عند حديقة شامب دي مارس، بالقرب من نهر السين الجاري في العاصمة الفرنسية باريس، يقطن برج إيفل شامخاً منذ ما يزيد على قرن من الزمان، تلك التحفة المعمارية التي أذهلت العالم كله عندما افتُتحت في 31 مارس/آذار عام 1889، بارتفاع يصل إلى 324 متراً تقريباً. وتلا تشييد هذا البرج الحديدي ضجة انتشرت في أرجاء العالم كله وذلك لعدة أسباب من ضمنها أنه كان أطول برج من صنع الإنسان في العالم وقتها، وظل هو الأعلى ارتفاعاً حتى جاء مبنى كرايسلر في ولاية نيويورك الأميركية عام 1930، لكن حتى ذلك لم يسرق من برج إيفل صيته ومكانته.
ما قصة البرج القبيح للعين؟
في ثمانينيات القرن التاسع عشر، كان من المقرر إقامة المعرض العالمي في باريس، وأرادت الدولة وضع نصب تذكاري جذاب في صورة برج مميز، وتقدم عدد كبير من المهندسين المعماريين بتصاميم متنوعة، كان من بينهم مهندس قدير اشتُهر باعتماده في أبنيته على الحديد والمعادن، وهو ألكسندر غوستاف إيفل. تفوّق تصميم إيفل على بقية التصاميم، وبدأت خطة التنفيذ.
في البداية، انتقد بعض الناس البرج في أثناء بنائه، وتوّقعوا أنه سيكون قبيحاً للعين إلى أن انتهى، وصار تحفة معمارية جذابة لأعين العالم كله. وافتُتح في عام 1889، وكان ذلك بعد الثورة الفرنسية بـ ـ100 عام، فصار تذكاراً وطنياً أيضاً. وفي مطلع القرن العشرين، أراد بعض الناس من العامة تفكيك البرج واستخدامه كقطع خردة، فقد كان من المتوقع أن يحدث هذا مع ذلك المبنى التذكاري، إذ كانت مهمته في الأساس جذب أعين الناس في أثناء فترة المعرض العالمي، وقد كان، لكن لم يسمح العلماء والسياسيون بتحطيم البرج، فقد أصبح رمزاً للبلاد، أضف إلى ذلك، تفوقه على نصب واشنطن التذكاري حتى صار أطول مبنى في العالم وقتها.
اقرأ أيضاً: لماذا تحول لون تمثال الحرية من النحاسي إلى الأزرق؟
وبالفعل كان وما زال برج إيفل واحداً من أهم المعالم السياحية التي لا يكاد أحد يذهب إلى فرنسا إلا ويزورها، فمنذ تشييده زاره أكثر من 250 مليون زائر، ويذهب إليه ما يزيد على 6 ملايين زائر سنوياً. يبلغ وزنه 7300 طناً، وهو مصنوع من أنقى أنواع الحديد المطاوع الذي أُنتج لأول مرة في بريطانيا العظمى خلال الثورة الصناعية، وتميّزت عملية تصنيع الحديد بإزالة الكربون من الحديد الخام في عملية الصهر، وتم طلاؤه بأربع طبقات من الرصاص الأحمر لحمايته من التآكل. وقد أوصى غوستاف إيفل قبل رحيله بطلاء البرج كل فترة، فهذا هو السبيل الوحيد لبقائه.
سيدة باريس الصفراء
يُلقب برج إيفل بـ "سيدة باريس الحديدية"، ولكي تظهر السيدة الحديدية شابة طوال الوقت، فإنه يتم تجديد طلائه كل فترة. عندما افتُتح البرج لأول مرة، كان لونه بنياً محمراً، لكن بعد عقد من بنائه، تم طلاؤه باللون الأصفر، فحصل على لقب "سيدة باريس الصفراء"، وفي مرة أخرى حصلت سيدة باريس على طلاء أصفر بني، ومرة أخرى بني كستنائي، وفي عام 1968، اعتُمد اللون البني وهو اللون الأكثر شيوعاً للبرج في أذهاننا. وفي كل عملية طلاء، تحتاج سيدة باريس إلى 60 طناً من الطلاء.
هل سينهار برج إيفل؟
في أثناء الفترة الأخيرة، كان كل من يذهب إلى باريس يصور المنطقة حول البرج، والتي تبدو شعبية وغير نظيفة، وتُنشر هذه المقاطع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ما يثير استياء الناس. لكن الأمر لا يتوقف عند المنطقة المحيطة بالبرج، فقد سُربت تقارير إلى مجلة ماريان الفرنسية وأثارت ضجة في العالم، تُشير التقارير إلى أنّ برج إيفل في حالة يُرثى لها، وقد غطاه الصدأ لدرجة أنه قد صار في حاجة إلى إصلاح كامل. وعلى الرغم من حاجته للإصلاح، فإنّ أي أموال تُرسل إليه تكون لأهداف تجميلية، ومؤخراً أصبح الاهتمام بالبرج موّجهاً استعداداً لدورة الألعاب الأولمبية التي من المقرر إقامتها في العاصمة الفرنسية باريس عام 2024، وانتشرت مقولة على لسان أحد المسؤولين: "إذا فكر غوستاف إيفل بزيارة البرج، سيُصاب بنوبة قلبية".
اقرأ أيضاً: افتتاح متحف المستقبل في دبي: أيقونة علمية على أرض عربية
يظهر الاهتمام بالبرج في صورة عملية إعادة طلاء بقيمة 60 مليون يورو، وهذه هي المرة العشرين التي يُعاد فيها طلاء برج إيفل، لكن ما جدوى الطلاء إذا لم يُعالج التآكل. فقد كان التصرف الأدق هو إزالة طبقات الطلاء السابقة، وإصلاح المعدن نفسه، ومن ثمّ طلائه. لكن طلاء فوق الطلاء السابق ما هو إلا عملية تجميلية وليست ترميمية، فقط من أجل الحفاظ على شكل البرج، ولن تزيد نسبة المعالجة على 5%، ما يجعل الوضع مؤسفاً، فتجديد الطلاء دون تجريد المعدن وترميمه لن يمنع الصدأ، ويزداد الوضع سوءاً، وفي أفضل الأحوال، سيكون الطلاء عديم الفائدة، ربما سيمنع الزوار من ملاحظة عيوبه، لكن في أسوأ الأحوال، قد يحدث تآكل للمعدن وينتهي الأمر إلى الانهيار، وهذا ما لا يرغب فيه أي شخص.
وما زالت سيدة باريس الحديدية أو برج إيفل حتى يومنا هذا أحد أشهر المعالم العالمية، ورابع أكثر المعالم الفرنسية زيارة بعد ديزني لاند ومتحف اللوفر وقصر فرساي. حتى إنه عندما أُغلق في أثناء فترة الحجر الصحي إثر انتشار جائحة كورونا، خسرت الدولة نحو 52 مليون يورو.