خلصت دراسة منشورة في دورية ذا لانسيت العلمية إلى أن معدلات الخصوبة العالمية تستمر في الانخفاض، ما يمكن أن يغيّر الأنماط السكانية العالمية بحلول عام 2100. يؤدي الانخفاض في الخصوبة إلى نتائج يراها البعض كارثية، بينما يراها آخرون سمات مميزة للتحول في متوسط العمر السكاني، ويُعزى هذا الانخفاض عموماً للعديد من الأسباب المحتملة.
اقرأ أيضاً: هل تغيّر المناخ مسؤول عن تراجع الخصوبة؟
العالم يشهد تراجعاً في الخصوبة وانخفاضاً في أعداد المواليد
تشير الدراسة الحديثة المنشورة في مارس/آذار 2024 في دورية ذا لانسيت، إلى أنه بحلول عام 2100، ستنخفض معدلات الخصوبة عن الحد الأدنى الضروري للحفاظ على حجم السكان في أكثر من 97% من البلدان والأقاليم في العالم، كما أن معدلات الخصوبة المرتفعة نسبياً في العديد من البلدان المنخفضة الدخل، خاصة في غرب وشرق إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ستستمر في التدهور، ما سيكون له عواقب وخيمة على الاقتصادات والمجتمعات.
معدل الخصوبة الإجمالي للسكان هو متوسط عدد الأطفال الذين يولدون لأنثى واحدة على مدى العمر، بافتراض أن النساء جميعهن في العالم يُنجبن أطفالاً. تحتاج البلدان إلى معدل خصوبة إجمالي يبلغ 2.1 طفل لكل أنثى قادرة على الإنجاب، وذلك لدعم استبدال السكان بين الأجيال على المدى الطويل.
يُقدّر الباحثون أنه بحلول عام 2050، سينخفض مستوى الخصوبة في 155 بلداً من 204 من بلدان العالم، أي في نحو 76% منها. ومن المتوقع أن ترتفع نسبة انخفاض مستوى الخصوبة بحلول عام 2100 إلى 198 بلداً أي 97% من بلدان العالم. وهذا يعني أن عدد السكان في هذه البلدان سينخفض ما لم يُعوّض بطريقة أو بأخرى.
تنبأت الدراسة أيضاً بأنه بحلول 2100 سيولد 54% من أطفال العالم في إفريقيا، أي في البلدان ذات الدخل المنخفض جنوب الصحراء الكبرى، ما يؤكد الحاجة المُلحة لتحسين الوصول إلى وسائل منع الحمل الحديثة وتعليم الإناث في هذه البلدان. يدل ذلك على أن معظم المواليد الجُدد في العقود القادمة سيعيشون في بعض المناطق المحدودة الموارد في العالم.
عموماً، انخفض معدل الخصوبة الإجمالي العالمي على مدار السبعين عاماً الماضية من نحو خمسة أطفال لكل أنثى عام 1950 إلى 2.2 طفل عام 2021، بينما في أكثر من نصف البلدان يولد 2.1 لكل أنثى عام 2021.
اقرأ أيضاً: أمل جديد في علاج ضعف الخصوبة عند البشر
أمّا ما يُثير القلق، هو النسبة في دول مثل كوريا الجنوبية وصربيا، حيث يقل المعدل عن 1.1 طفل لكل أنثى.
في المقابل، لا تزال معدلات الخصوبة مرتفعة في العديد من البلدان في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، حيث يبلغ معدل الخصوبة الإجمالي في المنطقة ضعف المتوسط العالمي تقريباً، بواقع أربعة أطفال لكل أنثى عام 2021. أمّا أعلى معدل خصوبة في العالم فقد وُجِد في تشاد، ويبلغ سبع ولادات لكل أنثى.
وعلى مدى العقود المقبلة، من المتوقع أن تنخفض معدلات الخصوبة العالمية بشكلٍ أكبر، حيث سيصل معدل الخصوبة الإجمالي إلى نحو 1.8 عام 2050، و1.6 عام 2100. وبحلول عام 2100، من المتوقع أن تتجاوز معدلات الخصوبة في ست دول وإقليم فقط من أصل 204 دول (هي ساموا، الصومال، تونغا، النيجر، تشاد، وطاجكستان) 2.1 مولود لكل أنثى. وفي 13 دولة، منها بوتان وبنغلاديش ونيبال والمملكة العربية السعودية، من المتوقع أن تنخفض المعدلات إلى أقل من طفل واحد لكل أنثى.
ومن المتوقع أن يبلغ معدل الخصوبة الإجمالي في أوروبا الغربية 1.44 عام 2050، ثم ينخفض إلى 1.37 عام 2100، ومن المتوقع أن تسجل دول مثل آيسلندا والدنمارك وفرنسا وألمانيا أعلى معدلات الخصوبة بما يتراوح بين 2.09 و1.40 في نهاية القرن. ومن المتوقع أن تكون المعدلات أقل بكثير في بقية أنحاء أوروبا وأجزاء من آسيا.
النتائج قد تكون كارثية اقتصادياً واجتماعياً
تُسلّط نتائج الدراسة الضوء على التحديات الهائلة التي ستواجه النمو الاقتصادي في العديد من البلدان المتوسطة والمرتفعة الدخل مع انخفاض معدل الخصوبة، وتضاؤل القوى العاملة والعبء المتزايد على أنظمة الصحة والضمان الاجتماعي لكبار السن من السكان، وكيفية رعاية الأطفال.
في المقابل، فإن العديد من البلدان ذات الموارد المحدودة في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا ستواجه مشكلات دعم السكان الأصغر سناً والأسرع نمواً في بعض من أكثر الأنظمة الصحية غير المستقرة سياسياً واقتصادياً.
قالت الدكتورة ناتاليا في بهاتاشارجي، المؤلفة الرئيسية المشارِكة وعالمة الأبحاث الرئيسية من معهد القياسات الصحية والتقييم (IHME): "إن هذه الاتجاهات المستقبلية في معدلات الخصوبة والمواليد الأحياء ستُعيد تشكيل الاقتصاد العالمي وتوازن القوى الدولي بالكامل وستستلزم إعادة تنظيم المجتمعات. وسيكون الاعتراف العالمي بالتحديات المتعلقة بالهجرة وشبكات المساعدة العالمية أكثر أهمية عندما تكون هناك منافسة شرسة على المهاجرين للحفاظ على النمو الاقتصادي ومع استمرار طفرة المواليد في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى".
لتجنّب هذه النتائج، التي قد تكون كارثية، يدعو الباحثون إلى تسريع الوصول إلى وسائل منع الحمل الحديثة في مناطق الخصوبة المرتفعة جداً، وزيادة تعليم الإناث وخفض معدلات المواليد، لتجنب مشكلات مثل صعوبة توفير الدعم المالي والرعاية للأطفال والأسر.
في حين أنه يمكن للحكومات في البلدان المنخفضة الخصوبة أن تنفذ مجموعة من السياسات التي تدعم أولئك الذين يرغبون في إنجاب الأطفال وتقدّم فوائد إضافية للمجتمع مثل تحسين نوعية الحياة وزيادة مشاركة المرأة في القوى العاملة، إلى جانب سياسات الهجرة المفتوحة لدعم النمو الاقتصادي، بالإضافة إلى تعزيز إجازة الأبوة، ورعاية الأطفال المجانية، والحوافز المالية، وحقوق العمل الإضافية.
لا تعني نتائج الدراسة بالضرورة أن تحقيق هذا مستقبلاً أمر مؤكد، إلّا أن تنبؤات الخصوبة هذه تعتمد على التنبؤ الدقيق لكلٍّ من المحركات المحتملة للخصوبة في المستقبل.
وجهة نظر مختلفة
من جهة أخرى، يعتقد خبراء آخرون بحسب صندوق الأمم المتحدة للسكان أن انخفاض الخصوبة ليس كارثة اقتصادية ومجتمعية، بل من السمات المميزة للتحول الديموغرافي ويرتبط بارتفاع متوسط العمر، فقد ارتفع متوسط العمر العالمي منذ عام 1950 من 45.51 إلى 73.16 عام 2023، مصحوباً بانخفاض في الخصوبة العالمية من متوسط 5 ولادات لكل امرأة عام 1950 إلى 2.3 مولود لكل امرأة عام 2021. وتشير هذه التطورات إلى السيطرة المتزايدة التي يستطيع الأفراد، وخاصة النساء، ممارستها على حياتهم الإنجابية، وكيف تتحسن نوعية الحياة مع القدرة على الوصول إلى الحقوق والخيارات.
اقرأ أيضاً: هل يشكّل انخفاض معدل الخصوبة العالمية لنسبة 50% تهديداً للبشرية؟
أسباب انخفاض معدل الخصوبة عالمياً
تعتمد الحلول اللازمة لضبط مستويات الخصوبة على تحديد أسباب المشكلة، إذ يُعزى انخفاض معدلات الخصوبة على مستوى العالم إلى عدة عوامل رئيسية، منها:
- تحسين الفرص التعليمية للنساء، حيث إن زيادة التعليم وفرص العمل تمكّن المرأة وترتبط بانخفاض معدلات الخصوبة.
- انخفاض معدل وفيات الأطفال أدّى إلى انخفاض معدلات الخصوبة تاريخياً.
- تحسين فرص الحصول على وسائل منع الحمل والمشورة بشأن تنظيم الأسرة أسهم بانخفاض معدلات الخصوبة في بعض المناطق.
- البلدان ذات الدخل المرتفع تشهد انخفاضات حادة في معدلات الخصوبة، بسبب عوامل مثل زيادة التعليم، والطموحات المهنية، وتغيير الضغوط الثقافية حول الزواج.
- عدم قدرة الآباء الشباب على تحمل تكاليف الولادة وتربية الأطفال.
- التمييز المستمر بين الجنسين أدّى إلى رفض الإناث إنجاب الأطفال، أو تأخير إنجابهم، أو إنجاب عدد قليل منهم.