هل يمكن محو الذكريات المؤلمة بإعادة تعيين نقاط التشابك العصبي في الدماغ؟

3 دقائق
هل تريد التخلص من ذكرياتك المؤلمة؟ دراسة جديدة تمهد الطريق لعلاج الأمراض العصبية المرتبطة بالذاكرة
حقوق الصورة: شترستوك.

لدى سماعك أغنية قديمة ترافقت مع ذكرى سعيدة، تعلو وجهك ابتسامة بعد استعادتها، أما لو ارتبطت تلك الأغنية بذكرى مؤلمة فتعيد لك الذكرى بآلامها، هذا ما يُدعى بـ "الذكريات الترابطية"، وهو ما قد يتطور لدى البعض مسبباً حالة عصبية تدعى بـ "اضطراب ما بعد الصدمة". ولكن، ماذا لو كان بالإمكان القضاء على الذاكرة الأساسية التي تسبب الاستجابة الصادمة؟

قد يصبح هذا الأمر ممكناً في المستقبل القريب بعد الدراسة التي أجراها عدد من الباحثين في جامعة كاليفورنيا، ونُشرت في دورية وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم (PNAS)؛ فقد تمكنوا من التقاط صور لتكوّن الذاكرة في يرقات أسماك الزرد المخططة بعد تعديلها وراثياً، لتحديد مكان تكون الذكريات.

تكوين الذاكرة أكثر تعقيداً مما اعتقد العلماء

منذ ما يقرب القرن، اقترح العالم (سانتياغو رامون إي كاجال)، أن الذكريات تتشكل من خلال إعادة ترتيب التشابك بين الخلايا العصبية. ومنذ ذلك الحين حاول العلماء اكتشاف التغييرات المادية التي تحدث خلال تخزين الذكريات. لكن واجههم التحدي المتمثل في الصغر المتناهي لنقاط التشابك العصبي ودقّتها، بحيث لا يمكن لجهاز الرنين المغناطيسي تصويرها. علاوة على ذلك، يصعب تمييز هذه النقاط عن الأنسجة المحيطة بها.

خلال دراسة البنية التشريحية لتخزين الذاكرة في دماغ الإنسان، حدد العلماء 5 مناطق لتخزين المعلومات والذكريات وفقاً لنوعها، وهي:

  1. قشرة الدماغ الجبهية: لتخزين الذكريات قصيرة المدى.
  2. القشرة المخية الحديثة: للإدراك الحسي والمنطقي.
  3. العقد القاعدية: توجد في أعماق الدماغ وتعد مسؤولة عن التعلم اللاإرادي أو التلقائي.
  4. اللوزة العصبية: هي الجزء المسؤول عن الاستجابة العاطفية واللاإرادية، وتتميز بقدرتها على الارتباط بالذكريات.
  5. الحُصين: ضروري لتكوين وتخزين الذكريات قصيرة المدى.

اقرأ أيضاً: كيف يُنظم الدماغ ذكرياتنا؟

ركز العلماء في دراساتهم السابقة للذاكرة على القشرة المخية والحصين، في حين لم تنل اللوزة العصبية ما يكفي من البحث؛ لصعوبة الوصول إليها نسبيّاً. تعمل اللوزة العصبية على تنظيم  إدراك وتقييم العواطف والمدارك الحسية والاستجابات السلوكية المرتبطة بالخوف والقلق في الدماغ، فهي مسؤولة بشكل خاص عن الذكريات الترابطية العاطفية، كما يحدث لدى سماع الأغنية في مثالنا السابق.

في الدراسة الحديثة، تفتقر أسماك الزرد المخططة لمنطقة اللوزة العصبية، ولكنها تمتلك منطقة الباليوم المسؤولة عن الذكريات الترابطية، وهو ما جعلها مرشحة مثالية للدراسة، بالإضافة إلى أن لديها أدمغة متطورة بما يسمح لها بأداء وظائف مشابهة لدماغ الإنسان، وجلداً شفافاً في اليرقات يسمح بالرؤية خلالها.

