عندما قام تشارلز رايلي ودونالد إنجبر بتصوير فيلمهما القصير "البداية" The Beginning المتأثر بفيلم حرب النجوم، والذي يحكي عن انتصار أحد الحيوانات المنوية في سباق حياة أو موت لتخصيب إحدى البويضات، كان لديهما هدف واحد فقط.
أراد إنجبر، المدير المؤسس لمعهد ويس للهندسة المستوحاة بيولوجياً في جامعة هارفارد، ورايلي، الباحث في الكيمياء الحيوية في معهد ويس، أن يكون الفيلم المتحرك دقيقاً علمياً. ولتحقيق ذلك، تم التوصل إلى تقنيات أكثر شيوعا للشاشة الفضية من المختبر مثل برامج التصوير الرقمي المستخدمة عادة من قبل مصممي ألعاب الفيديو ومحركي الصور في الأفلام.
لم يحقق الباحثان مجداً سينمائياً وحسب، بل كانا قادرين بالوصول إلى اكتشاف جديد، بعيداً عن الصومعة العلمية، وهو فهم الآلية الحركية ذات المستوى الجزيئي والتي تسمح للحيوانات المنوية بتحريك ذيلها إلى الأمام والخلف لتغذية حاجتها إلى السرعة، وقد نشرت النتائج في شهر أكتوبر 2017 في دورية الجمعية الكيميائية الأميركية نانو.
لم تكن تلك المرة الأولى التي استفاد فيها إنجبر من الفن، وألهمه ذلك لفهم بعض المواضيع العلمية، فعندما كان طالباً في مرحلة الدراسات العليا، شاهد عملاً من تصميم المعماري الأمريكي الشهير باكمينستر فولر، والمعروف بالقبة الجيوديسية geodesic dome. في ذلك الحين، وجد إنجبر أن مقدار التوتر الذي أعطى قبة باكمينستر القدرة على التماسك بالرغم من خفة وزنها يمكن تطبيقه أيضاً على الهياكل الجزيئية.
يقول إنجبر: "تعتمد أكثر الهياكل التي يصنعها الإنسان على الجاذبية، مثل الوزن الذي تطبقه لبنة على أخرى. فكّر في أحجار ستونهينج الأثرية في إنجلترا، حيث تشد الأحجار بعضها في نسق ثابت بسبب الجاذبية، ويضغط كل حجر على الآخر، لكن إذا ضربته من الجانب فسيسقط مثل أحجار الدومينو".
في المقابل تعتمد الانشدادية على التوتر المستمر بدلاً من الضغط المستمر، وهذه هي الطريقة التي بنى بها جسم الإنسان، فلدينا عظام مقاومة للضغط يتم سحبها بواسطة سلسلة من العضلات، والأوتار، والأربطة، وهو ما يسمح لنا بالمشي وعدم السقوط بمجرد لمسنا من الجانب. هكذا رأى إنجبر أوجه التشابه بين تصميم باكمينستر والهيكل الخلوي، حيث تملك الخلايا أنيببات ضغط دقيقة -وهي تماثل بطريقة ما تلك الموجودة في العظام - مع خيوط شد من اللاكتومايسين التي تعمل بطريقة تشبه إلى حد ما عمل الأوتار، والتي تحدد بدورها شكل وصلابة الخلية.
ثم جاء اللقاء مع رايلي، عالم فيزياء حيوية جزيئية، كان يعمل في المجال السينمائي قبل أن يحصل على درجة الدكتوراه، في استوديو بارك رود بوست وهو استوديو أفلام لمرحلة ما بعد الإنتاج يملكه المخرج بيتر جاكسون. وقد خرجت العديد من الأعمال السينمائية من داخل هذا الاستوديو، من بينها عمل المؤثرات لأفلام "سيد الخواتم" و"كينج كونج" و"تنين بيت". وعندما ترك رايلي صناعة الأفلام لصالح العلم، تابع تطوير مهاراته في الرسوم المتحركة الرقمية، وقد تقدم في هذا المجال لأنه شعر أن الرسوم المتحركة قد تكون أفضل وسيلة تساعد الجمهور في فهم العلوم.
رأى الباحثان أن ما كان ينقص معظم تصورات العالم الخلوي والجزيئي هو المصداقية، فغالباً ما يتم الفصل بين الطرق التي نرسم بها العالم الخلوي والعالم الحيوي الأكبر. لذا من الصعب -على سبيل المثال- تصور العلاقات بين الخلايا التي تشكل الكبد البشري والكبد نفسه، والأكثر صعوبة هو تصور كيفية ارتباط الكبد بالجسم البشري، وكيف يرتبط هذا الجسم البشري بنظمه البيئية الأوسع.
وأعرب الباحثان عن أملهما في أن تحسين هذه التصورات باستخدام البرامج المستخدمة عادة في صنع الأفلام في هوليوود، لن يساعد الجمهور على فهم أفضل لهذه الأنواع من الارتباطات العلمية وحسب، ولكنه سيساعد في تطوير العلم أيضاً، وهذا ما حققه فيلم إنجبر ورايلي بشكل فاق جميع التوقعات.
توظيف علم الفيزياء
إذا بدا غريباً لك أن الرسوم المتحركة الرقمية وبرامج المؤثرات يمكن أن تساهم في تقدم البحث العلمي، فربما أنت لا تدرك كم تعتمد أفلام استوديوهات بيكسار على قواعد علم الفيزياء.
إن الرؤية عند البشر هي عملية بعيدة كل البعد عن المثالية، لكن وبينما نخدع جميعاً بالصور المعدلة بالفوتوشوب-والطريقة التي يمتلئ بها دماغنا بالمعلومات البصرية يمكن أن تؤدي إلى كل أنواع الشرود الذهني- فإننا عندما نشاهد الطريقة التي تتحرك بها الأجسام على الشاشة، سيكون علينا أن نكتشف ببراعة متى تتوقف الحركة.
وإذا لم تكن الحركة صحيحة تماماً، أو لم يكن انعكاس الضوء على السطح يبدو واقعياً بشكل كاف، فسندخل في ما يطلق عليه عالم الروبوتات الياباني ماشيرو موري "الوادي الغريب". تثير الأشياء التي تبدو حقيقية تقريباً حيرتنا، ونميل إلى عدم التصديق، وهو عكس ما تريد أن يفعله الناس أثناء مشاهدة فيلمك.
يقول لوك مور نائب رئيس العمليات الفنية لشركة "سايد إف إكس": "هدفنا كان دوماً تحقيق الواقعية البصرية، وقد وجدنا أنه إذا أردنا إخراج أعمال فنية واقعية، فنحن بحاجة إلى قوانين فيزيائية بالغة الدقة، وكانت النتيجة أن صنعنا محاكاة علمية".
وقد قامت شركة "سايد إف إكس" بصنع تأثيرات بصرية وأداة رسوم متحركة ثلاثية الأبعاد تسمى "هوديني" Houdini، وهو ما استخدمه إنجبر ورايلي في عملهما في بادئ الأمر. ويعود الفضل لهوديني في تأثيرات المحيطات، والانفجارات، والنيران، والضباب، في مسلسل لعبة العروش، وقصر إيجو في فيلم حراس المجرة 2، بالإضافة إلى مجموعة كاملة من الألعاب، حيث تعمل بشكل وثيق مع شركات مثل "إليكترونيكس آرتس".
ويشبّه رايلي طريقة "هوديني" في العمل بتكوين لغة برمجة بصرية، حيث يصبح المستخدمون قادرين على استخدام الحدس- وهو الطريقة التي ستستخدمها أنت مع أي من برامج التحرير البصرية التقليدية- ولكن بدلاً من فرشاة الطلاء، يمكنك استخدام العمليات الحسابية والقواعد للاستكشاف الفني. وتستخدم "هوديني" نفس المبادئ الفيزيائية التي تدعم برمجيات النمذجة العلمية، لكنها تختلف عن باقي النماذج العلمية حيث تضع سرعة التنفيذ في مقدمة أولوياتها، بينما تهتم النماذج العلمية بالدقة فتكون بذلك بطيئة جداً.
يقول رايلي: "تتيح لك "هوديني" إنتاج عمل يبدو جيداً، تعرف أين خرجت عن القواعد وأين اتبعتها، وبهذا يمكنك أن تعيد النظر فيما صممت". وتعد هذه المرونة ضرورية في حالة نمذجة الأنظمة الحيوية، لأن البيانات التجريبية غير دقيقة بما يكفي، فالبرامج الهندسية التقليدية لا تتناسب معها دائماً. وقد سمحت "هوديني" للباحثين بتطبيق أنواع مختلفة من التقييم لمجموعات مختلفة من البيانات، حتى يتمكنوا من المزج والمطابقة والاستكشاف بشكل حدسي.
وبدلاً من أن تقوم المقاتلة إكس-وينج في أفلام حرب النجوم بفتح النار على محطة "نجم الموت"، فإن إنجبر ورايلي اختارا الحيوانات المنوية التي تستهدف نوعاً مختلفاً من المحطات المنهِكة للطاقة، خلال سباقها لتخصيب إحدى البويضات. وكان التصور الدقيق لذيل الحيوان المنوي المسمى الخيط المحوري حاسماً بالنسبة لفيلمهما، وهو أنبوب مكون من تسعة أزواج من الأنيببات الدقيقة مرتبة في عمود حول زوج مركزي طويل، وكان تحريكه بشكل صحيح يعني الوصول إلى نموذج حيوي دقيق وصولاً إلى المستوى الذري.
يقول إنجبر إن الحركية الجزيئية تستخدم إحدى طريقتين للتنبؤ بالتغيرات في الشكل والوظيفة. ويمكن للعلماء أن يجعلوا الجزيء صلباً - تجميده في مكانه بشكل أساسي- حتى ولو كانت الجزيئات دائماً تهتز وتواجه المرونة والأشكال المختلفة. وهذا ما يؤمن دقة عالية بالفعل، كلقطة سريعة لشخص ما، لكنك لا تستطيع أن تحدد إذا كان هذا الشخص يرقص أم يسقط. كما يمكن استخدام المجهر الإلكتروني فائق البرودة، وهو ابتكار فاز حديثاً بجائزة نوبل لعام 2017، وهذا ما يظهر الجزيئات في جميع حالاتها: الاهتزاز، والتأرجح، والتموج، ولكن بدقة منخفضة نسبياً.
