عندما وصلت عمليات الإغلاق إلى ذروتها بسبب جائحة فيروس كورونا في وقتٍ سابق من العام، أظهرت البيانات الآتية من العديد من الدول أن هذه القيود كان لها فائدة غير مقصودة؛ حيث أدت إلى انخفاض نسبة تلوث الهواء. فقد أبلغ الباحثون في الصين وأوروبا والولايات المتحدة عن انخفاضات هائلة في ملوثات الهواء. لم يكن من الواضح حينها ما أثر ذلك على انبعاثات الكربون العالمية.
يشير مشروع الكربون العالمي الآن، وهو فريق بحثي دولي يعد تقارير منتظمة عن غازات الاحتباس الحراري، أن عمليات الإغلاق والقيود المختلفة المستخدمة للحد من انتشار الفيروس كان لها تأثير كبير على انبعاثات الكربون الأحفوري، إذ انخفضت نسبة الانبعاثات بنسبة 7% مقارنةً بالعام الماضي.
يقول «روب جاكسون»، عالم الأرض بجامعة ستانفورد ورئيس مشروع الكربون العالمي، إن هذا الانخفاض غير مسبوق من حيث النسبة المئوية وكميته الإجمالية. ويضيف: «أعتقد أنه من المحتمل أنه أكبر انخفاض في الانبعاثات على الإطلاق، إنه يعادل إخراج حوالي 500 مليون سيارة من طرق العالم لمدة عام».
تحدد المجموعة كمية الكربون المنبعثة من المصادر الرئيسية كل عام، مثل الكميات الناجمة عن إنتاج الطاقة والعمليات الصناعية وإزالة الغابات وقطاع النقل. ويأخذون بعين الاعتبار في حساباتهم المصادر التي تستهلك الكربون، مثل المحيطات والتربة والغطاء النباتي، والتي تمتص ما أكثر قليلاً من نصف ثاني أكسيد الكربون الناتج عن نشاط الإنسان. وبالتالي يمكن للباحثين تقدير الكمية الصافية من الانبعاثات التي تبقى في الغلاف الجوي.
ستصل كمية الانبعاثات الفائضة هذا العام إلى حوالي 40 مليون طن متري، أي أقل من كمية الانبعاثات في العام الماضي والتي بلغت 43 مليار طن متري. في الواقع، كانت الانبعاثات تتزايد سنوياً قبل هذا العام، فرغم أن معدل تلوث الكربون قد تباطأ في السنوات الأخيرة قليلاً، إلا أن طريقة معالجة هذه الانبعاثات للحد من التغير المناخي ما تزال تسير في الاتجاه الخطأ.
بالرغم من أن انبعاثات هذا العام تُعتبر شاذة عن الاتجاه المتصاعد للانبعاثات، إلا أنها ما تزال تمثل زيادة للكربون في الغلاف الجوي. فقد تسبب البشر بزيادة تركيز غاز الكربون في الغلاف الجوي بمقدار 2.5 جزءاً في المليون في عام 2020، ليبلغ متوسط تركيزه 412 جزءاً في المليون حالياً. لقد كان تركيز الكربون في الغلاف الجوي قبل الثورة الصناعية 227 جزءاً بالمليون، وفي الواقع، فإن مناخنا لن يتوقف عن الاحترار ما لم نتوصل إلى وقفٍ شبه كامل لتلوث الكربون.
أتى معظم الانخفاض هذا العام من انخفاض نشاط قطاع النقل بشكلٍ حاد، حيث وصلت نسبة الانخفاض إلى 50% في ذروة تطبيق إجراءات الإغلاق. كما تراجع نشاط قطاع الصناعة، مثل صناعة الإسمنت التي تلوث الغلاف الجوي بشدة. وترافق تباطؤ قطاع الصناعة مع تباطؤ نشاط توليد الطاقة، مما ساهم في انخفاض انبعاثاته أيضاً.
