هل يمكن إلغاء صوت الصدى؟ وما الفائدة العلمية من ذلك؟

ما الغرف العديمة الصدى، وما استخداماتها؟
هذه المواشير الموضوعة بزوايا غريبة قادرة على امتصاص الصوت. شارلوت هو

أحد أهدأ الأماكن في مدينة نيويورك هو غرفة بحجم 14.7 متراً مكعباً تقع على أطراف حي القرية الشرقية. تقبع هذه المساحة الصغيرة خلف باب سحبٍ ثقيل، وهي مكسوّة في جوانبها بنتوءات غريبة من الألياف الزجاجية الموشوريّة الشكل. بدلاً من الأرضيات الخشبية الصلبة أو المغطاة بالسجاد، تحتوي الغرفة على شبكة معدنية رقيقة يستطيع الزوار المشي عليها ويوجد تحتها المزيد من المواشير المصنوعة من الألياف الزجاجية.

هذه الغرفة هي غرفة عديمة الصدى بالكامل، وهي الوحيدة في مدينة نيويورك. لا تحتوي الغرفة على أي شيء غامض، ولكن ما يسودها هو الصمت فقط. يعني تعبير "عديمة الصدى" غياب صدى الصوت. هذه الغرفة هي المكان الأنسب لدراسة علم الصوت.

ما هي الغرف عديمة الصدى؟

وسيشعرك الوجود فيها أنك تعيش داخل زوج ضخم من سماعات الرأس العازلة للضوضاء. يبدو الكلام في الغرفة أنعم وأهدأ وأكثر توازناً. يسمع البعض صوت نقر ينجم عن ضغط الهواء في الأذن عندما يدخلون هذه الغرفة. على الرغم من أن الغرفة بدت هادئة تماماً بالنسبة لي، أثبتت لي أستاذة الهندسة الميكانيكية في كلية ألبرت نيركن للهندسة في جامعة كوبر يونيون، ميلودي باغليون، أننا لا نختبر الصمت المطلق في هذه الغرفة بالفعل.

بينما جلسنا محافظين على سكوننا وصمتنا في الغرفة، انخفضت القراءة على مقياس مستوى الصوت الذي حملته باغليون إلى نحو 18 ديسيبل. وعندما أجرينا القياس نفسه في مختبر الاهتزاز والصوتيات، بلغ مستوى الصوت المحيط نحو 40 ديسيبل. الواحدة التي يقيسها هذا الجهاز هي ضغط الصوت بالديسيبل، ولكنه أكثر حساسية للترددات التي تتمتع الأذن البشرية بحساسية أكبر تجاهها.

اقرأ أيضاً: ما هي الأنفاق الهوائية؟ وما النقلة التي ستُحدثها في رحلات الفضاء؟

الصوت هو عبارة عن موجة ضغط يولّدها جسم مهتزّ. تحرّك هذه الموجة الجزيئات في الأوساط المحيطة مثل الهواء والماء أو المواد الصلبة. وعندما تدخل الموجات الصوتية إلى أذن الإنسان، فهي تتحرك على شكل اهتزازات ميكانيكية عبر غشاء يشبه الطبل ينقلها إلى بصيلات شعرية ترسل بعد ذلك إشارات كهربائية إلى الدماغ. يتسبب التلف في هذه البصيلات بفقدان السمع. تقع البصيلات الشعرية التي تنقل الترددات الصوتية الأعلى في نهاية هذا المسار، وهي تميل للاستجابة إلى الاهتزازات قبل غيرها.

تقبع هذه الغرفة خلف باب ثقيل. شارلوت هو

تقول باغليون: "الأصوات ذات الترددات الأعلى لها أطوال موجية أقصر. لذلك، تتفاعل الموجات الصوتية ذات الترددات الأعلى مع المواشير الموجودة في الغرفة العديمة الصدى بمعدل أكبر من الموجات ذات الترددات المنخفضة. من ناحية أخرى، تقابل الترددات المنخفضة أطوالاً موجية أكبر، وهي صعبة الامتصاص وتتطلب غرفة أكبر". بالإضافة إلى ذلك، يُسقط الطلاب الأغراض على الأرض أحياناً، ويتسبب تشكّل العيوب في الموشورات بانعكاس الصوت.

العقارات في مدينة نيويورك باهظة الثمن. لذلك، فإن هذه الغرفة صغيرة الحجم نسبياً مقارنة بتلك الموجودة في قواعد سلاح الجو الأميركي أو منشآت الاختبار في شركات صناعة السيارات. خضعت مجموعة متنوعة من المشاريع للاختبار في الغرفة العديمة الصدى في جامعة كوبر يونيون. أجرى الطلاب اختبارات كشفوا فيها سمات أصوات الطائرات من دون طيار للتوصل إلى طرق لإلغاء هذه الأصوات. وقارنوا جودة صوت الكمان التقليدي بجودة صوت الكمان المصنوع باستخدام الطابعات الثلاثية الأبعاد. كما اختبروا محرك احتراق داخلي بهدف تحسين تصميم أجهزة كتم الصوت، واختبروا طرق تحديد موقع الصوت التي تطبّقها الروبوتات وحتى نظّارات الواقع الافتراضي. تقول باغليون إن العديد من الجهات يقدّم مقترحات جديدة لاستخدام الغرفة على نحو دائم.

تؤثّر الأذن في طريقة إدراكنا للصوت. شارلوت هو

ما آلية عمل الغرف العديمة الصدى؟

الضوضاء والانعكاسات والأصداء موجودة في كل مكان حولنا دائماً. يتطلب تصميم مساحة تكتم الأصوات جميعها باستثناء الصوت الأصلي استخدام المواد بحرفية ومعرفة عميقة بالفيزياء والهندسة.

يقول مدير الأبحاث في شركة نوكيا بيل لابز، بول ويلفورد: "جودة الصوت نسبية جداً غالباً، وتتعلق بالإدراك والخبرات السابقة والتوقعات. تعلّمنا في أثناء عملنا، الذي نجري أغلبه في إحدى الغرف العديمة الصدى، أن الصوت الذي نسمعه مباشرة من مصدر ما قد يتمتّع في الواقع بدرجة أخفض من الصوت الذي ينعكس عن الجدران أو يتردد صداه عبر غرفة ما". الغرفة التي يشير إليها ويلفورد هي تلك الموجودة في حيّ موراي هيل في ولاية نيوجيرسي، التي كانت الأولى من نوعها. بُنيت الغرفة في عام 1947، وهي قيد التجديد حالياً.

تمثّل دراسة الصوت جزءاً مهماً من نشاطات شركة نوكيا باعتبارها شركة اتصالات. واحتاجت هذه الشركة إلى التوصل إلى طريقة لقياس جودة الصوت حتى يتمكّن الخبراء فيها من تصميم ميكروفونات ومكبرات صوت وأجهزة أخرى أكثر جودة. يقول ويلفورد: "صُممت الغرفة العديمة الصدى بطريقة تجعلها وسطاً فعالاً وجهاز قياس وأداة صوتية يمكن إجراء قياسات صوتية عالية الجودة وموثوقة وقابلة للتكرار فيها".

اقرأ أيضاً: طائرة صينية أسرع من الصوت تستطيع التحليق من بكين إلى نيويورك خلال ساعتين فقط

يمكن أن ينعكس الصوت في وسط ما أو ينتقل عبره، كما يمكن أن يمتصه الوسط. من خلال دراسة فيزياء انتشار الصوت عبر الهواء، ابتكر الباحثون في بيل لابز مواشير مصنوعة من الألياف الزجاجية التي تحتوي على مادة رغوية والمغلّفة بشبكة سلكية. تُطابَق شدة ممانعة هذه المادة مع ترددات الموجات الصوتية الواردة حتى تتمكن من امتصاص هذه الموجات بدلاً من عكسها. تصطدم الموجات الصوتية بهذه المواشير التي يبلغ طول كل منها متراً ونصف وتُحتجر فيها. الشكل الموشوري هو التصميم المعياري المعتَمد في الغرف العديمة الصدى.

ويقول ويلفورد: "ما يعنيه ذلك هو أنه إذا وقفت في تلك الغرفة وولّد مصدر ما الصوت، كل ما ستسمعه هو الصوت المباشر لهذا المصدر. الصوت الذي ستسمعه هو الصوت النقي بمعنى ما". إذا احتوت الغرفة على شخصين استدار أحدهما تجاه الحائط وتحدّث، فلن يتمكن الشخص الآخر من سماع صوته. يقول ويلفورد: "هناك غرف أخرى عديمة الصدى حول العالم الآن، ويمكن تكرار هذه التجارب والحصول على النتائج نفسها في الغرف المختلفة بسبب خصائص هذه الغرف".

ما استخدامات الغرف العديمة الصدى؟

هناك عدة طرق لتحليل الصوت في هذا النوع من الغرف العديمة الصدى؛ إذ يستطيع العلماء تحديد سمات الصوت المنعكس من خلال تحديد المدة التي يستغرقها تلاشي صوت معين. توجد في شركة بيل لابز ميكروفونات اتجاهية عالية الجودة توضع في نقاط حيوية في الغرفة بالإضافة إلى معدات تحدد موقع هذه الميكروفونات في الفضاء الثلاثي الأبعاد. يستطيع الخبراء في هذه الشركة استخدام محللات الطيف الصوتي التي تحدد الاستجابة الترددية لهذه الميكروفونات. كما يمكنهم تحريك مكبر الصوت في مسارٍ منحنٍ حول الميكروفون لتحديد كيفية تغيّر الصوت تبعاً لموقع الموجات الصوتية. يستطيع الخبراء أيضاً مزامنة الأصوات وقياس أنماط تداخل موجاتها.

الغرف العديمة الصدى المكتملة تحتوي على المواشير في أرضياتها أيضاً. شارلوت هو

استُخدمت الغرف العديمة الصدى لاختبار العديد من الابتكارات منذ إنشائها أول مرة. اختُرع ميكروفون الإلكتريت الذي حل محل الميكروفونات المكثِّفة الأقدم والأعقد في بيل لابز. واختبرت استجابته الترددية في غرفة عديمة الصدى، وكذلك الأمر بالنسبة لأدائه. أمكن تطوير أحد منتجات شركة أيه تي آند تي الذي ساعد على تحسين جودة الصوت في المكالمات الهاتفية البعيدة المدى نتيجة فهم انعكاسات الصوت التي تحدث في الشبكة وصياغة العلاقات الرياضية المتطلبة لإلغاء إشارات الضوضاء.

اقرأ أيضاً: تكنولوجيا جديدة لمنع الصواعق تعتمد على أشعة الليزر

يقول ويلفورد إن الغرفة العديمة الصدى الموجودة في ولاية نيوجيرسي استُخدمت مؤخراً كثيراً لدراسة ما يدعى بالتوائم الرقمية، وهي آلية تكنولوجية يمكن استخدامها لإنشاء خريطة للعالم المادي في بيئة افتراضية. يجب أن يعكس جزء من هذه الخريطة الدقيقة الظواهر الصوتية. يمكن أن تساعد الغرف العديمة الصدى الباحثين على فهم الظواهر الصوتية المكانية؛ أي دراسة ظاهرة الموجات الصوتية الحقيقية في مساحة معينة وكيف يمكن أن تتغير في أثناء تحرّك الأجسام عبرها. ستتمتع الغرفة بخصائص تحديد الموقع الأكثر كفاءة بعد التحديثات، ما سيتيح للباحثين التوصل إلى طرق لاستخدام الصوت لتحديد مكان الأجسام في تطبيقات إنترنت الأشياء.

قال لي ويلفورد قبل زيارتي للغرفة العديمة الصدى في جامعة كوبر يونيون إن وجودي في هذا الغرفة سيعيد ضبط حواسي. ازدادت قدرته على إدراك خصائص الصوت في العالم الحقيقي بعد قضاء الوقت في هذه الغرفة؛ إذ إنه أصبح قادراً على أن يغمض عينيه في غرفة الاجتماعات ويحدد موقع المتحدث وإذا ما كان يقترب أو يبتعد بالاستعانة بكيفية تغيّر صوته فقط. أصبحت ضوضاء الخلفية التي تجاهلها عقله من قبل واضحة فجأة.

بعد خروجي من المختبر في جنوب مانهاتن، أصبحت قادرة على ملاحظة كيفية ارتداد الأصوات عن جدران المصعد المعدني، وكيف يتغيّر صوت مكيف الهواء قليلاً عندما أدير رأسي. وأصبح ضجيج الخلفية في الشوارع أوضح وأعلى بالنسبة لي.

المحتوى محمي