يعج عالم الحشرات بمختلف الأنواع الجميلة والمبهرة. لكن حشرة "السمك الفضي" ليست واحدة من هذه الحشرات. تشبه هذه الحشرة الثقّالات التي تستخدم في سنارات صيد الأسماك بأبعادها الصغيرة القريبة من أبعاد قطرات الماء وبشرتها ذات اللون الرمادي الرصاصي. تعيش حشرات السمك الفضي في الأقبية والغرف التي تحتوي على العفن، حيث تتغذّى على قشرة الرأس وأغلفة الكتب. وعلى عكس معظم الحشرات الأخرى، فهي لا تمتلك أجنحة بل تقضي حياتها بالزحف على بطونها.
لكن تعطينا هذه الحشرات القمّامة المنزلية لمحة عن تاريخ الأنواع قبل انتشار الثدييات والديناصورات عندما تطورت أولى الحشرات الغريبة التي يعتقد علماء الأحافير أنها كانت تشبه حشرات السمك الفضي. لم تكن الحشرات البدائية قادرة على الطيران أيضاً. غيّر اكتساب القدرة على الطيران الحشرات بشكل كبير وساهم بازدياد أعدادها. اليوم، يوجد في كل بقاع الأرض تقريباً ما يقرب من 10 كوينتيليون حشرة تصطاد وتُلقّح النباتات وتهضم غذاءها. لكن عندما ظهرت الحشرات، لم تكن سائدة لهذه الدرجة. ويمكن أن يساهم امتلاكها للأجنحة من عدمه في تفسير ذلك.
تطور الحشرات البدائية
تم إيجاد العديد من الحشرات المحفوظة الموزعة زمنياً ومكانياً، وهناك أقل من 10 آلاف نوع موصوف في الأدبيات العلمية. على الرغم من أن عدد مستحاثات النمل المتحجر يفوق عدد مستحاثات الديناصورات المتحجرة، فإن الحشرات المحفوظة في الصخور وأحجار الكهرمان هي جزء صغير فقط من الأنواع الموجودة حالياً والتي يقدر عددها بـ 5.5 مليون. تقول جيسيكا وير، أمينة المتحف الأميركي للتاريخ الطبيعي في مدينة نيويورك، والتي تدرس تطور اليعاسيب: "يبين النمط الذي نلاحظه في السجل الأحفوري أن الحشرات متفرّقة للغاية".
ما يزيد الأمر تعقيداً هو أن المستحاثات التي تعود لأقدم الحشرات على الإطلاق صغيرة ومسحوقة، ما يدفع العلماء للتكهّن بشأنها دون إيجاد إجابات واضحة. تقول وير إنه ليس غريباً أن يتوصل عدة أشخاص من مختبرها لاستنتاجات مختلفة متعلقة بنفس الجزء من جسم حشرة ما. إذ إن ما يبدو كجناح حشرة متحجّر تحت المجهر لباحث ما قد يبدو كرِجل بالنسبة لباحث آخر.
يعتقد الباحثون أنه يمكن إرجاع أولى الحشرات إلى العصر الديفوني، وهو الحقبة الجيولوجية التي بدأت قبل 420 مليون سنة. في عام 2004، جادل عالما حشرات أن زوجاً من الفكوك يبلغان من العمر 400 مليون سنة ويبلغ طول كل منهما عُشر المليمتر يعودان حتماً لأقدم نوع معروف من الحشرات. وزعم العالمان أن هذين الفكين السفليين يشبهان إلى حد كبير الفك السفلي لحشرة تحمل اسم "ذبابة مايو"، وبالتالي يجب أن يعودا لحشرة مجنّحة أيضاً. ولكن بعد أكثر من عقد من الزمان، قام عالما حشرات آخران بإعادة تحليل هذين الفكين وجادلا أن العينة لا تمتلك سمات الحشرات وأنها تعود على الأرجح لنوع آخر من اللافقاريات الأرضية ذات الأرجل ينتمي لطائفة مئويات الأرجل.
اقرأ أيضاً: حشرات تأكل أفراد عائلتها: كيف تؤثر البُنية الاجتماعية على السلوك الأناني؟
لم يتم حسم الجدل حول النوع الذي تعود له هذه العينة حتى الآن. تعتقد ساندرا ر. شاتشات، عالمة الحشرات القديمة والزميلة الباحثة في جامعة هاواي، أن إثبات وجود الحشرات الطائرة التي يبلغ عمرها 400 مليون عام صعب دون اكتشاف أجنحة أحفورية. تقول شاتشات إن جزء العين المركبة الذي اكتُشف على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي يشبه الحشرات بشكل أكثر وضوحاً.
وُجدت هذه العينة في بلدة "غيلبوا" في ولاية نيويورك وسط جذوع الأشجار المتحجرة في أول غابة معروفة في العالم. تقول شاتشات إن مقلة العين التي تعتبر أجدد ببضعة ملايين السنين من الفكين اللذين اكتشفا في 2004 "تبدو أنها تعود لعتيقات الفك بالفعل"، في إشارة للنظام الذي كان يستخدمه علماء الأحياء في تصنيف "ذوات الذنب الشعري"، وهي حشرات قريبة من حشرات السمك الفضي لا تزال موجودة حتى اليوم.
لكن لم يتم إيجاد أي مستحاثة حشرية جديدة تعود للفترة بعد تلك التي تعود لها مقلة العين هذه، والتي تمتد لعشرات ملايين السنين. تسمي شاتشات وغيرها من علماء الحشرات هذه الفترة "فجوة سداسيات الأرجل". يشير مصطلح "سداسيات الأرجل" إلى الحشرات وأبناء عمومتها القريبة منها وراثياً. استمرت هذه الفجوة من نحو 385 إلى 325 مليون سنة مضت. وبدأت تظهر أجزاء أجسام الحشرات في أواخرها في السجل الأحفوري مرة أخرى.
عاينت شاتشات وزملاؤها في ورقة بحثية نُشرت في 2018 في مجلة "وقائع الجمعية الملكية بي" عدة نظريات تفسر اختفاء الحشرات من السجل الأحفوري في فجوة سداسيات الأرجل. ربما تغيّرت الظروف البيئية في تلك الفترة التي دامت 60 مليون سنة، ولم ينجُ سوى عدد قليل من الحشرات منها. أو ربما لم تكن الحيوانات مفقودة بالفعل بل كانت مستحاثاتها هي المفقودة.
في النهاية، وجد الفريق أن الأسباب البيئية لا تفسر اختفاء الحشرات في تلك الفترة. إذ تمكّنوا من تقدير كمية الأوكسجين في الهواء خلال العصر الديفوني من خلال فحص الآثار الكيميائية المحفوظة واستنتجوا أن الظروف الجوية كانت تسمح للحشرات بالتنفّس.
بالإضافة إلى ذلك، تم إيجاد مستحاثات للعناكب ومئويات الأرجل وحيوانات شبيهة بذوات الألف رجل تعود للعصر الديفوني، وكانت أحجامها كلها تقارب أحجام الحشرات، كما أن تركيبها كان شبيهاً بتركيب الحشرات. ما يشير إلى أن أنواع المواد الرسوبية المناسبة لحفظ اللافقاريات الصغيرة كانت موجودة.تقول شاتشات: "إن عدد أجزاء الجسم التي وُجدت والتي تعود للعنكبيات ومئويات الأرجل يفوق بكثير عدد تلك التي قد تعود للحشرات".
تطور أجنحة الحشرات
تقول شاتشات وزملاؤها إن هذه الفجوة تبين أن الحشرات كانت أكثر ندرة بكثير في تلك الفترة. استنتج الباحثون أن العامل الذي أتاح للحشرات أن تهيمن على العالم هو تطور الأجنحة، وأن فجوة سداسيات الأرجل كانت تعيش فيها حشرات لم تكن تمتلك أجنحة. كتب الباحثون في دراستهم: "قد يوثّق السجل الأحفوري النقلة النوعية التي أحدثها تطور القدرة على الطيران لدى الحشرات بدقة".
كانت الحشرات تزحف فقط قبل تطور الأجنحة مثلما تزحف حشرات السمك الفضي اليوم، أو كانت تعتمد على التنقّل بمساعدة كائنات أخرى. ثم تطوّرت أجنحة الحشرات، وتعود أول الأدلة على ذلك إلى 324 مليون سنة مضت، تماماً بعد انتهاء فجوة سداسيات الأرجل. وفجأة، أصبحت السماء موطناً للحشرات.
تمتلك جميع الحشرات المعروفة اليوم أجنحة، باستثناء بضع مئات من الأنواع المعروفة مثل ذوات الذنب الشعري وحشرات السمك الفضي وأقاربها. وهناك بعض الأنواع التي فقدت هذه الزوائد التي كانت تتمتع بها أسلافها الطائرة خلال تاريخها التطوري، مثل البراغيث. تقول شاتشات: "أصبحت الحشرات المجنّحة هي السائدة في السجل الأحفوري بمجرد ظهورها".
ثم تطورت أجنحة الحشرات، وأصبحت السماء موطناً لها فجأة.
غيّر ظهور الأجنحة شكل الحشرات وسلوكها، ما غير في طرق اصطيادها للفرائس وتكاثرها وآليات تجنّبها للمفترسات. يمكن أن تكون الحشرات الطائرة طنانة أو أبريّة، ويمكن أن تكون مخلوقات صغيرة أو كبيرة. تنمو بعض أنواع الحشرات لتصبح هائلة الحجم. إذ كانت تمتلك اليعسوبيات الضخمة التي عاشت قبل 300 مليون سنة أجنحة تتجاوز أطوالها 0.6 متر.
تقول وير: "ساعدت الأجنحة الحشرات على توسيع مناطقها الخاصة"، وتضيف: "لم تكن هناك أي مخلوقات تطير في الجو حينها".
سبقت الحشرات الخفافيش والطيور والتيروصورات في اكتساب القدرة على الطيران بمئات ملايين السنين، وازدهرت في الجو. تقول شاتشات: "هناك أسباب مقنعة للغاية تدفعنا للاعتقاد بأن الأجنحة ساهمت في زيادة تنوّع الحشرات ووفرتها". تشعّبت الحشرات إلى أنواع جديدة ولم تحصر نفسها في الجو بل حفرت التربة على الأرض وسبحت في المياه العذبة وانتقلت إلى مناطق جديدة وأخذت أدواراً بيئية جديدة. أثّرت الحشرات على تطور الحياة كثيراً من خلال استيطان العديد من بقاع الأرض.
لا تزال هناك الكثير من الأمور التي نجهلها عن الحشرات على الرغم من أنها كائنات مؤثّرة للغاية. وأحد تلك الأمور هو الطريقة التي تعلّمت فيها الحشرات الطيران. تقول شاتشارت إنه لم يتم اكتشاف أي حشرة قديمة تمتلك جوانح ذات بنية انتقالية. ربما جرّبت بعض الأنواع القديمة التحليق، إذ رُصدت الحشرات ذوات الذنب الشعري من قبل تحوم بين جذوع الأشجار. وفقاً لفرضية أخرى، ربما تطوّرت أجنحة الحشرات الأولى من الخياشيم.
تقول وير إن اكتشاف أصل الحشرات ليس فقط عملاً أكاديمياً بل هو ضروري، إذ إن هذه الحيوانات مهمة جداً للزراعة والأنظمة الغذائية البشرية لدرجة أنها إذا انقرضت، سينقرض البشر بعدها بنحو 3 أشهر فقط.
تقول وير: "يكافئ فهم تطور الحشرات فهم 400 مليون سنة من تطور الحياة على الأرض"، وتضيف: "تعتبر دراسة هذه الكائنات أقرب ما يمكننا الوصول إليه من السفر عبر الزمن". نعيش في فترة تعيش فيها أشكال من الحشرات على طرفي نقيض، من تلك التي تطن وترفرف أجنحتها فوقنا إلى حشرات السمك الفضي البدائية التي تزحف تحت أقدامنا والتي تعتبر ورثة السلالات الأرضية.