ويظهر انخفاض الانبعاثات بوضوحٍ أكثر في الولايات المتحدة، حيث من المتوقع أن تنخفض انبعاثات عام 2020 بنسبة 12% مقارنة بعام 2019. بينما سيبلغ الانخفاض في أوروبا حوالي 11%، والهند بنسبة 9%. أما في الصين، فقد عاد النشاط الاقتصادي إلى مستواه السابق قبل قيود الإغلاق، لذلك ستنخفض نسبة الانبعاثات منها بنسبة 1.7% فقط.
يعتبر البعض أن انخفاض الانبعاثات بنسبة 7% مخيبةٌ للآمال بعض الشيء بالنظر إلى التغييرات الجذرية التي طرأت على الكثير من مناحي حياتنا هذا العام. فرغم بقاء الملايين في منازلهم ومتابعة أعمالهم عن بعد، لا يزال ارتفاع نسبة الكربون الغلاف الجوي كبيراً. يقول دانييلي بيانكي، عالم المحيطات الذي يدرس دورات الكربون في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، وغير المشارك في تحليل ميزانية الكربون:” يمنحنا هذا الانخفاض فكرةً عن نوعية الجهود أو التغييرات المطلوب القيام بها بالفعل لتقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. بالنسبة لي، لقد صدمت من مدى التغيير الذي تحتاجه الاقتصادات لإحداث انخفاضات كبيرة في انبعاثات الكربون”.
لكن جاكسون يضيف:” لكن إلقاء نظرة فاحصة على في هذه الأرقام يظهر أيضاً أن هناك إمكانيةً لمعالجة جزءٍ كبير من انبعاثات الكربون”. لقد انخفضت الانبعاثات في ذروة الإغلاق في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، بنحو الثلث تقريباً، وتكشف هذه الأرقام عن التأثير الهائل الذي يمكن أن يحدثه التوقف عن الاعتماد على وسائل النقل العاملة على الديزل والبنزين.
الآن، ومع بدء استخدام لقاحٍ لمكافحة انتشار فيروس كورونا، من المحتمل أن تعود الأمور إلى الوضع الخطير الذي كانت عليه في السابق في عام 2021 بالنسبة للدول التي تعتمد على حرق الوقود الأحفوري لتحريك عجلة نشاطها الاقتصادي مجدداً. يشير الباحثون أيضاً إلى أنه لم يتبق لدينا فسحةٌ في ميزانية الكربون الإجمالية إذا أردنا تجنّب ارتفاع درجة الحرارة بمقدار 1.5 درجة، وهو الهدف الذي حُدّد لتجنب الكوارث المناخية. في الواقع، أمامنا أقل من 10 سنواتٍ فقط قبل أن نصل إلى الحد الأقصى من الانبعاثات إذا استمر معدل الانبعاثات الحالي بنفس السوية.
يقول جاكسون: «تعطينا هذه النتائج أيضاً فكرةً حول كيفية استغلال هذه اللحظة لتغيير الوضع الراهن إلى الأفضل. ففي الولايات المتحدة، والذي يشكل النقل البري جزءاً كبيراً من الانبعاثات فيها، يمكن للتحفيز الاقتصادي الموجه نحو الاستثمار في وسائل النقل والبنية التحتية البديلة أن يعزز الانخفاض المستمر في استخدام الوقود الأحفوري».
يضيف جاكسون: «لقد أنفقنا الكثير من التحفيز الاقتصادي على الاستثمار في طاقة الرياح والطاقة الشمسية قبل 10 سنوات، وما زلنا إلى اليوم نجني الفوائد من ذلك. لذلك سيكون السؤال الأهم الآن؛ هو ما مقدار التحفيز أو الاستثمار المطلوب الذي ينبغي أن يُنفق على الأشياء التي سيكون لها فوائد مناخية مركبة ومستدامة بدلاً من ضخ الأموال في مختلف الصناعات؟».
هذا المقال محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً