تكونت الأرض قبل 4.543 مليار سنة بعد ميلاد الشمس بفترة. منذ ذلك الحين والأرض تدور حول الشمس في مكان ما في مجرة درب التبانة. ومع التقدم البشري، بدأت أنظار العالم تتجه نحو الكون، وبدأت أنظار البشر تتجه نحو دراسة السماء والنجوم حتى إنهم اتخذوا من السماء خريطة وكانوا يهتدون بها في السابق أثناء السفر ليلاً.
تطور فهم البشر للكون، خاصة بعدما أعلن عالم الفيزياء "ألبرت أينشتاين" نظريته الشهيرة في النسبية العامة، وغيّر منظورنا عن الكون في عام 1915. وقد تنبأت النظرية نفسها بوجود أجسام فضائية تلتهم أي شيء يقترب منها، إنها ببساطة نجوم انتهت حياتها، وأطلق عليها "جون ويلر" مصطلح "الثقب الأسود".
رحلة البحث عن الثقوب السوداء
بدأت رحلة البحث عن الثقوب السوداء أثناء القرن الثامن عشر وربما قبل ذلك، لكن أغلب المصادر تشير إلى أن "جون ميشيل" تنبأ بوجود أجسام في الفضاء تبتلع أي شيء يقترب منها، ويمكن الاستدلال عليها من خلال ملاحظة حركة النجوم بسرعة حول شيء ما. ربما لم يهتم أحد وقتها، لكن أثناء القرن العشرين وبعد ثورة النسبية لأينشتاين، تغيّر مفهوم الناس عن الكون، ما فتح ملف تلك الأجسام الغامضة التي تنبأ بها ميشيل من قبل.
بدأ الشك يساور العلماء حول الثقوب السوداء في أوائل ستينيات القرن الماضي بعد اكتشاف نوى المجرة النشطة، وهي عبارة عن مناطق شديدة السطوع في مراكز المجرات. وفي عام 1969، أشار عالم الفيزياء الفلكية الإنجليزي "دونالد ليندن بيل" إلى وجود ثقوب سوداء في مراكز المجرات الحلزونية، من ضمنها مجرة درب التبانة.
وفي عام 1974، استخدم عالمان أميركيان وهما: "بروس باليك" و"روبرت براون"، تلسكوبات راديوية في جرين بانك بولاية فيرجينيا، ووجها التلسكوبات نحو مركز المجرة، فلاحظا بقعة غامضة، وشكا في أنها لثقب أسود في مركز المجرة. أطلقا على هذه البقعة اسم "ساغيتارياس أيه *" (*Sagittarius A).
اقرأ أيضاً: بمساعدة أينشتاين وهابل: العثور على ثقب أسود لم يره أحد من قبل
في ثمانينيات القرن الماضي، حدد عالم الفيزياء "تشارلز تاونز" وزملاؤه حركة الغازات الموجودة في مركز المجرة، ووجدوا أنها غير منطقية واستنتجوا أنها تحت تأثير جاذبية هائلة. بعد ذلك بعقدين، استمر العلماء في تطوير فهمهم لـ "ساغيتارياس أيه *"، لكن كانت تواجههم مشكلة ضعف الإمكانات دائماً ونقص التلسكوبات.
خلال العقود التالية، ظهرت تلسكوبات راديوية عالية التردد، ما سهل مهمة الباحثين، حيث تستطيع رصد الثقب الأسود عند ترددات الميكروويف الدقيقة. كما ساعدت ثورة الحوسبة في ظهور الأقراص الصلبة والهواتف الذكية والحواسيب المتقدمة التي تستوعب أكبر قدر من المعلومات.
وفي عام 2007، استخدم بعض العلماء 3 تلسكوبات ووزعوها في هاواي وكاليفورنيا ونيو مكسيكو بالولايات المتحدة الأميركية، في محاولة للبحث عن ذلك الثقب الأسود الغامض، لكنهم لم يستطيعوا تكوين صور واضحة له.
اقرأ أيضاً: شاهد محاكاة لثقب أسود يلتهم النجوم
وفي يناير/كانون الثاني 2012، اجتمع عدد من علماء الفلك المهتمين بالثقوب السوداء لإطلاق مشروع "تلسكوب أفق الحدث" (Event Horizon Telescope) اختصاراً (EHT)، بهدف إنشاء تلسكوب راديوي افتراضي بحجم الأرض، ما يجعل الرصد أكثر دقة. وبدأ التعاون بين الدول في مشروع تلسكوب أفق الحدث في أبريل/نيسان 2017، وتواصل العمل على فكرة رصد الثقوب السوداء، والتقطت الصورة الأولى للثقب الأسود الموجود في مركز مجرة "مسييه 87" (Messier 87) وحصل على اسم (M87 *). بدأ الباحثون العمل على التقاط صورة لـ "ساغيتارياس أيه *"، ولكن التقاط صورة له وعرضها على العامة استغرق عدة سنوات.
لماذا كانت مهمة الباحثين في التقاط صورة لـ "ساغيتارياس أيه *" صعبة؟
تتميز الثقوب السوداء بجاذبية غير نهائية، لدرجة أنّ الضوء والذي يُعد أسرع شيء في الكون لا يستطيع الإفلات منها، وينجذب لها كل شيء. لكن تلك الثقوب غير مرئية، وتشوه الزمكان من حولها، لدرجة أنها عندما تواجه تيارات مضيئة بسبب جذب المواد المتساقطة داخلها، فإنها تُلقي بظلالها عليها، والظل أكبر بمرتين ونصف من أفق الحدث للثقب الأسود. وهو منطقة تحد الثقب الأسود، ولا تستطيع أي قوى الإفلات منها، وهناك نقطة اللا عودة. ولأن الثقب الأسود غير مرئي، يستدل العلماء عليه عبر الظلال التي يُلقيها في الخارج.
في حالة الاكتشاف الراهن، التقط تلسكوب أفق الحدث صوراً لظل الثقب الأسود عن طريق "قياس التداخل المديد القاعدة" (VLBI)، وهي تقنية تساعدهم في تجميع الأرصاد الراديوية من عدد من التلسكوبات في قارات متعددة.
اقرأ أيضاً: 25 ألف ثقب أسود: علماء الفلك يرسمون خريطة السماء
وتتحرك الغاز والمواد الموجود بالقرب من الثقوب السوداء بسرعة كبيرة جداً تقترب من سرعة الضوء، لكن ثُقب M87 * الموجود في مركز مجرة مسييه 87 كبير الكتلة، ما يعني أنّ الغازات أو المواد التي تدور حوله تحتاج إلى ساعات وربما أيام حتى تُكمل دورة كاملة، وهذا يجعله أكثر وضوحاً عند الرصد. أما في حالة ثقب "ساغيتارياس أيه *" فله كتلة أقل من ثقب M87 * بنحو 1000 مرة، ما يجعل المواد تدور حوله بسرعة كبيرة، حيث تحتاج فقط إلى بضع دقائق حتى تُكمل دورة واحدة.
علاوة على ذلك، واجه الباحثون تحدياً قوياً، وهو وجود عدة طبقات تُخفي الثقب الأسود "ساغيتارياس أيه *". يشبه الأمر تقشير بصلة، وهذه الطبقات هي:
- الطبقة الأولى: تقع عند المستوى المجري، وهي منطقة تتركز فيها أغلب كتلة المجرة، وتتكون هذه الطبقة مما يعادل 26 ألف سنة ضوئية من الغاز والغبار والمواد الأخرى التي تحجب الضوء المرئي، لكن تستطيع موجات الراديو التحرك عبرها دون أي عوائق.
- الطبقة الثانية: وهي عبارة عن بقعة مضطربة من الفضاء، تختلف فيها كثافة الأشياء، ما يؤدي إلى تشتيت موجات الراديو عن مسارها.
- الطبقة الثالثة: وهي تحيط بالثقب الأسود وتُخفي "ساغيتارياس أيه *".
كشف الستار عن الثقب الأسود القابع في مركز مجرتنا
لاحظ العلماء منذ زمن أنّ هناك شيء ما غير مرئي في مركز مجرة درب التبانة تدور حوله النجوم العملاقة بسرعة كبيرة تقترب من سرعة الضوء، لكنهم ترددوا في قول ذلك، حتى إنّ هناك عالمين وهما "رينهارد جينزل" و"أندريا غيز"، حصلا على نوبل عام 2020 بسبب اكتشاف جسم فائق الكتلة في مركز المجرة، ولم يقولوا أنه ثقب أسود. وبعد المزيد من البحث والاكتشاف، توّصلوا إلى أنّ هذا الجسم الأسود نفسه هو ثقب أسود والمُسمى "ساغيتارياس أيه *". استطاع العلماء تحديد بعض المعلومات عن الثقب الأسود مثل: كتلته وقطره والمسافة بينه وبين الأرض. استخدم علماء الفلك تلسكوب أفق الحدث مع بعض التقنيات الأخرى، ما جعلهم قادرين على التقاط أول صورة للثقب الأسود.
وفي صباح يوم الخميس الموافق 12 مايو/أيار 2022، في مؤتمر صحفي كبير في نادي الصحافة الوطني بالعاصمة الأميركية واشنطن، صرحت "فريال أوزيل"، أستاذة علم الفلك والفيزياء بجامعة أريزونا وعضوة في مجلس العلوم ضمن مشروع "تلسكوب أفق الحدث، في المؤتمر أنها لاحظت الثقب لأول مرة قبل 20 عاماً، واهتمت بدراسته، لكن لم تكن لديها صورة له. ويبعد هذا الثقب عن الأرض مسافة تبلغ 25,800 سنة ضوئية، وكتلته تعادل أربعة أضعاف كتلة الشمس تقريباً.
اقرأ أيضاً: هل يستطيع أي إنسان الدخول إلى ثقب أسود لدراسته؟
لم يكن هذا الاكتشاف وليد الصدفة، فقد استغرق سنوات طويلة من البحث، إذ تعاونت عدة تلسكوبات في أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية وهاواي وأوروبا والقارة القطبية الجنوبية، في تكبير مركز مجرة درب التبانة، وجمعت بيانات لـ 65 ساعة. وُضعت البيانات في 1024 قرصاً صلباً بسعة 8 تيرابايت، واستمر الباحثون في معالجة تلك البيانات إلى أن خرجوا بتلك الصورة الخلابة التي أشاروا إليها أثناء المؤتمر الصحفي بصورة "العملاق الجميل"، بعد تعاون دام لنحو 5 سنوات بين 300 باحث من 80 دولة. ونُشرت نتائج البحث لأول مرة في دورية "ذا أستروفيزيكال جورنال ليترز" (The Astrophysical Journal Letters) في 12 مايو/أيار 2022.