قبل أكثر من 1.5 مليارات سنة، وقع حدث بالغ الأهمية في تطور الحياة، وهو توحّد خليتين صغيرتين بدائيتين. غيّر هذا الاندماج مسار التطور على كوكب الأرض جذرياً، ربما أكثر من أي حدث آخر باستثناء منشأ الحياة نفسها.
أدّى هذا الحدث إلى دخول واحدة من الخليتين إلى الأخرى وتطورها إلى بنية يتعلّم الأطفال في المدارس أن يشيروا إليها باسم "مصدر الطاقة"، وهي المتقدّرة. وفّرت هذه البنية أفضلية طاقية هائلة لمضيفتها، تمثّل شرطاً مسبقاً للتطور اللاحق لأنواع الحياة المعقّدة والمتعددة الخلايا.
ولكن هذا ليس كل ما حدث. المتقدّرات ليست البنية الوحيدة المهمة في خلايا حقيقيات النوى المعقدّة؛ إذ تحتوي هذه الأخيرة أيضاً على النوى المغلفة بالأغشية، وهي الأجزاء التي تحرس الجينوم. وهناك أيضاً نظام كامل من الأغشية الداخلية، مثل الشبكة الهيولية الباطنة وجهاز غولجي والجسيمات الحالّة والجسيمات التأكسدية والفجوات العصارية، كلها عناصر ضرورية لتركيب البروتينات وغيرها من المواد ونقلها وإعادة تدويرها داخل الخلية وحولها.
ما هو منشأ كل هذه البنى الخلوية؟ هذا سؤال تصعب الإجابة عنه، وذلك لأن الأحداث التي تسببت بظهور هذه البنى وقعت في الماضي السحيق ولا يوجد سوى القليل من الآثار التي يمكن اعتبارها أدلة تطورية. طرح الباحثون فرضيات مختلفة، ولكن لم يتمكّن علماء بيولوجيا الخلية من التحقيق في منشأ هذه البنى المعقدة وتسليط الضوء على أصولها المحتملة إلّا مؤخراً فقط، وذلك بالاستفادة من بعض الأدوات والتقنيات الجديدة.
اقرأ أيضاً: كيف يمكنك صيانة جسمك على المستوى الخلوي لتعيش حياة طويلة؟
حدث اندماج ميكروبي
تعود الفكرة التي تنصُّ على أن حقيقيات النوى نشأت من اندماج خليتين إلى أكثر من 100 عام، لكنها لم تصبح مقبولة أو معروفة حتى ستينيات القرن العشرين، عندما طرحت عالمة البيولوجيا التطورية الراحلة، لين مارغوليس، نظريتها عن عملية التعايش الداخلي. قالت مارغوليس إن المتقدّرات نشأت على الأرجح من فئة من الميكروبات تحمل اسم متقلّبات ألفا، وهي طائفة بكتيرية متنوعة تشمل حالياً البكتيريا التي تتسبب بمرض الحمى النمشيّة ونوع آخر من البكتيريا مهم في تعديل جينات النباتات، وغيرها الكثير.
لم يعرف العلماء شيئاً عن منشأ الخلية المضيفة الأصلية. واقترحوا أنها كانت معقدّة للغاية في المقام الأول، وتحتوي على مجموعة متنوعة من البنى الغشائية. يُفترض أن هذه الخلية كانت قادرة على إحاطة البنى الأخرى وابتلاعها، وهي ميزة معقدّة تتطلب استهلاك الكثير من الطاقة تتسم بها حقيقيات النواة وتحمل اسم البلعمة. قد تكون هذه هي العملية التي اتبعتها الخلايا المضيفة لابتلاع البنى التي تحوّلت إلى المتقدرات لاحقاً.
لكن هذه الفكرة، التي تحمل اسم فرضية المتقدرة المتأخرة، لا تفسّر تعقيد الخلية المضيفة في المقام الأول.
اقترح كلٌّ من عالم البيولوجيا التطورية بيل مارتن وعالم بيولوجيا الخلية سفين غولد وعالم المعلوماتية البيولوجية سريرام غارغ، وجميعهم من جامعة دوسلدورف في ألمانيا، نموذجاً مختلفاً تماماً يحمل اسم فرضية المتقدّرة المبكّرة عام 2016. جادل هؤلاء بأنه من غير المرجّح أن الخلايا كانت تحتوي على البنى الغشائية الداخلية قبل أكثر من 1.5 مليارات سنة لأن الخلايا البدائية الموجودة حالياً لا تحتوي على هذه البنى.
قال هؤلاء إنه بدلاً من ذلك، من المحتمل أن نظام الغشاء الداخلي، وهو كامل الأجزاء الموجودة داخل الخلايا المعقدة اليوم، تطوّر بعد وقتٍ قصير من استقرار متقلّبات ألفا داخل خلية مضيفة بسيطة نسبياً تنتمي إلى فئة تحمل اسم العتائق. من المحتمل أن البنى الغشائية نشأت من فقاعات أو حويصلات، أطلقها أسلاف المتقدرات.
يشير كلٌّ من غولد وغارغ ومارتن إلى أن البكتيريا الحرة تفرز الحويصلات دائماً نتيجة مجموعة متنوعة من الأسباب، لذلك يبدو من المعقول الاعتقاد بأنها ستستمر بذلك عندما تصبح داخل خلية مضيفة.
اقرأ أيضاً: ما الحيل الذكية التي تتبعها الخلايا لنسخ الحمض النووي؟
في نهاية المطاف، من المحتمل أن هذه الحويصلات أصبحت متخصصة في الوظائف التي تؤديها البنى الغشائية اليوم داخل خلايا حقيقيات النوى. من المحتمل أيضاً أن هذه الحويصلات اندمجت مع غشاء الخلايا المضيفة، ما يساعد على تفسير وجود الدهون ذات السمات البكتيرية في غشاء حقيقيات النوى البلازمي.
يقول عالم الكيمياء الحيوية في جامعة أمستردام، ديف سباير، إنه من المحتمل أن الحويصلات أدّت وظيفة أولية مهمة. يُفترض أن المُعايشات الداخلية الجديدة ولّدت الكثير من المواد الكيميائية السامة التي تحمل اسم مركّبات الأوكسجين التفاعلية من خلال أكسدة الأحماض الدهنية وحرقها للحصول على الطاقة. يقول سباير: "تدمّر هذه المركبات كل شيء؛ إذ إنها سامة للغاية، وخصوصاً داخل الخلايا". ويضيف قائلاً إن عزل هذه المركبات داخل حويصلات من شأنه أن يسهم في حماية هذه الخلايا من الضرر.
قال كلٌّ من غولد وغارغ ومارتن إن هناك مشكلة أخرى تتسبب بها هذه المعايشات الدخلية من الممكن أن يعالجها تشكُّل الحواجز الغشائية. بعد وصول متقلّبات ألفا إلى الخلايا المضيفة، اختلطت أجزاء من حمضها النووي مع جينوم المضيف العتائقيّ، ما أدّى إلى تعطيل وظيفة بعض الجينات المهمة. يتطلّب حل هذه المشكلة تطوّر آلية لإزالة هذه القطع الدخيلة، التي تحمل اسم الإنترونات، من النسخ الجينية في الحمض النووي الريبي المرسال، ما يقي من تخريب تعليمات تركيب البروتين هذه.
ولكن تسبب ذلك بمشكلة جديدة. يعمل الجزء المسؤول عن تركيب البروتينات، وهو الريبوسوم، بسرعة كبيرة؛ إذ إنه يربط العديد من الأحماض الأمينية كل ثانية. في المقابل، آلية إزالة الإنترونات في الخلايا بطيئة؛ إذ إنها تزيل نحو إنترون واحد كل دقيقة. لذلك، ما لم تتمتّع الخلية بآلية ما تبقي الرنا المرسال بعيداً عن الريبوسومات حتى يُعالج على النحو الصحيح، ستركّب الخلية العديد من البروتينات العديمة المعنى وغير المفيدة.
تمثّل الأغشية المحيطة بنواة الخلية حل هذه المشكلة. تؤدي هذه الأغشية دور حاجز مكاني؛ إذ إنها تُتيح إتمام عملية قص الرنا المرسال وربطه داخل النواة قبل ترجمته بعد إزالة الإنترونات منه في السائل الداخلي للخلية، وهو العصارة الخلوية. يقول مارتن: "هذا هو الضغط الانتقائي الذي يكمن وراء منشأ النواة". من المحتمل أن الحويصلات التي تفرزها المعايشات الداخلية تسطّحت والتفّت حول الجينوم، مشكّلة حاجزاً يمنع الريبوسومات من الوصول إلى الرنا المرسال ولكنه يسمح للجزيئات الصغيرة بالمرور.