يقول (سكوت فريزر)، عالم الأحياء الكمي في جامعة جنوب كاليفورنيا، والمؤلف المشارك للدراسة: "بينما ينمو دماغ الثدييات وينتفخ مثل البالون مع التقدم في العمر، فإن دماغ سمكة الزرد المخططة يقلب نفسه من الداخل إلى الخارج مثل نواة الفشار، لذا فإن تلك المراكز العميقة تصبح بالقرب من سطح جلد السمكة ما يمكننا من تصويرها".

اقرأ أيضاً: هل يومض شريط الذكريات قبل الوفاة؟ مسح نادر لدماغ بشري يحتضر

رسم خرائط للذكريات الجديدة في أسماك الزرد

لدراسة التغييرات المادية في الدماغ لدى تشكيل ذاكرة جديدة، حاول علماء الدراسة تشكيل خارطة ثلاثية الأبعاد لنقاط التشابك العصبي في أسماك الزرد المخططة قبل تكوين الذاكرة وبعده. 

بدأ العلماء تجربتهم بالاعتماد على مبدأ التكييف التقليدي لبافلوف، فعرّضوا الأسماك لمنبه محايد لا يثير رد فعل لديها وهو الضوء، ثم منبه يثير رد فعل في أسماك الزرد، هو الحرارة باستخدام ليزر الأشعة تحت الحمراء، حيث حاولت الأسماك تجنبها بضرب ذيلها. تعرضت الأسماك للمنبهين لعدد من المرات بما يكفي لإقران هذين المنبهين معاً، بحيث تبدي الأسماك رد فعل واحد لها، فأصبحت تحرك ذيلها عندما يضيء الضوء فقط، أي تم تشكيل ذاكرة ترابطية بين المنبهين.

لتمييز الخرائط، لجأ الباحثون إلى هندسة أسماك الزرد وراثياً؛ بحيث تُنتج الخلايا العصبية بروتينات فلورسنت مشعّة ترتبط بالمشابك ما يجعلها مرئيةً، ثم صوروا نقاط التشابك بمجهر مخصص قبل تعريضها للضوء وبعده. ثُبت رأس الأسماك وسُمح للذيل بالتحرك، فبدأت الأسماك بتحريكه، أي أنها استرجعت ذكرى الحرارة.

بمقارنة الخرائط ثلاثية الأبعاد قبل تكوين الذاكرة وبعده، لاحظ العلماء من خلال توهج بروتينات الفلورسنت للخلايا العصبية، تشكل مشابك عصبيةٍ في منطقة الباليوم الظهري الأمامي الجانبي، بينما فُقدت في منطقة الباليوم الظهري الأمامي. استنتج العلماء أن تكوين الذاكرة ينطوي على تكوين المشابك العصبية وفقدانه.

اقرأ أيضاً: لماذا يفشل الدماغ أحياناً في محاربة الذكريات المُخيفة؟

محو الذكريات بإزالة المشابك العصبية: علاج لاضطراب ما بعد الصدمة

بشكل مشابه لتشكل الذكريات الترابطية، يسبب اضطراب ما بعد الصدمة ذكريات مؤلمة لصاحبه، بمعنى أنه يمكن للمنبهات المحايدة التي تزامنت مع حدوث الصدمة استدعاء تلك الذكريات المؤلمة أيضاً. لذلك يلجأ الطب النفسي لعلاج اضطراب ما بعد الصدمة عبر "العلاج بالتعرض"، أي يُعرض المريض لمنبه محفز ولكن غير ضار لقمع استدعاء الذكريات المؤلمة المحفزة للصدمة، وهو فعلياً إعادة تعيين غير مباشرة لنقاط التشابك لتصبح الذكرى أقل إيلاماً. ولكن من المآخذ على هذه الطريقة هو احتمال إصابة المريض بالانتكاس لعدم مسح الذكريات الأساسية التي تسببت بالصدمة.

نظرياً، ووفقاً للدراسة، يمكن محو الذكريات الترابطية نهائياً من خلال إزالة نقاط التشابك العصبي، بعد تحديد المسؤولة منها عن تشفير الذكرى المرتبطة بشكل دقيق، ومراعاة عدم التسبب بأضرار للخلايا العصبية.

قد تواجه التقنية المقترحة في الدراسة بعواقب تقنية وأخرى أخلاقية، ولكن تبقى فكرة محو الذكريات السيئة جراحياً بإزالة بعض المشابك العصبية مثيرة للاهتمام. 

المحتوى محمي