كيف تساعد قدرة الحيوانات على التخفي في تطوير التشخيص الطبي؟

4 دقيقة
كيف تساعد قدرة الحيوانات على التخفي في تطوير التشخيص الطبي؟
تطورت الأنماط اللونية التي تتمتّع بها الأسماك والحيوانات الأخرى لتؤدي وظائف مختلفة. ديبوزيت فوتوز

تؤدي الأنماط الموجودة على جلود الحيوانات، مثل خطوط الحمير الوحشية وبقع الألوان على الضفادع السامة، وظائف بيولوجية مختلفة، مثل تنظيم درجة الحرارة والتمويه وتحذير الحيوانات الأخرى. يجب أن تكون الألوان التي تتألف منها هذه الأنماط مميزة ومنفصلة تماماً لتكون فعالة. على سبيل المثال، تجعل الألوان المميزة التي تؤدي دور إشارات التحذير هذه الإشارات مرئية وواضحة للحيوانات الأخرى. تتيح الألوان المنفصلة لدى الحيوانات التي تموّه نفسها لهذه الحيوانات الاندماج أكثر مع محيطها.

اقترحت أنا وطالبي، بن أليسيو، في بحثنا المنشور مؤخراً في مجلة ساينس أدفانسيس (Science Advances) آلية تفسّر تشكّل هذه الأنماط المميزة ويمكن تطبيقها في مجال التشخيص الطبي وتصنيع المواد الاصطناعية.

سأطرح تجربة فكرية لأساعدك على تصوّر اللغز المتمثل في تشكّل الأنماط اللونية المميزة. تخيّل أنك تضيف قطرة من صباغ أزرق وآخر أحمر إلى كوب من الماء بحذر. ستتبدد القطرات ببطء في الماء بسبب ظاهرة تحمل اسم الانتشار، تنتقل فيها الجزيئات من وسط يتمتّع بتركيز معين إلى آخر يتمتّع بتركيز أقل. في النهاية، سيتساوى تركيز الصباغين الأزرق والأحمر في الماء، ويتحول لون هذا الأخير إلى الأرجواني. يعني ذلك أن ظاهرة الانتشار تميل إلى توليد ظاهرة التجانس اللوني.

اقرأ أيضاً: هل تخفي الزواحف والبرمائيات سر ينبوع الشباب؟

يمكننا هنا أن نطرح سؤالاً بديهياً، كيف يمكن أن تتشكّل الأنماط اللونية المنفصلة بوجود ظاهرة الانتشار؟

الحركة والحدود

حاول عالم الرياضيات آلان تورينغ الإجابة عن هذا السؤال أول مرة في ورقته البحثية البارزة بعنوان "الأسس الكيميائية للتكوّن التشكّلي" التي نُشرت عام 1952. بيّن تورينغ أن التفاعلات الكيميائية التي تولّد الألوان يمكن أن يتفاعل بعضها مع بعض بطريقة تبطل أثر ظاهرة الانتشار في الظروف المناسبة. يتيح ذلك للألوان أن تنظّم نفسها بنفسها وتخلق مناطق مترابطة لها ألوان مختلفة، مشكّلة ما نسميه اليوم أنماط تورينغ.

مع ذلك، تكون الحدود بين مناطق الألوان هذه في النماذج الرياضية مبهمة بسبب ظاهرة الانتشار. يعاكس ذلك ما يوجد في الطبيعة، حيث تكون هذه الحدود حادة غالباً والألوان مفصولة بوضوح.

اعتقدنا أنه يمكن العثور على أدلة لتفسير تشكّل الأنماط المميزة على أجسام الحيوانات من خلال إجراء التجارب المخبرية على جزيئات بحجم ميكرون واحد، مثل الخلايا التي تؤدي دوراً في منح جلود الحيوانات ألوانها. توصّلت أبحاثي وأبحاث مختبرات أخرى إلى أن الجسيمات الميكرونية الحجم تشكّل بُنى مخططة عند وضعها بين منطقة تتمتّع بتركيز عالٍ من المواد المنحلّة الأخرى ومنطقة تتمتّع بتركيز منخفض من المواد المنحلة الأخرى.

يقابل ذلك في التجربة الفكرية السابقة الذكر أن التغيرات في تركيز الصباغين الأزرق والأحمر في الماء تؤدي إلى تحرّك جزيئات أخرى فيه باتجاهات معيّنة. مع تحرّك الصباغ الأحمر في منطقة تركيزه فيها منخفض، ستنتقل الجسيمات القريبة معه. تحمل هذه الظاهرة اسم الانتقال الانتشاري.

يستفيد البشر من هذه الظاهرة عند غسيل الملابس؛ إذ تتحرك جزيئات الأوساخ خارج الملابس في حين تنتشر جزيئات الصابون منها إلى الماء.

تتحرك الدائرة الزرقاء في هذا الرسم التوضيحي إلى اليمين بسبب الانتقال الانتشاري؛ إذ إنها تنسحب بسبب حركة الدوائر الحمراء التي تتحرك إلى منطقة تحتوي على عدد أكبر من الدوائر الخضراء. ريتشارد سير/ويكيميديا كومنز، حقوق الملكية الفكرية المشتركة
تتحرك الدائرة الزرقاء في هذا الرسم التوضيحي إلى اليمين بسبب الانتقال الانتشاري؛ إذ إنها تنسحب بسبب حركة الدوائر الحمراء التي تتحرك إلى منطقة تحتوي على عدد أكبر من الدوائر الخضراء. ريتشارد سير/ويكيميديا كومنز، حقوق الملكية الفكرية المشتركة

رسم الحدود الواضحة

تساءلنا إن كانت أنماط تورينغ التي تتألف من مناطق تتمتّع بتركيزات مختلفة يمكن أيضاً أن تحرّك الجسيمات الميكرونية الحجم. إذا كانت قادرة على ذلك بالفعل، فهل يمكن أن تتسبب هذه الجسيمات بتشكل أنماط واضحة وليست مبهمة؟

أجرينا بهدف التوصل إلى إجابة عن هذا السؤال عمليات محاكاة حاسوبية لأنماط تورينغ، ومنها الأشكال السداسية والخطوط والبقع المزدوجة، ولاحظنا أن الانتقال الانتشاري يجعل الأنماط الناتجة أوضح على نحو ملحوظ في الحالات جميعها. تمكّنا باستخدام عمليات المحاكاة هذه من تكرار الأنماط المعقدة التي توجد على جلد سمك الصندوق المزخرف وسمك الشّيق المنمّش، ما لا يمكن تحقيقه من خلال تطبيق نظرية تورينغ وحدها.

يبيّن هذا الفيديو جزيئات صغيرة تتحرك بسبب ظاهرة ذات صلة بظاهرة الانتقال الانتشاري تحمل اسم الانتقال التناضحي.

ما يدعم فرضيتنا أكثر هو أننا تمكّنا من استخدام نموذجنا لتكرار نتائج دراسة مخبرية أخرى حول الآلية التي تتبعها بكتيريا الإشريكية القولونية لنقل الجزيئات داخل نفسها. أدت ظاهرة الانتقال الانتشاري إلى أنماط حركية أوضح، ما يؤكّد دورها في تشكّل الأنماط البيولوجية بصفتها آلية فيزيائية.

تشير النتائج التي توصلنا إليها إلى أن الانتقال الانتشاري قد يؤدي دوراً رئيسياً في تشكّل الأنماط اللونية المميزة على نطاق أوسع في الطبيعة، لأن الخلايا التي تركّب الأصبغة التي تمنح جلود الحيوانات ألوانها هي خلايا ميكرونية الحجم أيضاً.

اقرأ أيضاً: كيف تأثرت هجرة الحيوانات بتدمير بيئاتها الأصلية؟

تعلّم حيل الطبيعة

يمكن أن يساعد فهم الآلية التي نشأت وفقها الوظائف الطبيعية المحددة الباحثين على تصميم الأنظمة الاصطناعية التي تؤدي وظائف مشابهة.

بيّنت التجارب المخبرية أن العلماء يستطيعون الاستفادة من ظاهرة الانتقال الانتشاري لصنع مرشحات للمياه خالية من الأغشية وأدوات لتطوير الأدوية المنخفضة التكلفة.

يشير بحثنا إلى أن المزج بين الانتقال الانتشاري والظروف التي تشكّل أنماط تورينغ يمكن أن يمثّل أساساً لتصميم الرقع الجلدية الاصطناعية أيضاً. يشير تغيّر أنماط تورينغ، من الأشكال السداسية إلى الخطوط على سبيل المثال، إلى وجود اختلافات أساسية في التركيزات الكيميائية داخل الجسم أو خارجه، تماماً كما يحدث عند تغير الأنماط الجلدية التكيفية التي تتمتّع بها الحيوانات.

يمكن استخدام الرقع الجلدية القادرة على تحسس هذه التغييرات في تشخيص الحالات الطبية ومراقبة صحة المرضى من خلال استشعار التغيّرات في العلامات البيوكيميائية. كما يمكن أن تتحسس هذه الرقع التغيرات في تركيز المواد الكيميائية الخطيرة في البيئة.

اقرأ أيضاً: هل يمكننا التحكّم في تكاثر جماعات البعوض؟

ما الذي يحمله مستقبل هذا المجال؟

ركّزنا في عمليات المحاكاة التي أجريناها على الجسيمات الكروية حصرياً، في حين أن الخلايا التي تركّب الأصبغة في الجلد لها أشكال مختلفة. لا يزال الدور الذي يؤديه الشكل في تكوين الأنماط المعقدة غير مفهوم.

بالإضافة إلى ذلك، تتحرّك خلايا الأصبغة في بيئة بيولوجية معقّدة. ويجب إجراء المزيد من الأبحاث لفهم الآليات التي تثبّط وفقها الطبيعة الحركة وتثبّت الأنماط التي نراها.

بالإضافة إلى أنماط جلد الحيوانات، تؤدي أنماط تورينغ دوراً ضرورياً أيضاً في عمليات أخرى مثل النمو الجنيني وتشكّل الأورام. يشير بحثنا إلى أن الانتقال الانتشاري قد يؤدي دوراً ضرورياً قلل العلماء تقديره في هذه العمليات الطبيعية.

ستساعد دراسة نشوء الأنماط البيولوجية الباحثين على محاكاة وظائف هذه الأنماط في المختبر، وهو مسعى بحثي قديم يمكن أن يفيد المجتمع.

المحتوى محمي