟ في الواقع، هذه الأسئلة ليس لها معنى، لأنها لا تستند إلى أي أدلة أو حقائق تدعم فكرتها. وبالتالي، وبالنظر لعدم وجودٍ دليل على وجود هدفٍ للكون، فلا فائدة من محاولة فهم غاية وجوده أو استكشاف آثار هذه الغاية المزعومة. وبما أنه لا يوجد دليل على وجود الروح (إلا بالمعنى المجازي)، فلا جدوى من إهدار الوقت في التساؤل عن خصائصها لأنها مفهوم غير مثبت أو حقيقي. في الواقع، محاولة الإجابة عن معظم أسئلة هذه الفئة هي إهدار للوقت نظراً لعدم مقابلتها المنطق العقلاني.
الفئة الثانية من الأسئلة الكبيرة تتعلق بخصائص الكون التي يوجد لها دليل حقيقي بخلاف التكهنات التي تحقق الرغبات والتحفيز الذي توفره دراسة النصوص المقدسة. مثل الأسئلة حول نشأة الكون، وخصوصاً لماذا يوجد شيء بدلًا من لا شيء، أو ما هي علة وجود الكون؟ وتفاصيل بنيته (خاصة القوة النسبية للقوى الأساسية ووجود الجسيمات الأولية)، بكلامٍ آخر، من أين جاءت كل تلك النجوم والكواكب؟ ومن أين جئنا؟ أليس من الأيسر والأسهل ألا يوجد أي شيء على الإطلاق؟ بالإضافة للأسئلة المتعلقة بطبيعة الوعي. جميع هذه الأسئلة كبيرة وذات معنى، وبرأيي مفتوحة لتفسيرها علمياً.
تبدأ الفئة الأولى من الأسئلة بكلمة «لماذا» السببية عموماً، ولكن ليس دائماً. بينما تبدأ أسئلة الفئة الثانية بكلمة «كيف» التي تسأل عن الطريقة. ولكن كي نتجنّب مشاكل اللغة المُستخدمة التي لا تغير في السياق، غالباً ما تبدأ أسئلة الفئة الثانية بـ «لماذا» لتسهيل الخطاب. وبالتالي فإن السؤال «لماذا يوجد شيء بدلاً من لا شيء؟» يعبّر عن نفس السؤال «كيف نشأ شيء من لا شيء؟». يمكن دائماً تفكيك أسئلة «لماذا» إلى أسئلةٍ متسلسلة من أسئلة «كيف»، وهي من حيث المبدأ جديرة بالاهتمام مع توقع الإجابة عليها.
أقبل أن ينتقدني البعض في أنني أستخدم الاستدلال أو المنطق الدائري في حديثي، أي قولي بأن الأسئلة الحقيقية الكبرى هي تلك الأسئلة التي يمكن الإجابة عليها علمياً، أي أن العلم قادر على تقديم الإجابة عن هذه الأسئلة، بينما يترك الأسئلة المُخترعة جانباً. ربما يكون الأمر كذلك. عموماً الأدلة متاحة للجميع، ويمكنها التمييز بين فئتي الأسئلة، وأساس العلم هو الدليل والبرهان.
العلم يشبه «مايكل أنجلو» الذي أظهر براعته في النحت من خلال نحت تمثال «بيتتا» الساحر في الفاتيكان. وبعد اكتساب مهاراته وأظهرها للعلن، تحرر من التقاليد وخلق تجربته الفنية الخاصة العبقرية والاستثنائية. والعلم سار في طريقٍ مماثل، فخلال 4 قرونٍ من السعي الجاد بدءاً من جاليليو، عند امتزاج الأدلة بالرياضيات، وظهور العديد من المفاهيم والإنجازات العظيمة، اكتسب العلم النضج وأصبح قادراً على الإجابة على الأسئلة المعقدة أكثر من ذي قبل. في الواقع، أدى ظهور العمليات الحسابية الناجمة عن الكشف عن نظرياتٍ جديدة، واكتشاف الأنماط في مجموعات البيانات الضخمة إلى توسيع نطاق التفكير العقلاني، وإثراء المنهج العلمي كثيراً بسبب زيادة استخدام المنطق التحليلي.
أصبح العلم، في وقتنا الحالي، يمتلك ترسانة ثلاثية مكونة من الملاحظة والتحليل والحاسوبية، وباتت جاهزة لمهاجمة الأسئلة الكبرى الحقيقية إن جاز التعبير. وهي وفقاً للترتيب الزمني: كيف بدأ الكون؟ وكيف نشأت الحياة من المادة؟ و«كيف نشأ الوعي في المادة الحية؟». عند فحص هذه الأسئلة وتحليلها بعمق، سيتولّد عنها العديد من الأسئلة الأخرى، مثل -بالنسبة للسؤال الأول- كيف وُجدت القوى الأساسية والجسيمات الأولية؟ وبالتالي، ما هو مصير الكون في المستقبل البعيد؟ وكيف اتحدت ميكانيكا الكم مع الجاذبية؟
ولا يشمل السؤال الثاني كيفية الانتقال من المواد غير العضوية إلى العضوية فحسب، بل يشمل أيضاً تفاصيل تطور الأنواع وفروع البيولوجيا الجزيئية. أما السؤال الثالث فيشمل طبيعة الحكم الجمالي والأخلاقي أيضاً، بالإضافة إلى الأسئلة حول قدرتنا على التفكير والإبداع. في هذا الصدد، لا أرى أي سبب يمنع استخدام المنهج العلمي للإجابة على سؤال سقراط، أو على الأقل إلقاء الضوء عليه، وهو «كيف يجب أن نعيش؟» وذلك من خلال الاستعانة بما يُسمى أنصاف العلوم (كالعلوم الاجتماعية)، مثل الأنثروبولوجيا وعلم الأخلاق والنفس، والاقتصاد.
يظهر المنطق الدائري هنا مجدداً، لأنه من الممكن تصور أن حدود العقل البشري تمنع الفهم الكامل لنسيج الواقع، الأمر الذي يعود بنا إلى السؤال الأول. ونشهد الآن بالفعل بعض الإشارات من ميكانيكا الكم، والتي تُعتبر بعيدة كل البعد عن التجربة الفلسفية الشائعة، حول علاقة الدماغ البشري بفيزياء الكم.
تعتمد الطريقة العلمية على التفاؤل في أن فهم وإجابة الأسئلة الكبرى ستأتي بعد الصبر والجهد والتعاون غالباً. لقد كان هذا هو الحال دائماً في الماضي، ولا يوجد سبب للاعتقاد بأن هذا التفاؤل في غير محله الآن. بالطبع سنحتاج إلى بعض الوقت. ربما نتوه بعض الوقت عن الوصول إلى الحقائق، ولكن الحقيقة ستظهر أمامنا يوماً ما. ربما ستأخذنا الاكتشافات الجديدة في ميكانيكا الكم والنسبية في اتجاهاتٍ لا يمكن تخيلها حالياً. قد نجد أن الكون بدأ بطريقةٍ حسابية بسيطة، لكنه ما لبث أن أصبح بهذا الاتساع الهائل المعقد. أو ربما نترك مهمة فهمنا للوعي لأجهزة الذكاء الاصطناعي التي اعتقدنا أنها ليست سوى آلاتٍ لمحاكاته. ربما سيتمكن الذكاء الاصطناعي الذي سنبنيه في المستقبل من الإجابة عن السؤال: كيف نشأ شيء من لا شيء؟
في النهاية، أعتقد أنه لا يوجد شيء لا يستطيع المنهج العلمي تفسيره. يجب أن نكون سعداء خلال رحلة العقل البشري الجمعي في المشروع الذي نسميه العلم.