وعادة، لا توجد طريقة سهلة لحل هذه الأنواع المختلفة من المعلومات، ويشبه الأمر قراءة الرموز التعبيرية للهواتف التي تعمل بنظام آي أو إس على هواتف أندرويد. لكن تقنيات برامج الرسوم المتحركة سمحت لإنجبر ورايلي ببناء النموذج في مستويات مختلفة في الوقت نفسه، وبعمل التعديل حتى تصبح الأجزاء مناسبة لبعضها، ومراجعة البيانات مرة أخرى للتأكد من مطابقتها. وهذا أمر يشبه تجميع لعبة اللغز بقطعة واحدة فقط من الصورة، حيث سيكون هناك محاولات وأخطاء أكثر من المعتاد، ولكن بعد مرحلة معينة، سيكون هناك طريقة واحدة فقط لمطابقة الصورة بناء على البيانات التي تملكها. والقدرة على الحركة بين المستويات هي ما مكن الباحثين من الوصول إلى تصور جديد لكيفية قيادة المحركات الجزيئية التي تدعى "داينين" للحركة داخل ذيل الحيوان المنوي.
تلتصق بروتينات داينين على طول الأنابيب الدقيقة، ويغير الداينين شكله عندما يتحول جزيء يسمى أدينوسين ثلاثي الفوسفات ATP إلى أدينوسين ثنائي الفوسفات ADP في موقع ارتباط محدد على البروتين، والذي يحرر الطاقة عندما تتفكك الرابطة الكيميائية. عندما يحدث ذلك، فإن الطريقة التي يغير بها الداينين شكله تضغط على الأنيبيب الدقيق، والذي بدوره يجعل ذيل الحيوان المنوي ينحني ويتحرك. فإذا كان الداينين هو المحرك، فإن الأدينوسين ثلاثي الفوسفات هو الوقود. ويتبدل الداينين مرة أخرى عندما يرتبط الأدينوسين ثلاثي الفوسفات بالموقع، مسبباً نوعاً من الحركة المتذبذبة التي تعرف بها الحيوانات المنوية. وكان الباحثان قادرين على تصور كيفية عمل صفوف الداينين في انسجام تام، بشكل يشبه عمل المجدافين في القارب.
هذه المعلومات لم نكن لنتمكن من تصورها في غياب أدوات النمذجة في الأفلام.
الخروج من صومعة العلم
لم تشارك "سايد إف إكس" مباشرة في الدراسة التي استخدمت برامجها، ولكن مور كان سعيداً عندما سمع بالعمل. يقول مور: "أنا سعيد أن أسمع بأن هذا قد بدأ يحدث، وأن هناك المزيد من الناس يتحدثون من منابر مختلفة لا يتحدث منها الناس غالباً، وهو ما فاجأني كثيراً. إن هذا الأمر ينطوي على الكثير من الإمكانيات". وفي هذا السياق لا يعتبر مور الوحيد الذي يفكر بهذه الطريقة.
يعتقد رايلي أن أكبر إنجازاتهما لم يكن في حل لغز حركية الحيوانات المنوية، بل في الكيفية التي استخدموها، وذلك من خلال الاعتماد على أصول وأدوات من مختلف التخصصات. ويرى رايلي فرصاً لا حصر لها للتداخل بين المجالات العلمية والترفيهية فيما يتعلق بدراسة تطوير الأدوية ونمذجة الأمراض.
ويقول رايلي : "تخيل وجود فيلم للخيال العلمي، وكنا نريد صوراً لبعض الفيروسات في هذا الفيلم". يمكن لصانعي الأفلام التعاون مع الباحثين لوضع نموذج للفيروس، وسوف ينتهي الفيلم مع تصورات في منتهي الدقة للفيروس، في حين يمكن للعلماء أن يتعلموا بالفعل عن الفيروس في هذه العملية.
يقول إنجبر: "يتضمن عمل كهذا عمل مضن، الكثير من الاجتماعات وتخطي الحاجز بين العلم والفن. لقد كان الفنانون هم دوماً من حاول فهم الحقائق العلمية من أجل توصيلها للجمهور ، وكان العلماء لا يهتمون بذلك بل وينظرون له بترفع، لأن هذه الأعمال الفنية لن تساهم في تقدم العلم. لكن ما حققناه هو حالة حية تمثل كيف يمكن لتقدم في مجال الفنون والترفيه أن يدفع العملية العلمية قدماً، واعتقد أن هذا ما يثير حماستنا"
لذلك في المرة القادمة التي تشاهد فيها إقبالاً صيفياً على فيلم مليء بالتأثيرات المتحركة الرقمية، اسأل نفسك كم سيكون رائعاً أن يساعد العمل الرقمي العلماء على معرفة كيفية محاربة أحد الأمراض المميتة.
لمشاهدة الفيلم: