إنه ليس علاجاً تتوقع الحصول عليه في المشفى: علقة سوداء لزجة وعطشة تُلتقط بالمبضع من سطل، وتوضع على بشرتك مباشرة.
لكن أحياناً، يوصي الأطباء باستخدام العلق بالفعل، مما يثير استياء بعض المرضى على الأرجح.
يقول فيشال ثانيك، جراح تجميلي في مشفى بلفيو في مدينة نيويورك ومركز لانجون الطبي في جامعة نيويورك: «العلق متوافر دائماً للاستخدام. إذا رأيت علقة من قبل، فهي غريبة الشكل. وإذا لم تضطر من قبل لاستخدامها، فستكون مرعبة. يشبه الأمر السفر عبر الزمن إلى حدٍ ما».
تاريخ العلق في العلاج
هذه الديدان الشبيهة بالتنانين لها دور تاريخي في الطب. ويعود أول استخدام دوائي لها إلى العلاجات المصرية القديمة لأسباب مثل نزيف الأنف والنِقرِس (تحتوي السجلات الطبية الصينية والعربية واليونانية القديمة، والرومانية على إشارات للعلاج بالعلق). في القرون التالية، استخدم الأطباء قدرات مص الدماء الخاصة بالعلق في محاولة علاج أي شيء من البواسير إلى الصداع، الاكتئاب، وحتى العمى.
في أوروبا القرن التاسع عشر، كان العلق الطبي شائع لدرجة أنه جُمّع حتى أصبح قريباً من الانقراض. لكن حينما تخلّى الطب عن الفكرة القائلة بأن معظم الأمراض سببها وجود فائضٍ من الدم (وهي نظرية غالباً ما كانت تنص على إراقة الدماء من قبل الأطباء، أو مساعديهم من الكائنات الماصة للدماء، أصبح العلاج بالعلق أقل رواجاً).
على الرغم من علاقة العلق التاريخية بالتدجيل الطبي، إلا أن له بالفعل مكانة مستحقة في الطب الحديث كشكل من عمليات نقل الدم العكسية التي تُطبّق في حالات عدم توازن التروية الدموية. وفي حين أن الأطباء القدماء ظنوا بأن العلق يعالج الصرع، وحتى الكدمات الكبيرة. فالاستخدام المعاصر للعلق محدود غالباً على الجراحين المجهريين الذين يعيدون وصل أجزاء من الجسم؛ مثل أصابع الأيدي والأرجل والآذان والشفاه والأنوف، وحتى أقسام من فروة الرأس.
كانت إحدى أولى المرات التي استُخدم فيها العلق بهذه الطريقة في 1985 على طفل يبلغ الخامسة من العمر قٌطعت أذنه بسبب عضة كلب. وبعد بضعة أيام من إعادة وصل الجزء المقطوع «تلون الجزء بلون أزرق مسودّ بسبب احتباس الدم»، وفقاً لتقرير من موقع جريدة نيويورك تايمز. بعد فشل الجهود الهادفة إلى التخلص من الدم المحتبس في الأذن عن طريق مضادات التخثر والجروح الصغيرة، وضع جوزيف أبتن، وهو طبيب في جامعة هارفارد، علقتين على الأذن مما جعلها «تنتعش مباشرة» بعد 20 سنة، وفي عام 2005، وافقت إدارة الغذاء والدواء الأميركية على العلق كأداة طبية للاستخدام في العمليات الجراحية التجميلية (مما جعل العلق -إلى جانب يرقات الحشرات- أول كائنات حيّة توافق الإدارة على استخدامها دوائياً).
على الرغم من أن الإحصائيات التي تبين الاستخدامات الطبية للعلق نادرة، إلا أن الجراحين التجميليين يفيدون بأن هذه الاستخدامات لها منافع لا ريب فيها. وذلك طبعاً عندما يتمكن موظفوا المشافي والمرضى التغلب على شعور الغثيان الذي يولده استخدام هذه المخلوقات الغريبة الماصة للدماء بشكلٍ مباشر على المرضى.
يقول باتريك ريفي، أستاذ مساعد في الجراحة التجميلية في مركز روشستر الطبي في مدينة نيويورك: «ينصدم المرضى عادة من هذا العلاج في البداية. لا اعتبر نفسي سريع التحسس، لكن العلق مخيف قليلاً. وهو فظيع فعلاً، في النهاية، نحن نتحدث عن العلق هنا».
معظم الأطباء اليوم، حتى هؤلاء الذين يقومون بعملياتٍ جراحيةٍ ترميميةٍ بشكل اعتيادي، لن يصادفوا أية علقة. لكن الجراحين التجميليين مدربين على الأقل على استخدام العلق في بعض الحالات. وذلك وفقاً لعدنان برسيك، أستاذ مساعد في الجراحة التجميلية والترميمية في مدرسة جامعة ييل للطب.
يقول برسيك: «على الأرجح أننا الاخصائيين الوحيدين الذين نستخدم العلق، كما أننا استخدمنا هذه المخلوقات لزمن طويل».