تفسير مقلوب
باختصار، تفسّر فرضية غولد وغارغ ومارتن تطور أجزاء الغشاء الداخلي المنفصلة، وتنصُّ على أن ذلك حدث لحل المشكلات التي ولّدها وجود الضيف الجديد في الخلية. لكن يقول عالم بيولوجيا الخلية في المختبر الأوروبي للبيولوجيا الجزيئية في مدينة هايدلبرغ الألمانية، غوثوم داي، إنه مع ذلك، فهي لا تفسّر تماماً كيف دخلت متقلّبات ألفا إلى الخلية المضيفة في المقام الأول؛ إذ إنها تعتمد على الافتراض الذي ينصُّ على أن المعايش الداخلي يوجد داخل الخلية بالفعل. يقول داي: "هذه مشكلة كبيرة".
هناك فكرة بديلة أخرى اقترحها عالم بيولوجيا الخلية في كلية لندن الجامعية، باز باوم (الذي عمل معه داي سابقاً)، وابن عمّه عالم البيولوجيا التطورية في جامعة ويسكونسن، ديفيد باوم، في عام 2014، وهي تحمل اسم نموذج "من الداخل إلى الخارج". في هذا السيناريو، عاشت متقلبات ألفا والخلايا العتائقية التي أصبحت مضيفات لهذه البكتيريا لاحقاً جنباً إلى جنب على مدى ملايين السنين في علاقة تكافلية حميمة، معتمدة على المنتجات الاستقلابية لبعضها.
اقرأ أيضاً: كيف يمكننا الاستفادة من علوم الأحياء الرياضية في دراسة تشابك الحمض النووي؟
من المحتمل أن الخلايا العتائقية كانت تتمتّع بنتوءات طويلة، مثل تلك التي يتمتّع بها بعض العتائق الحديثة التي ترتبط على نحو وثيق مع الميكروبات الأخرى. من المحتمل أن متقلبات ألفا استقرّت بالقرب من هذه الامتدادات النحيلة.
وربما التفّت هذه النتوءات حول متقلبات ألفا في النهاية وغلّفتها تماماً. لكن خلال الفترة الزمنية الطويلة التي سبقت وقوع هذا الحدث، من المحتمل أن الخلايا العتائقية احتوت على أقسام مختلفة تحتوي على أجزاء تؤدي وظائف مختلفة؛ إذ إنه من المحتمل أن عمليات معالجة المعلومات كانت تُجرى في مركز الخلية، حيث يوجد الجينوم، بينما أجريت العمليات مثل تركيب البروتينات في العصارة الخلوية داخل النتوءات.
يقول باز باوم إن ما يميّز هذا النموذج هو أنه وفقاً له، كان لدى الخلايا ما يكفي من الوقت لتطوّر آليات لتنظيم كل من عدد المتقدرات والأجزاء الغشائية الأخرى التي ستصبح داخلية تماماً قبل ابتلاع متقلبات ألفا بالكامل. يقول باز باوم: "لن تبقى الخلية على قيد الحياة إذا لم تتمكّن من التحكّم بالمتقدرات".
يفسّر هذا النموذج أيضاً شكل نوى الخلايا. وبدقة أكبر، فهو يفسّر الكبر غير العادي لمسام هذه النوى. يقول باز باوم إنه عند النظر إلى النتوءات الطويلة من داخل مراكز الخلايا العتائقية، فهي تبدو كفتحات يمكن أن تتحول على نحو طبيعي إلى مسام كبيرة.
الأهم من ذلك هو أن نموذجاً من الداخل إلى الخارج يفسّر كيفية دخول متقلبات ألفا إلى المضيفات العتائقية في المقام الأول.
مع ذلك، يولّد هذا النموذج بعض السمات التي يجب تفسيرها. على سبيل المثال، فهو يتنبأ بأن المتقدرات ستصل إلى موقع ليس هو موقعها الصحيح، داخل الشبكة الهيولية الباطنة، وهي شبكة من الأنابيب التي تقع عليها الريبوسومات التي تركّب البروتينات في الخلية، بينما تلتف النتوءات العتائقية حولها. لذلك، يجب أن يصف النموذج خطوة إضافية تدخل فيها متقلبات ألفا إلى الهيولى (السيتوبلازم).
ينصُّ اعتراض مارتن الرئيسي على هذا النموذج على أنه لا يتضمن عامل ضغط تطورياً من شأنه أن يتسبب بتشكّل النواة أو غيرها من الأجزاء المحاطة بالأغشية في المقام الأول؛ إذ يقول إن هذا النموذج "يحتوي على العيوب".
النواة: لغز في مركز الخلية
على الرغم من أن النماذج تتفق على أن المتقدرات تطورت من متقلبات ألفا، فإنها تطرح آليات مختلفة حول منشأ النواة والعُضيّات الأخرى.
وفقاً لنموذج غولد وغارغ ومارتن، فإن مصدر البنى جميعها هو الحويصلات التي أطلقتها المتقدرات الآخذة في التطوّر. يُفترض أن كلاً من الحويصلات التي تحتوي على المواد الكيميائية التفاعلية أو المواد الخلوية المنقولة الأخرى والقدرة على تحريك هذه المواد تطوّرت في وقتٍ مبكر جداً. وتطورّت النوى في وقتٍ لاحق وفقاً لهذا النموذج.
أمّا في نموذج من الداخل إلى الخارج، فالنوى في الأساس عبارة عما تبقّى من الخلايا العتائقية بعد أن غلّفت أغشيتها متقلبات ألفا، ما يعني أنها تشكّلت مباشرة. من المحتمل أيضاً أن الشبكة الهيولية الباطنة تشكلت مبكراً من النتوءات بعد أن تجمّعت هذه الأخيرة معاً. وفقاً لهذا النموذج، تشكّلت العضيّات الأخرى في وقت لاحق من براعم في الغشاء العتائقي، حسب تعبير باز باوم.
بالتالي، يطرح النموذجان تنبؤات مختلفة حول الطبيعة الكيميائية لأغشية العضيّات الخلوية، أو على الأقل طبيعتها كما كانت عند تشكّلها، ولتفسير احتواء الخلايا المعقّدة اليوم على الدهون الغشائية التي تتمتّع بتركيب كيميائي شبيه بالتركيب الكيميائي للبكتيريا، وليس للعتائق.
وفقاً لنموذج غولد وغارغ ومارتن، كانت الأغشية جميعها في البداية، باستثناء الغشاء الخارجي للخلية المضيفة، بكتيريّة، مثل أغشية متقلبات ألفا. بعد ذلك، حلّت الدهون البكتيرية محل الدهون العتائقية ببطء مع اندماج الحويصلات البكتيرية مع هذا الغشاء العتائقي الخارجي.
وفقاً لنموذج من الداخل إلى الخارج، كانت أغشية النواة والشبكة الهيولية الباطنة (وربما أغشية أخرى) عتائقية في البداية، مثل أغشية الخلية المضيفة. ويشير باز باوم إلى أن الدهون أصبحت ذات طبيعية بكتيرية في وقتٍ لاحق، بعد انتقال الجينات من الجينوم البكتيري إلى الجينوم العتائقي.
كيف يمكن اختبار هذه النماذج؟ بدأ علماء بيولوجيا الخلية من خلال إجراء التجارب باكتشاف الآليات التي يمكن أن تؤدي إلى تنوّع الحويصلات البسيطة مشكّلة عضيّات مختلفة ذات وظائف متميزة؛ إذ يمكن أن تغيّر هذه الحويصلات شكلها، مثل الأغشية الطبقية المكدّسة في الشبكات الهيولية الباطنة أو أجسام غولجي الموجودة حالياً، ويمكن أيضاً أن تحتوي على بروتينات مختلفة داخلها أو على أغشيتها.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن لخلايا جسمك أن تطيل عمرها؟
يسلّط العلماء الضوء أيضاً على آلية عمل المتقدرات الحديثة وقدرتها على تشكيل بنى غشائية جديدة.
خذ على سبيل المثال الجسيمات التي يعتقد سباير أنها تطوّرت مبكّراً لحل مشكلة مركّبات الأوكسجين التفاعلية، وهي الجسيمات التأكسدية.
ذكرت عالمة بيولوجيا الخلية في جامعة ماكغيل في مدينة مونتريال، هايدي ماكبرايد، عام 2017، أن الخلايا التي تفتقر إلى الجسيمات التأكسدية يمكن أن تشكّل هذه الجسيمات بنفسها. اكتشف فريق ماكبرايد من خلال دراسة الخلايا المولّدة الليفية البشرية الطافرة التي تفتقر إلى الجسيمات التأكسدية أن هذه الخلايا تضع البروتينات الضرورية لوظيفة الجسيمات التأكسدية في المتقدرات عند افتقارها لهذه الجسيمات. أفرزت أغشية المتقدرات هذه البروتينات بعد ذلك على شكل فقاعات صغيرة، أو حويصلات.
نمت هذه الحويصلات أو الجسيمات التأكسدية الأولية، مشكّلة جسيمات تأكسدية عادية بعد اندماجها مع نوع آخر من الحويصلات التي تفرزها الشبكة الهيولية الباطنة، التي تحتوي على نوع ضروري ثالث من بروتينات الجسيمات التأكسدية. تقول ماكبرايد: "هذه العضيات هي عضيات هجينة".
بالنسبة لمكبرايد، هذا مؤشّر على أن الجسيمات التأكسدية (وعضيات أخرى على الأرجح) نشأت من المتقدرات، وليس فقط من الشبكة الهيولية الباطنة كما كان يعتقد سابقاً. وتقول: "أطلق وجود المتقدرة عملية التولّد الحيوي لعضيّات جديدة، وكانت هذه العملية مباشرة للغاية في حالة الجسيمات التأكسدية".
لاحظ العلماء سلوكيات غريبة أخرى للمتقدرات.
على سبيل المثال، وجد تقرير أصدره مختبر عالم الكيمياء الحيوية في جامعة يوتا، آدم هيوز، عام 2021 أنه عندما تتغذى خلايا الخميرة على كميات سامة من الأحماض الأمينية، تفرز المتقدرات فيها حويصلات غنية بجزيئات ناقلة. تنقل هذه الجزيئات الأحماض الأمينية إلى الحويصلات، ما يمنعها عن تسميم المتقدرة.
اكتشف هيوز أيضاً أن الحويصلات التي تفرزها المتقدرات يمكن أن تشكّل امتدادات طويلة متعددة الطبقات تشبه الأنابيب الصغيرة، وتشبه أيضاً الأغشية المكدسة في الشبكة الهيولية الباطنة وجسم غولجي. تبقى هذه البنى في الخلايا فترة طويلة. ويقول هيوز: "هذه الامتدادات هي بنى مستقلة وفريدة بلا شك".
بيّنت عالمة المناعة التي تعمل الآن في جامعة كاليفورنيا في مدينة لوس أنجلوس، لينا بيرناس، عام 2022 أن البنى المتعددة الطبقات المشتقة من المتقدرات يمكن أن تتشكل في سياقات أخرى أيضاً. اكتشف فريق بيرناس أنه عندما تُصاب الخلية بطفيلي يحمل اسم المقوّسة الغونديّة، تحيط المتقدرة بهذا الطفيلي وتغيّر شكلها. يستجيب الطفيلي لهذه العملية، التي تؤدي إلى تخلّص المتقدرة من أجزاء كبيرة من غشائها الخارجي.
اكتشفت بيرناس، التي كتبت عن إعادة نمذجة المتقدرات في مجلة المراجعة السنوية للفيزيولوجيا (Annual Review of Physiology) في عام 2016، مؤخراً أن هذه البنى، التي تبدو مثل الحويصلات البسيطة في البداية، يمكن أن تنمو وتتخذ أشكالاً أكثر تعقيداً، مثل أكوام من الطبقات الشبيهة بالصفائح. بالإضافة إلى ذلك، يؤدي الإجهاد الناجم عن الغزو الطفيلي إلى تغيير البروتينات التي توضع على هذه الأجزاء المتساقطة من غشاء المتقدرات. وتقول بيرناس إن هذه التغيرات تُتيح للصفائح المكدسة اتباع سلوكيات مختلفة عن التي تتبعها عادة، ما قد يُتيح لها أداء وظائف جديدة.
اقرأ أيضاً: دليلك المبسط لمعرفة البكتيريا وأثرها على الإنسان
كلما درس كلٌّ من هيوز وبيرناس هذه البنى الموجودة في خلايا وظروف مختلفة للغاية أكثر، بدت متشابهة أكثر. يقول هيوز إنه من المثير أن نتخيل كيف يمكن لبنية مثل هذه، التي تشكلت في المراحل المبكرة من تطور حقيقيات النوى، أن تتطور بالانتقاء الطبيعي على مرّ العصور إلى بعض من أجزاء الغشاء الداخلي الموجودة في الخلايا اليوم.
قد يكون اكتشاف ما حدث بالضبط منذ زمن طويل لهذه الدرجة مستحيلاً. ولكن يستطيع العلماء تحديد الأحداث المحتملة وحتى المرجّحة في تطور هذه البنى بدقة أكبر من خلال استكشاف ما يمكن أن يحدث في الخلايا البكتيرية والعتائقية وحقيقيات النواة الحية اليوم. من المحتمل أن خلية ما دخلت خلية أخرى، ما وفّر الفوائد للخليتين وتسبب بعدة مشكلات أيضاً، وحفّز سلسلة من الأحداث المعقدّة. وبعد ذلك، حسب تعبير ماكبرايد، "ازدهرت أشكال الحياة وتنوّعت".