على الرغم من أن منظمة الصحة العالمية صنّفت تفشي جدري القرود (الاسم الجديد إم بوكس) الذي حدث مؤخراً على أنه حالة طوارئ عالمية، فإن اللقاحات وسبل الوقاية لا تزال نادرة في العديد من الدول منها الولايات المتحدة. إذ تُرك العديد من المصابين دون رعاية صحية لأسابيع أحياناً قبل أن يتمكّنوا من الحصول على الأدوية التي من شأنها أن تحسّن حالتهم. من الضروري فهم طريقة انتشار الفيروس وسبل الوقاية من الإصابة في أثناء عمل السلطات على سد الثغرات في استجابتها للتفشي.
على الرغم من أنه يبدو خطيراً، فإن مرض جدري القرود نادراً ما يتسبب في الموت (لم يتم التبليغ عن حالات الوفاة في الولايات المتحدة حتى الآن) ولا يتطلّب الدخول إلى المستشفى إلا نادراً. مع ذلك، يمكن أن تتسبب الآفات الجلدية التي تعد أحد أكثر أعراض فيروس جدري النسناس (الفيروس الذي يتسبب بمرض جدري القرود) شيوعاً بألم شديد إذا لم تُعالج بالأدوية المناسبة.
تم التبليغ عن 40 ألف حالة إصابة بجدري القرود حول العالم (نحو ثلثها في الولايات المتحدة). وتركّزت الانتقالات في مجتمعات محددة مثل مجتمع الشواذ. سواء كنت معرّضاً لخطر كبير أو صغير للإصابة بمرض جدري القرود، يجب عليك أن تتعرف إلى طرق انتشار الفيروس وسبل الحفاظ على سلامتك.
اقرأ أيضاً: هل يقف العالم على مشارف جائحة جديدة مع تزايد حالات الإصابة بجدري القرود؟
طرق انتشار جدري القرود
للأسف، لا يزال هناك الكثير من الأمور التي نجهلها عن التفشي الأخير لجدري القرود. ويعود ذلك جزئياً إلى أن هذا التفشي لا يشبه حالات التفشي التي تمت دراستها سابقاً في غرب القارة الإفريقية ووسطها. على سبيل المثال، تظهر الآفات الجلدية في نقاط مختلفة من الجسم في التفشي الجديد. في حين أن هذه الآفات كانت تظهر عادة لدى الأشخاص المصابين خلال حالات التفشي السابقة في جميع أنحاء الجسم، إلا أنها تظهر حالياً في الأعضاء الجنسية وفتحة الشرج والفم. وجدت الدراسات التي أجريت على التفشي الجديد أن الحمض النووي للفيروس شهد بعض التغيّرات. لكن لا يزال العلماء يحاولون اكتشاف السبب الذي جعل هذا الشكل من الفيروس ينتشر بسرعة وبشكل كبيرين.
ما نعرفه هو أن الأشخاص المصابين بجدري القرود ينقلون العدوى منذ ظهور أول الأعراض عليهم إلى الوقت الذي تلتئم فيه الآفات الجلدية تماماً، أي الوقت الذي تنسلخ فيه جميع القشور كاشفة عن طبقة جديدة من الجلد. وفقاً لمراكز السيطرة على الأمراض ومنع انتشارها، يستغرق ذلك عادة أسبوعين إلى 4 أسابيع.
وفقاً للمعلومات التي نعرفها حتى الآن، ينتشر مرض جدري القرود المتفشي حالياً بثلاث طرق: الاحتكاك الجلدي المطوّل (غالباً في أثناء ممارسة الجنس)، وملامسة السطوح الملوّثة، وانتقال السوائل التنفسية مثل المخاط واللعاب.
اقرأ أيضاً: بعد انتشاره الذي أثار الرعب: ما هي العلاجات المتوفرة لجدري القرود؟
سنفصّل في كل طريقة على حدة.
الاحتكاك الجلدي
هذه هي الطريقة الأكثر فعالية لانتقال جدري القرود من شخص لآخر. وتحدث عندما تشق الإفرازات الملوثة التي تخرج من الطفح الجلدي الناجم عن الفيروس طريقها إلى جلد شخص غير مصاب. تحتوي هذه الإفرازات على كمية أكبر من الجسيمات الفيروسية مقارنة بأي نوع آخر من السوائل الموجودة في جسم المصاب. ويمكن أن تكون معدية أكثر بثلاث مرات من اللعاب.
يقول سكوت روبرتس (Scott Roberts)، أستاذ مساعد في الوقاية من الأمراض في كلية الطب في جامعة ييل: "لنفترض أنك لمست آفة جلدية وأن الفيروس انتقل إلى يدك. لن تتعرض للخرط ما لم يكن هناك شق ما في جلدك". يضيف روبرتس قائلاً إن المشكلة تكمن في أننا نميل للمس أفواهنا وعيوننا ووجوهنا كثيراً. ما يعني أنك قد تصاب بالعدوى بسبب وجود الفيروس على أصابعك.
نظراً لأن ممارسة الجنس تتطلب اللمس المستمر والمتكرر وتبادل العديد من أنواع السوائل الجسدية، كما أن الاحتكاك الجسدي يمكن أن يتسبب بتشقق الجلد، أصبحت هذه الممارسة العامل الأساسي في انتشار جدري القرود. حتى الآن، تسببت ممارسة الجنس بـ 91.5% من حالات انتقال المرض. ووقعت 97% من الإصابات في مجتمع الشواذ. لهذا السبب يعتقد بعض الخبراء أنه يمكن تصنيف مرض جدري القرود على أنه من الأمراض المنقولة جنسياً. لكن روبرتس لا يعتقد ذلك.
إذ يقول: "السبب الذي يجعلنا نلاحظ أن الانتقال ينتج بشكل أساسي من ممارسة الجنس ليس أن المرض منقول جنسياً، بل هو الاحتكاك الجلدي المباشر والمطول وتبادل السوائل الجسدية"، ويضيف: "تعتبر هذه الظروف مناسبة لانتقال الفيروس".
كشفت العديد من الدراسات وجود آثار لفيروس جدري النسناس في السائل المنوي. ولم تبيّن سوى دراسة واحدة أجراها باحثون إيطاليون ونشرت في مجلة ذا لانسيت للأمراض المعدية (The Lancet Infectious Diseases) أن الفيروسات الموجودة في عينات السائل المنوي يمكن أن تتكاثر وتتسبب بالإصابة لدى شخص آخر. حالياً، لا تدعم الأدلة العلمية الادعاء القائل إن مرض جدري القرود يمكن أن ينتقل مباشرة نتيجة لتبادل السائل المنوي والسوائل المهبليّة. لكن يمكن أن يتغير ذلك مع إجراء المزيد من الدراسات في المستقبل.
يتردد بعض الأشخاص أيضاً في تصنيف جدري القرود على أنه من الأمراض المنقولة جنسياً بسبب العار المرتبط بالانتماء إلى مجتمع الشواذ. لكن تصنيف المرض على أنه منقول جنسياً قد يحفّز الحكومات على تصميم استراتيجية أكثر فاعلية في مقاومته.
يقول جاي فارما (Jay Varma)، أستاذ علوم صحة السكان في كلية وايل كورنيل الطبية في جامعة كورنيل: "لا يهمني إذا سأل أحد ما هل سيتم تصنيف هذا المرض على أنه منقول جنسياً في الكتب الأكاديمية" ويضيف: "ما يهمني هو أن نركّز كل جهودنا على الشبكات المجتمعية الجنسية ونقوّي خدمات الصحة الجنسية. في كل مرة نتحدّث فيها عن الوقاية من جدري القرود في المدارس بين الأطفال غير النشطين جنسياً أو في مراكز التدليك، فإننا نتجاهل الأشخاص الذين يحتاجون للاهتمام أكثر من غيرهم".
تذكّر أن الاحتكاك الجلدي المباشر لا يعني أنك ستصاب بالمرض من خلال لمس كتف شخص مصاب سريعاً. يجب أن تنتقل كمية كافية من الجسيمات الفيروسية إلى جلدك حتى تصاب.
يقول روبرتس: "يتطلّب انتقال المرض وقتاً أطول بكثير من الملامسة المباشرة والمطوّلة في حالة عدم ملامسة الآفات الجلدية لشخص مصاب".
اقرأ أيضاً: كيف أثرت طريقة حقن لقاح جدري القرود على توافره؟
ملامسة السطوح الملوّثة
يمكن أن تتسرّب الإفرازات الجلدية التي تنتج عن جدري القرود بسهولة إلى الأسطح المسامية مثل الملابس والمفارش والضمادات والمناشف وحتى مواد المنجّدة. يتمتع الفيروس بمقاومة عالية أيضاً في هذه السطوح، وخصوصاً في الظروف المظلمة والباردة والرطبة التي تتيح له البقاء على قيد الحياة لأسابيع أو حتى شهور.
مع ذلك، وفقاً لآخر تقرير نشرته منظمة الصحة العالمية حول جدري القرود، تبلغ نسبة الإصابات الناتجة عن ملامسة المواد الملوّثة 0.15% من الإصابات الكلية، ما يجعلها نادرة للغاية.
تبادل السوائل التنفسية
وجد الباحثون في دراسة نُشرت في مجلة ذا لانسيت في أوائل أغسطس/آب 2022 آثاراً لفيروس جدري النسناس في أفواه وأحلاق المصابين بجدري القرود. ما يعني أن هناك احتمالاً للإصابة بالمرض بسبب التعرّض للعاب أو المخاط. قد يحدث ذلك في أثناء التقبيل أو العطس أو بسبب التواصل المباشر المطوّل مع شخص مصاب.
لكن فيروس جدري النسناس لا ينتقل في الهواء ولا يتصّرف مثل فيروس كورونا، والذي ينتقل بواسطة القُطيرات المجهرية ويمكن أن يتسبب بالعدوى إذا دخلت ما يكفي من القطيرات إلى الأنف والفم. قال الباحثون، ومن ضمنهم أولئك الذين ألّفوا الدراسة الأخيرة، إن الحمل الفيروسي في المجاري التنفسية لمريض مصاب بجدري القرود منخفض للغاية مقارنة بالحمل في الإفرازات الجلدية. يعني ذلك أن احتمال الانتقال من خلال السوائل التنفسية قليل جداً، إلا أنه ليس معدوماً. في الواقع، هذا الاحتمال قليل لدرجة أن انتقال العدوى يتطلب التواصل المباشر لمدة 3 ساعات مع مريض يبعد 1.8 متر. أما فيروس كورونا يمكن أن ينتقل بعد 15 دقيقة فقط في نفس الظروف.
اقرأ أيضاً: لقاحات المستقبل قد تكون قابلة للانتقال كالفيروسات
الوقاية من جدري القرود
كما ذكرنا أعلاه، يقتصر تفشي جدري القرود حالياً في الولايات المتحدة على مجتمع الشواذ. لذلك منحت السلطات هؤلاء الأشخاص أولوية لاستخدام لقاحات جدري القرود والخيارات العلاجية المحدودة. مع ذلك، لا يزال إمداد اللقاحات والعلاجات الأخرى محدوداً. وفي أماكن مثل ولاية نيويورك، يحصل الأشخاص البيض على كمية أكبر من اللقاحات مقارنة بذوي البشرة السوداء وذوي الأصول اللاتينية. مع ذلك، لا تعتبر اللقاحات فعّالة بنسبة 100%، لذلك يجب على الجميع أن يقللوا المخاطر التي قد يتعرّضون لها قدر الإمكان حتى ولو تمكّنوا من الحصول على اللقاح.
احرص على تلقي لقاح جدري القرود
تلقي لقاح جدري القرود هو أحد وسائل الوقاية الضرورية. يمتلك كل بلد معاييره الخاصة لأهلية تلقي اللقاح. لكن عموماً، يفترض أن يتمكن أي شخص من الحصول على هذه اللقاحات، والتي تتألف من جرعتين. يمكنك التواصل مع الهيئات الصحية المحليّة لتعرف ما إذا كنت مؤهلاً لتلقّي اللقاح. تذكّر أنه بما أن كمية اللقاحات محدودة، قد يستغرق تحديد موعد لتلقّي اللقاح وقتاً طويلاً. وهذا إذا تمكّنت من ذلك في المقام الأول. لهذا السبب، من الضروري للغاية أن تقلل تعرّضك للفيروس قدر الإمكان كإجراء وقائي إضافي.
مارس التباعد الاجتماعي وحافظ على النظافة في المواقف الخطيرة
وفقاً لمراكز السيطرة على الأمراض ومنع انتشارها، فإن تقليل الاحتكاك الجلدي المباشر مع الغرباء هو خيار مناسب. على الرغم من أن عدد الإصابات الناتجة عن هذا النوع من التواصل قليل، يجب عليك أن تأخذ بعين الاعتبار تغطية جلدك إذا كنت في مكان مزدحم. لا تُعتبر القمصان طويلة الأكمام والسراويل مثالية لحضور حفلة، لكنها ستقلل من مخاطر التلامس المحتملة.
إذا كنت تعرف شخصاً مصاباً بجدري القرود، تجنّب الالتقاء به حتى تتراجع أعراض العدوى. وإذا كنت تعيش مع شخص مصاب أو اضطررت للتواصل معه بشكل مباشر، حافظ على مسافة أمان وقم بارتداء كمامة ضيّقة وقفّازات تستخدم لمرة واحدة. ويجب ارتداء قميص ذي أكمام طويلة وسروال طويل يمكنك غسلهما أو وضعهما في حاوية محكمة الإغلاق لاحقاً. بخلاف ذلك، تأكد من عزل المصابين في مساحة خاصة واتّبع إرشادات مراكز السيطرة على الأمراض الخاصة بإدارة النفايات وتنظيف الأماكن العامة التي تستخدمها.
اقرأ أيضاً: دليلك للاهتمام بالكمامة: تخزينها وارتداؤها وخلعها
يقول روبرتس: "يعتبر فيروس جدري النسناس سهل القتل"، ويضيف: "إذ يمكنك القضاء عليه باستخدام المناديل الكحولية والماء والصابون والمطهّرات".
عموماً، يجب عليك تطهير الأسطح مثل مناضد المطبخ ومقابض الأبواب ومفاتيح الإضاءة بشكل منتظم. كما يجب عليك تنظيف الأطباق وغسل الملابس في أوقات منفصلة وغسل اليدين بشكل متكرر بمعقّم يحتوي على الكحول أو بالماء والصابون. إذا لم تكن متأكداً من أن منتجات التنظيف التي تستخدمها فعّالة، يتضمّن موقع وكالة حماية البيئة الأميركية قائمة بالمطهّرات التي تمت الموافقة على استخدامها.
لا تنس حيواناتك الأليفة
أخيراً، تذكّر أن جدري القرود هو مرض حيواني المنشأ. ما يعني أنه يمكن أن ينتقل من البشر إلى بعض أنواع الحيوانات مثل الكلاب والقنافذ والقوارض الأخرى، وبالعكس. حافظ على سلامة حيواناتك الأليفة من خلال منعها عن الاحتكاك بأي شخص مصاب، حتى ولو كان يعيش معك. اطلب من صديق أو من أحد أفراد عائلتك أن يعتني بحيوانك الأليف طيلة فترة العدوى. إذا أصيب حيوانك الأليف بجدري القرود، تنصحك مراكز السيطرة على الأمراض بإخطار الطبيب البيطري مباشرة ليتمكّن من إجراء الاختبارات اللازمة ومساعدتك على إيجاد علاج وخطة للعزل.