تقع بحيرة غروم (Groom) على بعد نحو 128 كيلومتراً إلى الشمال الغربي من مدينة لاس فيغاس. تُعد البحيرة المسطحة والجافة والملساء واحدة من البحيرات العديدة في صحراء نيفادا، وتشبه إلى حدٍّ كبير بحيرة روجرز (Rogers) الجافة الموجودة بالقرب من قاعدة إدواردز التابعة لسلاح الجو في ولاية كاليفورنيا الأميركية. مثّلت هذه الأماكن الصحراوية، التي لا يمكن للناس العيش فيها، مصدراً مثالياً للموارد التي استفادت منها الولايات المتحدة خلال القرن العشرين.
على سطح البحيرة الجافة، وهي مكان مثالي لهبوط الطائرات، وبعيداً عن أعين المتطفلين المدنيين، يمكن للقوات الجوية اختبار طائرات جديدة ومبتكرة، مع الحفاظ على السرية بفضل التربة الغبارية المحيطة بالمنطقة، التي تساعد في إخفاء الاختبارات التي يجريها سلاح الجو الأميركي. إذا لم يكن اسم بحيرة غروم مألوفاً، فذلك لأنها تُعرف أيضاً باسم آخر: المنطقة 51.
اقرأ أيضاً: تسبب التغير المناخي بكشف الستار عن أحد الأسرار العسكرية للولايات المتحدة
لعقود من الزمن، كان سلاح الجو الأميركي يعمل على إخفاء عملياته والحفاظ على سريّة نشاطاته في بحيرة غروم والمنطقة 51 على نحو متعمّد. تأسست القاعدة في عام 1955، لكن لم يعترف سلاح الجو بوجودها حتى عام 1998. إذ سبق له أن ذكر بإيجاز أن وزارة الدفاع وسلاح الجو لا يمتلكان أو يديران أي موقع يُعرف باسم المنطقة 51. ثمة مجموعة متنوعة من الأنشطة، بعضها سرّي، في جميع أنحاء ما يسمى مجمع قاعدة نيليس رينج (Nellis Range Complex) التابع لسلاح الجو. يوجد موقع للعمليات بالقرب من بحيرة غروم الجافة. لا تزال الأنشطة والعمليات المحددة، التي أُجريت في قاعدة نيليس رينج، سواء في الماضي أو في الحاضر، سرية ولا يمكن مناقشتها علناً.
لكن حتى قبل ذلك، ظهرت المنطقة 51 عدة مرات في سلسلة من ألعاب منصة أركيد الشهيرة، التي أنتجتها شركة أتاري (Atari) في عام 1995، كما كانت جزءاً أساسياً من الأحداث الرئيسية في فيلم الخيال العلمي الذي صدر في عام 1996 بعنوان "يوم الاستقلال" (Independence Day)، الذي يتحدث عن غزو فضائي، ومنذ ذلك الحين، لا تزال هذه المنطقة عنصراً رئيسياً في الأعمال الخيالية ونظريات المؤامرة المتعلقة بالأبحاث السرية حول الكائنات الفضائية.
تُعد المنطقة 51 ثاني أكثر المناطق التي يتخيلها الناس عندما يعتقدون أن الحكومة الأميركية تُخفي وجود الكائنات الفضائية، إذ تأتي بعد منطقة روزويل (Roswell) في ولاية نيو مكسيكو. على الرغم من أن المنطقة 51 تشتهر بارتباطها بالنشاط الفضائي، فهي تؤدي أيضاً دوراً مهماً في تطوير التكنولوجيا العسكرية المتقدمة فيما يتعلق بالأمن القومي. أدّى الحفاظ على سرية الموقع جزئياً إلى زيادة التكهنات حول طبيعة الأنشطة التي تجري فيه. خلال هذه الفترة، تمكّن كل من سلاح الجو ووكالة الاستخبارات المركزية من اختبار طائرات التجسس في الصحراء الواسعة بدرجة معينة من الخصوصية.
ما الأسرار التي تخفيها طائرة الاستطلاع يو- 2 (U-2)؟
في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، عندما انفصل سلاح الجو الأميركي عن الجيش ليصبح جناحاً مستقلاً، بدأ بالبحث عن طائرة تجسس تساعده في جمع المعلومات الاستخباراتية بحيث تكون هذه الطائرة قادرة على التحليق لمسافات كبيرة وعلى ارتفاعات عالية وتتمتع بالقدرة على البقاء في الجو لفترات طويلة. كان هذا في بداية الحرب الباردة، إذ كانت توجد محاولات سابقة للتجسس على الاتحاد السوفييتي باستخدام المناطيد، لكنها لم تحقق نجاحاً كبيراً. وفّرت الطائرة مزيداً من التحكم، وكان السبب في ذلك الوقت هو أن الطائرة التي تحلّق على ارتفاعات عالية يمكن أن تبقى خارج نطاق الرادار والصواريخ السوفيتية.
اقرأ أيضاً: لماذا تطير الطائرات على ارتفاعات مختلفة وما علاقة الأرقام الفردية والزوجية بذلك؟
تجسَّدت هذه الطائرة في النهاية في شكل طائرة الاستطلاع يو- 2 (U-2)، التي لا تزال في الخدمة حتى اليوم (على الرغم من أن التمويل اللازم لبناء الطائرة وتطويرها كان من وكالة الاستخبارات المركزية وليس من سلاح الجو). في أثناء البحث عن مكان لاختبار الطائرة الجديدة وتطويرها، لاحظ فريق تصميم الطائرة بحيرة غروم الجافة، الواقعة في صحراء نيفادا، من الجو، ثم هبطت الطائرة على هذا المسطَّح الجاف، ما أثبت جدوى الموقع وإمكانية استخدامه للاختبارات.
في النهاية، بُني مدرج معبَّد على بحيرة غروم الجافة. اشترت لجنة الطاقة الذرية مساحة الأرض، وكانت حدود المنطقة 51 متاخمة لما سيصبح موقع اختبارات نيفادا، حيث فجّرت الولايات المتحدة الرؤوس الحربية النووية أولاً في الهواء الطلق، ثم تحت الأرض.
تظهر حدود المنطقة 51 في الخرائط الحالية غير السرية على شكل مستطيل صغير يجاور الزاوية الشمالية الشرقية من موقع اختبار نيفادا الذي يُعد أكبر بكثير. وفقاً لتقرير صادر عن وكالة الاستخبارات المركزية في عام 1998 حول برنامج الطائرة يو-2، الذي سُمح بنشره في عام 2013، أطلق المهندس في شركة لوكهيد (Lockheed)، كيلي جونسون (Kelly Johnson)، اسم مزرعة الجنة (Paradise Ranch) على هذه المنشأة الجديدة في الصحراء لجذب العمال للعمل فيها، ثم اختُصر الاسم لاحقاً إلى المزرعة (Ranch).
كانت السرية السمة البارزة في المنطقة 51 منذ بدايتها، لكن بمرور الوقت أصبح من الصعب تمييز إذا ما كانت المشاهدات الغريبة التي يُبلغ عنها تتعلق برحلات طائرات التجسس، أو بالأجسام الطائرة المجهولة (UFO)، التي تثير الكثير من التساؤلات والجدل. في عام 1947، انتشرت حالة من الذعر بسبب ظهور أطباق طائرة، ما أدى إلى إجراء تحقيقات وظهور تقارير حول هذه الطائرات المجهولة، وهذا ما أسهم في ترك ذكرى مأساوية لا تُنسى لحادث تحطم منطاد مراقبة خارج مدينة روزويل في ولاية نيومكسيكو.
جمع مشروع الكتاب الأزرق (Project Blue Book)، وهو تحقيق رسمي أجراه سلاح الجو حول الأجسام الطائرة المجهولة، تقارير عن مشاهدات رسمية، يمكن تجاهل معظمها بوصفها ظواهر طبيعية. تجاهل سلاح الجو فئة من هذه التقارير داخلياً، لكنه لم يستطع الاعتراف بها علناً حتى عام 1992، إذ تضمنت هذه التقارير عدد رحلات الطائرة الاستطلاعية يو-2، التي أُبلغ عنها على أنها أجسام طائرة مجهولة.
اقرأ أيضاً: لماذا زادت مشاهدات الأجسام الطائرة مجهولة الهوية بالولايات المتحدة؟
السماء المفتوحة والأسرار الغامضة
كانت الطائرة يو-2 أول طائرة سرية جرى تطويرها واختبارها وتشغيلها في المنطقة 51، لكنها بالتأكيد لم تكن الأخيرة. إذ اختُبِرت طائرة التجسس أيه-12 أوكسكارت (A-12 Oxcart) ذات المقعد الواحد، التي تحلّق على ارتفاعات عالية، في المنطقة 51 في الستينيات، وذلك قبل بدء خدمتها القصيرة بالتحليق في سماء فيتنام. كما اختُبِرت خليفتها، إس آر-71 بلاك بيرد (SR-71 Blackbird)، ذات المقعدين، في المنطقة 51 أيضاً، ما يشير إلى أهمية الموقع بوصفه مكاناً لتطوير الطائرات المخصصة لأداء المهام السرية بعيداً عن أنظار الناس.
بالإضافة إلى اختبار تقنية التخفّي الجوي وتطويرها في المنطقة 51، إذ أصبحت هذه التقنية الآن سمة مميزة للطائرات، مثل عائلة إف-22 (F-22) وإف-35 (F-35). في عام 1977، اختبر مكتب المشاريع الخاصة بسلاح الجو الأميركي طائرة هاف بلو (HAVE BLUE)، وهي نموذج لتقنية التخفّي الجوي، في المنطقة 51. تعرضت كلتا النسختين من هذه الطائرة لحوادث تحطم خلال مراحل الاختبار، ودُفن حطامهما في الصحراء.
قبل وقوع الحوادث، جُمعت معلومات كافية بحيث يمكن أن يستمر تطوير طائرات أخرى تتميز بتقنية التخفي الجوي. اختُبِرت طائرة إف-117 (F-117)، وهي أول طائرة مقاتلة خفية، لأول مرة في المنطقة 51، قبل الانتقال إلى قاعدة مختلفة أكبر في ولاية نيفادا يمكن أن تستوعب سرباً كاملاً.
إلى جانب تطوير التقنيات الجديدة، استضافت المنطقة 51 الطائرات الأجنبية، التي حصل عليها سلاح الجو من المنشقّين عن الدول الأجنبية، ما سمح للجيش الأميركي بالتعرف إلى التكنولوجيا التي تستخدمها الدول الأخرى في طائراتها. ومن الأمثلة على ذلك، استعارت الولايات المتحدة طائرة ميغ-21 في عام 1968، إذ كان يقود هذه الطائرة طيار عراقي منشق. سمح هذا الحادث للولايات المتحدة بالحصول على فرصة فريدة لدراسة هذه الطائرة المقاتلة الأكثر تصنيعاً في التاريخ، التي كانت في ذلك الوقت تخدم بكفاءة خلال حرب فيتنام.
اقرأ أيضاً: ماذا جاء في أول اجتماع علني لوكالة ناسا لمناقشة قضية الأجسام الطائرة؟
في مارس/ آذار عام 1994، نشرت مجلة بوبيولار ساينس (Popular Science) مقالاً بعنوان "البحث عن أسرار بحيرة غروم" (Searching for the Secrets of Groom Lake)، الذي تناول تطور المنطقة 51 وتاريخها، وذلك بعد طلب ناجح تقدَّم به سلاح الجو للحصول على 1600 هكتار من الأراضي حول الموقع، التي تعود ملكيتها لمكتب إدارة الأراضي. كان ذلك للحد من تجسس المدنيين والصحفيين على النشاطات العسكرية في الموقع. تضمّن هذا المقال صورة جوية للموقع التقطتها هيئة المسح الجيولوجي الأميركية في عام 1968، وصورة التقطها قمر تجسس روسي في عام 1988، التي أصبحت فيما بعد متاحة للاستخدام التجاري.
في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2006، نشرت مجلة العلوم للعموم (Popular Science) مقالاً بعنوان "أسرار جديدة حول المنطقة 51" (New Secrets of Area 51)، الذي استكشف أنواعاً مختلفة من الطائرات دون طيار وغيرها من الطائرات التي طُوّرت في الموقع. من بين تلك الطائرات التي تناولها المقال طائرة "أورورا" (Aurora)، وهي طائرة فائقة السرعة تعمل بمحرك نفاث، إذ كانت نادرة في عالم الطائرات السرية.
ألا توجد كائنات فضائية؟
على الرغم من أن بحيرة غروم والمنطقة 51 استضافتا العديد من الأنشطة السرية، لا يوجد شيء يدل على وجود التكنولوجيا السرية المرتبطة بالكائنات الفضائية، التي تشتهر بها هذه المنطقة في الثقافة الشعبية. يعود بعض هذه الادّعاءات إلى بث تلفزيوني عُرض في عام 1989 على محطة كلاس (KLAS) في مدينة لاس فيغاس، إذ ظهر رجل يدعى بوب لازار (Bob Lazar)، يدّعي أنه عالم فيزياء وظّفته الحكومة لإعادة هندسة أنظمة الدفع لمركبة فضائية على شكل صحون طائرة فضائية.
إن سرية هذا الموقع والطبيعة المثبتة للأبحاث السرية فيه منذ عقود تثير شكوك الناس وتدفعهم إلى مزيد من التكهنات والاستنتاجات. على الرغم من وجود برامج معروفة مرتبطة بالمنطقة 51، وتوفر صور الأقمار الصناعية للقاعدة، لا يزال الغموض المحيط بهذه المنطقة ومحتوياتها كافياً لإثارة التكهنات والتخمينات.
اقرأ أيضاً: هل توجد كائنات فضائية؟ لا تتسرع في الإجابة
إن ما يكشفه تاريخ المنطقة 51 بالفعل، بالنسبة لأولئك الذين يرغبون في تجاهل التكهنات التي لا أساس لها حول المركبات الفضائية، هو نتاج عقود من التطوير في مجال الطيران والأسرار المتعلقة به، التي كانت غير معلنة وسرية حتى أُعلنت في الأخبار.