على عكس عمليات ترقيع الجلد (والتي ينقل فيها الجراح شريحة من الجلد من منطقة من الجسم لأخرى) تتضمن هذه العمليات الترميمية إعادة وصل عدة طبقات من الأنسجة، وإعادة توصيل الأوعية الدموية التي يبلغ قطرها 1-3 مم تحت المجهر باستخدام خيوط أرق من الشعر.
تقول ريتشل لفيفر، طبيبة متخصصة في جراحة تقويم عظام اليد وأستاذ مساعد في مدرسة كيك للطب في جامعة جنوب كاليفورنيا: «العلاج بالعلق عملية دقيقة للغاية».
كيف يقوم العلق بالعلاج؟
لإعادة وصل اصبع مقطوع مثلاً، يجب على الجراح أن يثبّت العظام ببعضها باستخدام أوتاد، ويوصل الأوتار والأعصاب المقطوعة، ويصلح التروية الدموية الوعائية، ويخيط الجلد بشكل صحيح. في بعض الحالات، الشرايين الموصولة حديثاً تمرر كمية أكبر من الدم إلى الإصبع يمكن أن تُضخ لخارجه عن طريق الأوردة الموصولة حديثاً. مما يسبب انتفاخ الأصابع وتلونها بالبنفسجي. هذا اللاتوازن في تدفق الدم يمكن أن يعيق تعافي الإصبع. وفي بعض الحالات، يسبب فشل العملية.
يقول ريفي: «يجب أن يُخرج الدم من هذا الإصبع، بطريقة أو بأخرى، العلق يعمل بشكلٍ جيد هنا».
لذا، ففي هذه الحالات، يضع الأطباء أو الممرضون علقة على طرف الإصبع المُحتقن لإزالة الدماء منه. وذلك وفقاً لثانيك، الذي أضاف أنه يجري هذه العملية عادة خلف ستارة للتهوين على المرضى. حينما تَغرس العلقة أسنانها الـ 300 في الجلد وتبدأ بالتغذّي، يمكنها أن تهضم ما يصل إلى 15 مل (حوالي ملعقة صغيرة) من الدم خلال حوالي 40 دقيقة. وحسب ليفيفر، عندما تشبع العلقة، فإنها تسقط بهدوء.
تقول ليفيفر: «يوحي العلق بأنه مخيف قليلاً، لكن بالنسبة لي، فهي كائنات رائعة».
فوائد العلاج بالعلق
العلاج بالعلق لا يقتصر على امتصاص الدم. إذ أن لعاب العلق يحتوي على مختلف المركبات النشطة حيوياً مثل مضادات التخثّر، المواد المخدّرة، مضادات الهيستامين وموسعات الأوعية. يقول برسيك: «يفرز العلق هذه المواد الشبيهة بالأدوية».
خارج المشافي، هذه الإفرازات تضمن أن أية حيوان تتعلق فيه العلقة لن يشعر بعضّتها. مما يسمح لها بأن تتغذى دون أية إزعاجات. لكن في عيادة، توفر هذه الكائنات فوائد إضافية. تقول ليفيفر: «عادة لا تسبب العملية أي ألم للمرضى، حتى وإن كانوا خائفين قليلاً. هناك بعض من مرضاي يطلقون أسماء على العلقات ليشعروا بارتياح أكبر اتجاه التعامل معها».
يقول ريفي: «يعتقد الناس أن العلقة ستشرب طناً من الدماء أو أنها ستكون مؤلمة للغاية. تجعلك العلقات تتذكر طب العصور الوسطى. لكن من الصعب التغلب على التطور، إذ أن العلق تكيّف حتى ينجز هذا العمل بالتحديد، وهو ماهر جداً فيه».
مخاطر العلاج بالعلقهجوم من قبل العشرات من العلقات الطبية الأوروبية الجائعة، «هيرودو ميديسيناليس»، أثناء الخوض في بركة صغيرة من الأعشاب الضارة. لم يكن من الممكن التوصية بملابس السباحة هنا، مثل هذه الكثافة من العلقات هو أمر غير معتاد تماماً في أوروبا الوسطى، فقد أصبحت العلق الطبية من الأنواع النادرة في البرية.
أحد هذه المخاطر، بحسب ثانيك، هو أن الاستخدام المطول للعلق يزيد احتمال الحاجة لعملية نقل الدم (إذ أنك تخسر الكثير من الدم). بما أن العلقات تعتمد على مستعمرات من البكتيريا داخل أمعائها لهضم الدم، فمن الممكن أن يصاب الناس الذين عولجوا باستخدام العلق بعدوى بكتيرية. أفادت بعض الأوراق البحثية الحديثة بازدياد مقاومة نوع من البكتيريا اسمه الهوائية القَؤوبة للمضادات الحيوية. وهو يوجد في العلق، كما أنه السبب الأكثر رواجاً لحدوث العدوات. في إحدى الدراسات الرجعية التي دامت 5 سنوات، وجد الباحثون أن العدوات حدثت عند حوالي 4% من الأشخاص الذين تلقوا العلاج بالعلق. تضمنت الأغلبية الساحقة من الـ 20% من الحالات السلبية المتعلقة بالعلق والتي بُلّغ عنها لإدارة الغذاء والدواء منذ 2004 عدوات تلت العلاج بالعلق، أو الكشف عن وجود البكتيريا الهوائية القؤوبة في مخازن المشافي عن طريق أطقم العمل.
احتمال الإصابة بالعدوى هو أحد الأسباب التي تجعل أخصائيي الرعاية الصحية يوصون المرضى الذين تلقوا العلاج بالعلق بتناول مضادات حيوية كإجراء وقائي (وذلك لأنك لا تستطيع تعقيم العلقات كما تعقم المبضع مثلاً).
في شهر مايو/ آيار 2018، نشر ثانيك وزملائه في مركز لانجون الصحي في جامعة نيويورك دراسة تستعرض أفضل الاستخدامات الأخرى للعلق في الجراحة الترميمية عن طريق تحليل 201 عملية زرع أصابع أُجريت على مدار 8 سنوات. وبعد تحديد نتائج مئات الحالات بدقة، وجد الباحثون أن مدة العلاج بالعلق المثالية هي 4.5 يوم. واقترحوا أن يلتزم المعالجون بقاعدة عامة تنص على العلاج لـ 5 أيام.
الورقة الأخيرة هي واحدة من عدة أبحاث نُشرت في السنوات الأخيرة، ونظرت بشكلٍ مراجعيّ في دراسات الحالات بهدف توحيد معايير العلاج بالعلق. حالياً، لا يوجد إجماع في المجتمع الطبي حول مدة العلاج، أو عدد العلقات التي يجب استخدامها.
يقول برسيك: «هذا أحد الأشياء التي لم ننجزها: لا توجد دراسات جادّة حول هذا. لا يمكن تعشية هذه العمليات الجراحية، لذلك فنحن نعتمد على الأدلة التي نملكها». يقول ثانيك أنه يأمل في أن تساعد أبحاثه في إرشاد الأطباء الذين تُعرض عليهم حالات يكون فيها العلاج بالعلق مفيداً، ولكن ليس معيارياً.
حالياً، استخدام العلق رائج أكثر في مشافي التدريس ومراكز الاهتمام بضحايا الصدمات مثل مستشفى بلفيو، حيث تكون عمليات إعادة الزرع وإعادة الترميم اعتيادية أكثر. وجد تحليل من جامعة ميشيغان لحوالي 15000 شخص فقدوا أصابعهم في الفترة بين 2001 و 2014 أن عدداً متزايداً من الحالات نُقلت إلى مستشفيات التدريس المدينية. في هذه المستشفيات، أصبح المرضى أكثر عرضة بما يتجاوز المرتين لأن تنجح عمليات إعادة توصيل أصابعهم (بمعدل نجاح وسطي بلغ حوالي 80%). بينت الورقة أيضاً أن الأشخاص الذين يملكون تأميناً صحياً من شركة خاصة، أو أولئك الذين دخولهم أعلى كانوا عرضة أكثر للخضوع لعملية إعادة زرع الأصابع.
بنفس الروح، حلل ريفي وثانيك وآخرين عام 2018 عشرات آلاف حالات بتر الأصابع التي وقعت بين سنتي 2000 و2011 باستخدام معلومات استخرجت من قواعد بيانات دولية. عبر كل السنين، وجد الباحثون أن معظم المشافي التي أجرت عمليات إعادة وصل الأصابع فعلت ذلك مرة كل سنة. كما وجدوا أن عدد هذه المشافي انخفض من 120 إلى 80 فقط بعد عقد من الزمن. يُجري عدد قليل من المستشفيات أكثر من 10 عمليات إعادة توصيل للأصابع كل سنة. وذلك وفقاً للباحثين.
يقول ثانيك: «ضمن العديد من المشافي، يُستخدم العلق مرة أو ولا مرة كل سنة». وحتى في المشافي التي يطبق فيها الجراحين التجميليين العلاج بالعلق، ينظر الجراحون إلى هذا العلاج كحلٍ أخير لينقذوا أحد المرضى من أن يفقد أحد أصابعه أو أذنيه بشكل كامل. مثالياً، لن يؤول الأمر لذلك أبداً، ولكن إذا حدث هذا، فتقول ليفيفر أن العلاج بالعلق هو خيار مفيد.
تقول ليفيفر: «هناك مشاكل جراحية لا أستطيع حلها، وهناك مخلوق يستطيع ذلك. عندما أفشل، فالعلق يمثل حلاً ممتازاً بشكل لا يصدق». وكما يشير ريفي بحرص، فالعلاج بالعلق لا يناسب هذه المخلوقات، يقول: «الجانب السلبي من ناحية العلق هو أن العملية تسلبها حياتها في النهاية».
هذا المقال محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً