أثناء بحثه عن الطعام، يجب أن يركز الخفاش البني الكبير على الحشرات الطائرة وتتبع محيطها لتجنب الاصطدام. وحديثاً، قام العلماء بأخذ نظرة خاطفة على ما يجري في أدمغة الخفافيش هذه أثناء انقضاضها وهبوطها. وقد حددوا منطقة الدماغ التي تساعد الحيوانات على تحديد الأماكن التي تكون فيها الأجسام مرتبطة بأجسامها، ووجدوا أن خلايا الدماغ غيرت سلوكها أثناء تركيز الخفافيش انتباهها على جسم معين. ويمكن أن تساعدنا النتائج التي تم نشرها في 10 أبريل 2018 في مجلة إي لايف على فهم جوانب معينة من قضايا التركيز عند البشر، وكذلك كيفية تنقّل الخفافيش والحيوانات أثناء حركتها.
الخفافيش هي نقطة بداية جيدة لمعرفة كيفية إدارة الدماغ لهذه الحيلة، لأن الأصوات الناجمة عن نظام تحديد المواقع بالصدى يمكن أن تكشف ما تركّز به الخفافيش أثناء رصد محيطها. يقول المؤلف المشارك في الدراسة ميلفيل فولجيموث، وهو عالم أعصاب سلوكي في جامعة جونز هوبكنز في بالتيمور: "في كل مرة يصدر فيها الخفاش صوتاً، يبدو الأمر وكأنه شعاع يضيء العالم أمامه". ويستطيع الخفاش تعديل هذا الشعاع من الأمواج الصوتية عندما يريد الحصول على "نظرة" أفضل على جسم معين. وعن طريق إصدار الصرير بسرعة أكبر، يلتقط الخفاش معلومات أكثر تفصيلاً.
يقول فولجيموث: "لقد رأينا لعقود من الزمن أن الخفافيش تغير أصواتها للوصول إلى قرار أفضل في بيئتها، ولكن لم يتم إظهار ما يحدث بالفعل على المستوى العصبي".
وللتعرف على ذلك، قام هو وزملاؤه بزرع جهاز لاسلكي لتسجيل النشاط الكهربائي في الدماغ الأوسط للخفافيش البنية الكبيرة، ثم تركوها تطير في غرفة تحتوي على عبوات بلاستيكية معلقة في السقف. وعندما كانت الخفافيش ترفرف حول هذه العوائق، قام العلماء بتصويرها على شريط فيديو لتتبع مسارات طيرانها حيث كانت توجه رؤوسها. كما قام الفريق بتسجيل الأصوات التي أصدرتها لتحديد مواقعها بالصدى.
ومن خلال ربط كل هذه المعلومات، استطاع الباحثون تحديد خلايا الدماغ التي أصبحت نشطة عندما لاحظت الخفافيش العوائق. ووجدوا أن منطقة تُسمى "الأكيمة العلوية" تقوم بترميز مكان وضع هذه الأجسام في فضاء ثلاثي الأبعاد أثناء حركة الخفافيش.
توجد هذه المنطقة من الدماغ في جميع الفقاريات. وحتى الآن، ما يزال العلماء مقيدين بمعدات تسجيل دماغية ضخمة، وكانت في معظمها ترصد هذه المنطقة في حيوانات ثابتة تقوم بأداء مهام غير طبيعية ثنائية الأبعاد، مثل مشاهدة نقطة تتحرك على شاشة الحاسوب. يقول فولجيموث: "لقد أردنا حقاً أن ننظر إلى الأمر من منظور كيفية عمل الدماغ في العالم الحقيقي. إن جعل الحيوان يطير دون قيود وتسجيل حركته لاسلكياً من الدماغ هو في الحقيقة ميزة تم التمكن منها حديثاً".
وقد تبين أن الخلايا العصبية المختلفة في هذه المنطقة من الدماغ مضبوطة مع أماكن مختلفة من الفضاء حول الحيوان. لذلك، إذا كان الخفاش يطير، فقد تتنبه عصبونات معينة عندما يقترب من فرع شجرة إلى يساره، على بعد ستة أمتار، على نفس ارتفاع الخفاش. وقد تصبح الخفافيش الأخرى أكثر نشاطاً عندما تصطدم أصوات الأمواج الصوتية للخفاش بغزال يتجول أسفل منها، أو عمود إضاءة في وجهها.
وعندما يفحص الخفاش جسماً معيناً، تبدأ الخلايا العصبية الفردية في التصرف بشكل مختلف. وبينما يصدر الخفاش أصوات الصرير بسرعة أكبر، تنكمش منطقة الفضاء التي تثير كل عصبون. يقول فولجيموث: "عندما يركز الخفاش انتباهه في جسم ما، فإن تمثيل ذلك الجسم يزداد وضوحاً في الدماغ". وبعبارة أخرى، يمكن للخفافيش أن تبني صورة ذهنية أكثر دقة لموقع أي شيء كانت تصدر أصواتاً باتجاهه. وعند البشر، قد يحدث شيء مشابه عندما نركز نظرنا على شيء ما لنراه بشكل أفضل.
يعتقد العلماء أن الأكيمة العلوية تساعد الحيوانات أيضاً على التفاعل مع المدخلات الحسية التي تجمعها. فقد يدفع الخفاش إلى تغيير مسار طيرانه لتجنب ضرب شجرة، أو بدء إصدار أصوات سريعة جداً لالتقاط المزيد من المعلومات. وفي المستقبل، يود فولجيموث وزملاؤه أن يحققوا في كيفية عمل العصبونات الحركية في منطقة الأكيمة العلوية أثناء طيران الخفافيش.
ويشتبه الباحثون في أن الأكيمة العلوية لا تعمل بشكل طبيعي عند الأشخاص الذين يعانون من مشاكل في الانتباه، ربما بطرق تجعلهم أكثر تشتيتاً من خلال المدخلات الحسية. يقول فولجيموث إن فهم كيفية تحوّل النشاط في هذه المنطقة من الدماغ عندما يحاول حيوان ما تركيز الانتباه قد يساعد على تحديد حجم العيب في هذه العمليات عند شخص مصاب باضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة.