ملخص: صداع الشقيقة هو حالة صحية تؤثّر في عدد متزايد من الأشخاص وقد تتسبب بالإعاقة، لكن العلماء يجهلون الكثير عن الآلية التي تؤدي وفقها المحفّزات إلى النوبات. مع ذلك، أحرز العلماء تقدماً في دراسة هذه الحالة، وطوروا أدوية جديدة اسمها "حاصرات جزيء سي جي آر بي" أثبتت فعاليتها لدى الكثيرين؛ إذ إنها قادرة على الوقاية من النوبات وعلاجها، على الأرجح من خلال تعطيل مسار خلوي يؤدي إلى إطلاق أيونات البوتاسيوم التي توسّع الأوعية الدموية وتحفّز الأعصاب المستشعرة للألم. اعتقد العلماء من قبل أن سبب الشقيقة هو توسّع الأوعية الدموية المحيطة بالدماغ، لكنهم لاحظوا أن المهاد يتحكم بالكثير من العلامات التي تسبق النوبات، ما يشير إلى أن الألم لا ينشأ في الدماغ نفسه بل في السحايا، وهم يشكون الآن في أن الشقيقة قد تنتج عن مزيج من الاثنين. يشير بعض الأبحاث أيضاً إلى أن الأدوية التي تثبّط المسارات التي تتسبب بنوبات الشقيقة قبل إطلاق البوتاسيوم أو عنده قد تكون مفيدة، إضافة إلى أن بعض الشركات يسعى إلى تطوير علاجات أفيونية للشقيقة تستهدف مستقبلات قد لا تتسبب بالإدمان تحمل اسم "مستقبلات دلتا".
الشوكولاتة وبعض المشروبات والأجبان المعتّقة هي من الأطعمة الخطيرة بالنسبة لشيريز آيرونز، ومن عوامل الخطر الأخرى بالنسبة لها أيضاً بعض الأصوات والعطور والروائح اللاذعة والطقس البارد والعواصف الرعدية، والتوتر وقلّة النوم.
تعتقد آيرونز أن هذه العوامل قد تؤدي إلى نوبات صداع الشقيقة التي تعانيها، والتي تظهر بطرائق مختلفة، من الألم الشديد في مؤخرة رأسها والحساسية الشديدة لأخفت الأصوات إلى فقدان الوعي والشلل الجزئي.
عملت آيرونز التي تبلغ من العمر 48 سنة وتقيم في مدينة كورال سبرينغز في ولاية فلوريدا الأميركية مساعدة مدير مدرسة من قبل، وأصبحت الآن معاقة بسبب صداع الشقيقة الذي تعانيه. جرّبت آيرونز العديد من أدوية الشقيقة، لكن لم يكن أي منها مفيداً على المدى البعيد. حتى إن بعض الأدوية الجديدة التي تروّج لها الشركات على نطاق واسع، والتي نجحت في تهدئة نوبات الشقيقة لدى العديدين، لم تكن فعالة في علاج آيرونز.
على الرغم من أن آيرونز تعاني حالة من الشقيقة تتصف بشدّة لا يشهدها الجميع، فإن هذا الصداع هو مشكلة صحية تزداد شيوعاً على نحو مفاجئ؛ إذ إنه يصيب ما يتراوح بين 14% و15% من الأشخاص. مع ذلك، يجهل العلماء والأطباء الكثير عن الطريقة التي تؤدي وفقها المحفّزات مثل التي تعانيها آيرونز إلى النوبات. لكنهم حققوا بعض التقدّم؛ إذ تمثّل الأدوية الأحدث، وهي مثبّطات لجزيء يرسل الإشارات في الجسم ويحمل اسم "سي جي آر بي" (مستقبل الببتيد المرتبط بجين الكالسيتونين، CGRP)، نعمة بالنسبة للكثيرين، على الرغم من أنها لا تفيد غيرهم كثيراً. الفرق في تأثير هذه الأدوية بين الأشخاص مجهول السبب، ومن المرجح أن تعقيد صداع الشقيقة يؤدي دوراً في ذلك. تقول عالمة الأدوية في جامعة أوتاغو في مدينة دنيدن النيوزيلندية، ديبي هاي: "إنها حالة صحية متنوعة للغاية، وما زلنا نخوض جدالات واسعة حول أسبابها وعواقبها".
هذه هي الحال على الرغم من إجراء الأبحاث على مدى عقود على صداع الشقيقة والقدرة المذهلة التي يتمتع بها العلماء على تحفيز النوبات في المختبر؛ إذ إن منح المشاركين الذين يعانون الشقيقة جزيء سي جي آر بي عبر الوريد يؤدي إلى تحفيز النوبات لدى بعضهم. هناك جزيئات أخرى لها التأثير نفسه، مثل أوكسيد النتريك، وهو جزيء طبيعي يوجد في الجسم ويعمل على إرخاء الأوعية الدموية، وجزيء آخر يرسل الإشارات ويحمل اسم "بي أيه سي أيه بي" (متعدد الببتيد المنشط لمحلّقة الأدينيلات النخامية، PACAP). يمكن أن تحفز جزئيات سي جي آر بي وبي أيه سي أيه أعراضاً شبيهة بأعراض الشقيقة لدى الفئران أيضاً.
اقرأ أيضاً: ما هو الصداع العنقودي؟ وما هي أسبابه وطرق علاجه والوقاية منه؟
وفقاً لعالمة الأعصاب في جامعة واشنطن سانت لويس، أمينا برادهان، تؤدي هذه الجزيئات دور مفاتيح "تشغيل" لنوبات الشقيقة، ما يشير إلى أنه يجب أن تكون هناك مفاتيح "إيقاف" أيضاً. يبحث العلماء بنشاط عن هذه المفاتيح، ومثّل تطوير الأدوية المثبطة لجزيء سي جي آر بي نجاحاً باهراً في هذا المجال البحثي.
على الرغم من الرؤى التي توصل إليها العلماء، لا تزال الشقيقة مرضاً صعب الفهم والعلاج. على سبيل المثال، ما تزال المراحل بين الأثر الجزيئي لجزيء سي جي آر بي والصداع أو الأعراض الأخرى غير مفهومة. لكن العلماء توصلوا إلى العديد من الأفكار الأخرى لتطوير أدوية جديدة قد تقي من نوبات الشقيقة أو تعالجها.
تقول برادهان: "التوصل إلى عدد كبير من الطرق العلاجية المختلفة مهم".
فك تشفير آليات الشقيقة
الشقيقة هي ثاني أكثر أسباب الإعاقة انتشاراً في العالم، وهي تؤثر على نحو رئيسي في النساء اللواتي في سن الإنجاب. قد يعاني المريض نوبة واحدة من الشقيقة سنوياً أو أكثر من نوبة أسبوعياً، إضافة إلى أنه قد يشهد أعراضاً مستمرة.
ما يزيد الأمر تعقيداً هو أن نوبات الشقيقة لها أكثر من نوع. يمكن أن تتسبب الشقيقة بالصداع والغثيان والحساسية تجاه الضوء والأصوات أو الروائح، أو مجموعة من الأعراض الأخرى. يرى البعض العوائم البصرية، بينما لا يراها البعض الآخر، كما يعاني بعض النساء من نوبات الشقيقة المرتبطة بالحيض. يعاني بعض الأشخاص، وخصوصاً الأطفال، من "الشقيقة البطنية" التي تتميّز بأنها لا تتسبب بالصداع فقط، بل بالغثيان وآلام المعدة والقيء.
في البداية، دفعت الطبيعة النابضة لألم الرأس الباحثين إلى الشك في أن المشكلة الجذرية تكمن في توسّع الأوعية الدموية داخل الأغشية المحيطة بالدماغ؛ إذ تنبض هذه الأوعية بالتوافق مع ضربات القلب. لكن اتضح أن هذا الألم النابض لا يتوافق في الواقع مع معدّل ضربات القلب.
بعد ذلك، لاحظ الباحثون أن الدماغ، أو المنطقة التي تحمل اسم "المهاد" على وجه التحديد، يتحكّم بالكثير من العلامات التي تسبق نوبة الشقيقة، مثل الحساسية تجاه الضوء والتغيرات في الشهية. بالنتيجة، أصبح العلماء يشكّون بأن منشأ الشقيقة هو الدماغ.
يتساءل العلماء اليوم إن كانت العوامل الدماغية وخارج الدماغية تؤدي دوراً في تحفيز الشقيقة، مثل الأوعية الدموية التي تطلق جزيئات تتسبب بالألم أو حتى الخلايا المناعية.
ما تشير إليه هذه الآليات المقترحة في نهاية المطاف هو أن الألم لا ينشأ في الدماغ نفسه ولكن في السحايا، التي يصفها طبيب الأعصاب في جامعة كوبنهاغن ومدير وحدة أبحاث الشقيقة في مستشفى ريسوسبيتاليو غلوستروب في الدانمارك، مسعود أشينا، بأنها "غشاء بلاستيكي متعدد الطبقات يحيط بالدماغ". يحتوي هذا الغشاء على السائل الدماغي الشوكي الذي يحمي الدماغ ويثبّته في مكانه، وهو يسند الأوعية الدموية والأعصاب التي تصل إلى الدماغ. لا يشعر الدماغ نفسه بالألم، لكن الأعصاب في السحايا، وخاصة العصب الثلاثي التوائم الذي يصل الوجه بالدماغ، تتحسسه. إذا أصبحت هذه الأعصاب نشطة، فهي ترسل إشارات الألم الشديدة للدماغ.
يتوافر للأطباء والصيادلة عدد من الأدوات المضادة للشقيقة، والتي يقي بعضها من النوبات بينما يعالج بعضها الآخر النوبات عند بدايتها. تتضمن الخيارات التي تعالج النوبات مسكنات الألم التي يمكن بيعها دون وصفة طبية، مثل الأسبرين والإيبوبروفين، والمواد الأفيونية التي تتطلب الوصفات. التريبتانات، التي طورها العلماء خصيصاً لمكافحة نوبات الشقيقة عند بدايتها، هي أدوية تضيّق الأوعية الدموية من خلال التفاعل مع مستقبلات السيروتونين.
مع ذلك، أدرك العلماء لاحقاً أن تضييق الأوعية الدموية ليس الطريقة الرئيسية التي تخفف وفقها التريبتانات الشقيقة؛ إذ قد يكون تأثيرها المتمثّل في تهدئة الإشارات العصبية أو تخفيف الالتهاب أكبر. تستهدف الديتانات، وهي فئة أحدث من أدوية الشقيقة، مستقبلات السيروتونين أيضاً، لكنها تؤثر في الأعصاب فقط وليس في الأوعية الدموية، ومع ذلك فهي فعالة.
تشمل أدوية الوقاية من نوبات الشقيقة التي استخدمها العلماء قبل تطوير أدوية سي جي آر بي وما تزال قيد الاستخدام مضادات الاكتئاب وأدوية ضغط الدم وأدوية الصرع وحُقن سمّ الوشيقية التي تخدر الأعصاب التي تستشعر الألم في الرأس والرقبة.
لم يصمم العلماء أغلبية هذه الأدوية، باستثناء التريبتانات والديتانات، خصيصاً لعلاج الشقيقة، وهي تترافق غالباً بآثار جانبية مزعجة. قد يستغرق ظهور آثار بعض الأدوية الوقائية عدة أشهر، وقد يؤدي الاستخدام المتكرر للتريبتانات أو مسكنات الألم إلى مشكلة أخرى، وهي "الصداع الناجم عن الإفراط في تناول الأدوية" الذي يجهل العلماء عنه الكثير.
اقرأ أيضاً: 5 أطعمة على المصابين بالصداع النصفي الحذر منها
دواء جديد شديد الفعالية
وسّعت أدوية سي جي آر بي مجموعة الأدوية الخاصة بالشقيقة بقدر كبير؛ إذ إنها قادرة على الوقاية من النوبات وإيقاف النوبات التي بدأت بالفعل. إضافة إلى أن تطويرها نتج عن أول مرة أدت فيها الدلائل المستمدة من أبحاث الشقيقة الأساسية إلى اكتشاف مفتاح "إيقاف" يمنع بدء النوبات.
جزيء سي جي آر بي هو قطعة بروتينية صغيرة يركبّها الجسم في عدة مناطق، وهو جزيء مرسال يرتبط عادة بجزيء آخر يحمل اسم "المستقبل" يقع على أسطح الخلايا، وهو قادر على تفعيل النشاط في الخلية المستقبلة. يوجد هذا الجزيء في الألياف العصبية المستشعرة للألم التي تمتد على طول الأوعية الدموية السحائية وفي العقدة الثلاثية التوائم بالقرب من قاعدة الجمجمة حيث يتجذّر العديد من الأعصاب. سي جي آر بي هو موسّع فعال للأوعية الدموية، كما يؤثر في الخلايا المناعية والخلايا العصبية وخلايا الدبق التي تسند الأعصاب.
أشارت هذه السمات التي يتمتع بها جزيء سي جي آر بي، وهي موقعه في ألياف العصب السحائي وتأثيراته العديدة التي قد تتعلق بالشقيقة مثل توسيع الأوعية الدموية، إلى أنه يؤدي دور مفتاح "تشغيل" للشقيقة. بيّنت الأبحاث الإضافية أيضاً أن هذا الجزيء يوجد بمستويات مرتفعة في سوائل الجسم لدى الأشخاص الذين يعانون الشقيقة.
أفاد 12 شخصاً من أصل 14 مصاباً بالشقيقة بأنهم عانوا الصداع بعد تلقي جزيء سي جي آر بي وريدياً في دراسة محدودة عام 2010، كما عانى 4 منهم أيضاً أعراض النّسمة (اضطرابات إدراكية للحواس) مثل التغيرات في الرؤية. عانى اثنان من أصل 11 شخصاً لا يصابون عادةً بنوبات الشقيقة الصداع بعد حقن سي جي آر بي.
تسبب هذا الجزيء أيضاً بزيادة حساسية الفئران للضوء، ما يشير إلى أنه قد يكون متعلقاً بالحساسية تجاه الضوء لدى البشر.
لم يتوصل العلماء إلى فهم واضح للمراحل بين التحفيز الذي يجريه جزيء سي جي آر بي في مجرى الدم أو السحايا وظهور أعراض الشقيقة مثل الحساسية تجاه الضوء، لكنهم وضعوا بعض الفرضيات. يبحث أشينا في الآلية التي يمكن أن يحفّز وفقها كل من جزيء سي جي آر بي وجزيء بي أيه سي أيه بي والمواد الأخرى نوبات الشقيقة. ترتبط هذه الجزيئات بمستقبلات على أسطح الخلايا، مثل تلك الموجودة في جدران الأوعية الدموية. يحفّز هذا الارتباط سلسلة من الأحداث داخل الخلايا تشمل تركيب مادة تحمل اسم "الأدينوسين الأحادي الفوسفات الحلقي" (cyclic AMP) وفتح قنوات تتيح خروج أيونات البوتاسيوم من الخلية في النهاية. يفترض أشينا أن هذه الأيونات تتسبب بتوسّع الأوعية الدموية، لكنها يمكن أن تحفّز أيضاً الأعصاب المحيطة المستشعرة للألم، مثل العقدة الثلاثية التوائم.
هذه فرضية منطقية، لكنها غير مثبتة. يقول عالم الأعصاب في جامعة تكساس في مدينة دالاس، غريغ دوسور: "ما زلنا نجهل تأثير جزيء سي جي آر بي فيما يتعلق بالشقيقة".
عدم اليقين بشأن الدور الدقيق الذي يؤديه جزيء سي جي آر بي في الشقيقة لم يؤثّر في التقدم الذي أحزره الأطباء السريريون؛ إذ طور هؤلاء حتى الآن 8 أدوية مختلفة من حاصرات سي جي آر بي حصلت على الموافقة من إدارة الغذاء والدواء الأميركية لعلاج الشقيقة أو الوقاية منها. أصدرت الجمعية الأميركية للصداع مؤخراً بياناً ينص على أن أدوية سي جي آر يجب تصنيفها على أنها من علاجات الخط الدفاعي الأول للشقيقة. وعلى الرغم من انتشار جزيء سي جي آر بي على نطاق واسع في مختلف أنحاء الجسم، فإن تثبيطه يؤدي إلى آثار جانبية قليلة ومنخفضة الشدة عموماً، مثل الإمساك.
يقول عالم الفيزيولوجيا العصبية في مركز ديكونيس الطبي في مدينة بوسطن، دان ليفي، الذي وصف مؤخراً دور السحايا في الشقيقة ضمن دراسة نشرتها مجلة المراجعة السنوية لعلم الأعصاب (Annual Review of Neuroscience): "هذه الأدوية فعالة".
مع ذلك، هناك أسئلة لم يتوصل العلماء إلى إجابتها بعد؛ إذ إنهم لا يعلمون مدى فعالية حاصرات سي جي آر بي لدى الرجال، وذلك إن كانت فعالة في المقام الأول. اختبر الباحثون هذه الأدوية على النساء غالباً؛ بالنظر إلى أن عدد النساء اللواتي يعانين الشقيقة يتراوح بين 3 و4 أضعاف عدد الرجال. توصل العلماء في مراجعة حديثة إلى أنه على الرغم من أن حاصرات سي جي آر بي تقي من نوبات الصداع لدى الرجال والنساء، فإنها لم توقف نوبات الشقيقة الحادة لدى الرجال بالجرعات الموصوفة الحالية. (الجدير بالذكر أن نسبة الذكور المشاركين في الدراسات التي خضعت لهذه المراجعة كانت أقل من الخُمس، ما يجعل كشف التأثيرات المنخفضة الشدة أصعب).
قد يساعد جمع المزيد من البيانات على حل هذا اللغز. يقول طبيب الأعصاب ومدير البحث السريري في مركز الصداع بجامعة توماس جيفرسون في مدينة فيلادلفيا، هسيانغكوو يوان، إنه يتتبع آثار حاصرات سي جي آر بي في مرضاه، ولم يلحظ حتى الآن فرقاً كبيراً بين الجنسين في الأجسام المضادة التي تحصر هذا الجزيء، على الرغم من أنه قد يكون ثمة اختلاف في كيفية استجابة الناس للجزيئات الصغيرة التي تحصر الجزيء.
توافر مثبّطات سي جي آر بي هو مشكلة أيضاً. لا يغطّي العديد من شركات التأمين تكلفة الأدوية الجديدة إلا بعد أن يجرب المرضى علاجين آخرين أولاً ويتبيّن فشلهما، وهي عملية قد تستغرق عدة أشهر. دفع ذلك آيرونز (المريضة من فلوريدا) إلى تجربة العديد من الأدوية التي لم تستفد منها أولاً قبل أن تجرب العديد من حاصرات سي جي آر بي. كان أحد هذه الأدوية التي جربتها غير فعال على الإطلاق، بينما لاحظت أن الأدوية الأخرى التي استخدمتها كانت فعالة خلال فترة محدودة فقط. لكن في النهاية، فشلت الأدوية جميعها في علاج الشقيقة لديها.
اقرأ أيضاً: ما الأمور التي يجب الانتباه إليها عند رعاية مريض الصرع؟
البحث عن مفاتيح "إيقاف" جديدة
تسلّط حالة آيرونز الضوء على الحاجة إلى تطوير المزيد من الخيارات للوقاية من نوبات الشقيقة وعلاجها، على الرغم من أن نجاح حاصرات سي جي آر بي أثبت أن هناك أملاً في تطوير أدوية جديدة.
يقول عالم الأعصاب في جامعة آيوا في مدينة آيوا الكندية، أندرو روسو، الذي وصف جزيء سي جي آر بي بأنه هدف جديد لعلاج الشقيقة في مجلة المراجعة السنوية لعلم الأدوية والسموم (Annual Review of Pharmacology and Toxicology) عام 2015: "مهدت حاصرات سي جي آر بي الطريق لتطوير المزيد من الأدوية، وهذا المجال البحثي واعد للغاية في هذه الفترة".
روسو وهاي مهتمان بالاعتماد على أثر جزيء سي جي آر بي لتطوير علاج جديد محتمل. اتضح أن هذا الجزيء لا يرتبط بمستقبل واحد فقط على أسطح الخلايا مثل المفتاح الذي يتطابق مع قفل واحد فقط؛ إذ إنه بالإضافة إلى مستقبل سي جي آر بي التقليدي، يرتبط هذا الجزيء أيضاً بمستقبل يحمل اسم "أيه إم واي 1" (AMY 1) ويفعّله، وهو مستقبل يمكن أن يفعّله جزيء آخر أيضاً يحمل اسم "الأميلين" (Amylin).
توجد مستقبلات أيه إم واي 1 في مواقع تؤدي دوراً مهماً في الألم المترافق مع الشقيقة، مثل الأعصاب الثلاثية التوائم. اكتشف روسو وهاي في دراسة ضيقة أن حقن نسخة اصطناعية من الأميلين يحفّز نوبات شبيهة بنوبات الشقيقة لدى نحو 40% من المشاركين المصابين بالشقيقة. اكتشف الباحثان أيضاً أن تفعيل مستقبِل أيه إم واي 1 لدى الفئران يتسبب بالحساسية تجاه اللمس والضوء.
مجدداً، يبدو أن هذا المستقبِل يؤدي دور مفتاح "تشغيل" لنوبات الشقيقة، ويعتقد روسو أن هناك احتمالاً لا بأس به أن يتمكن الباحثون من تطوير دواء يؤدي دور مفتاح "إيقاف".
أحد الجزيئات الواعدة الأخرى التي يمكن أن تؤدي دور مفتاح تشغيل هو جزيء بي أيه سي أيه بي. هذا الجزيء هو بروتين قصير وجزيء مرسل للإشارات، مثل سي جي آر بي، وهو يوجد أيضاً في الأعصاب الثلاثية التوائم التي تنقل آلام الشقيقة، ويبدو أن نسبته تكون مرتفعة لدى بعض الأشخاص في أثناء نوبة الشقيقة. يتسبب هذا الجزيء بتوسّع الأوعية الدموية والالتهابات في الجهاز العصبي وفرط الحساسية للمس والضوء لدى القوارض، كما تسبب بنوبة جديدة شبيهة بنوبات الشقيقة لدى أكثر من نصف الأشخاص المصابين بالشقيقة عند حقنه وريدياً.
لكن روسو يقول إن "أدوار جزيء بي أيه سي أيه بي لا تقتصر على تلك الشبيهة بأدوار سي جي آر بي"؛ إذ يبدو أنه يعمل بآلية مختلفة قليلاً على الأقل. لدى الفئران، لا تقاوم الأجسام المضادة التي تثبّط جزيء بي أيه سي أيه بي الحساسية للضوء التي يفعّلها جزيء سي جي آر بي، والعكس بالعكس. يشير ذلك إلى أن جزيئي بي أيه سي أيه بي وسي جي آر بي يحفّزا مسارين بديلين لنوبات الشقيقة، وقد يكون البعض عرضة لأحد المسارين أو الآخر. بالتالي، قد تفيد حاصرات بي أيه سي أيه بي في الوقاية من النوبات أو علاجها لدى الأشخاص الذين تساعدهم حاصرات سي جي آر بي على ذلك.
تشير الأبحاث السريرية التي أجراها العلماء حتى الآن إلى أن العلاجات المعتمدة على جزيء بي أيه سي أيه بي قد تكون مفيدة بالفعل. أعلنت شركة الأدوية الدنماركية لوندبيك عام 2023 عن نتائج تجربة منح فيها الباحثون 237 شخصاً جرعة من الأجسام المضادة لجزيء بي أيه سي أيه بي. شهد المشاركون الذين تلقوا أعلى جرعة انخفاضاً في عدد الأيام التي عانوا فيها نوبات الشقيقة بمقدار ستة أيام وسطياً في الأسابيع الأربعة التي تلت العلاج مقارنة بالفترة قبل تلقي الدواء، بينما انخفض هذا العدد بمقدار 4 أيام لدى الأشخاص الذين تلقوا العلاج الوهمي.
هناك أيضاً أبحاث أشينا، التي جمع فيها بين الدلائل المختلفة حول العديد من مفاتيح "التشغيل"، وهي تشير إلى أن جزيئي بي أيه سي أيه بي وسي جي آر بي وغيرهما يؤثران من خلال تفعيل الأدينوزين الأحادي الفوسفات الحلقي، ما يحفّز الأوعية الدموية على إطلاق البوتاسيوم. إذا كان ذلك صحيحاً، فيمكن أن تؤدي الأدوية التي تؤثر في الأدينوزين الأحادي الفوسفات الحلقي أو قنوات البوتاسيوم دور مفاتيح "تشغيل" أو "إيقاف" لنوبات الشقيقة.
اختبر أشينا هذه الفرضية باستخدام السيلوستازول، وهو موسّع للأوعية الدموية يستخدمه الأشخاص الذين يعانون سوء التروية الدموية في الأرجل. يعزز السيلوستازول تركيب الأدينوزين الأحادي الفوسفات الحلقي، ولاحظ أشينا أنه يتسبب بالنوبات لدى أغلبية الأشخاص المصابين بالشقيقة.
اختبر أشينا أيضاً الليفكروماكاليم، وهو أيضاً موسّع للأوعية الدموية يخفض ضغط الدم. يفتح الليفكروماكاليم قنوات البوتاسيوم، وهي وظيفة تسببت أيضاً بنوبات الشقيقة لدى المشاركين البالغ عددهم 16 مشاركاً في الدراسة التي أجراها أشينا.
تشير هذه التجارب بالنسبة لأشينا إلى أن الأدوية التي تثبّط المسارات التي تتسبب بالنوبات قبل إطلاق البوتاسيوم أو عنده قد تكون مفيدة. قد تتسبب هذه الأدوية بآثار جانبية مثل التغيرات في ضغط الدم، لكن أشينا يشير إلى وجود أنواع فرعية من قنوات البوتاسيوم قد تعمل في الأوعية الدموية الموجودة في الدماغ فقط، وقد يكون استهداف هذه القنوات المحددة أكثر أماناً.
يقول روسو: "أفضّل شخصياً الطرق المعتمدة على قنوات البوتاسيوم، وأعتقد أننا قادرون على تطوير أدوية مفيدة تستهدف القنوات الأيونية، أي قنوات البوتاسيوم".
اقرأ أيضاً: باحثون يطوّرون جهازاً جديداً فريداً من نوعه لمعالجة جرعات الأفيون الزائدة
إمكانات المواد الأفيونية
روسو متفائل أيضاً بشأن الأبحاث على نوع جديد من المواد الأفيونية. تؤثّر المواد الأفيونية التقليدية، سواء الدوائية أم المستخرجة من نبات الخشخاش، في مستقبِل يحمل اسم "مو" (Mu). تتمتّع هذه المواد بقدرة مذهلة على تسكين الألم، لكنها تسبب غالباً آثاراً جانبية مثل الإمساك والحكة، كما تؤدي إلى شعور النشوة وتعرض المستخدم لخطر الإدمان.
مع ذلك، تقول برادهان إن هناك فئة أخرى من مستقبِلات المواد الأفيونية تحمل اسم "مستقبلات دلتا" لا تتسبب بالنشوة، وهي تبحث في هذه المستقبِلات. عندما يقدّم الباحثون للحيوانات جزيئات المواد الأفيونية المستهدفة لمستقبلات دلتا، فإن هذه الحيوانات لن تتناول الأدوية بنفسها كما تفعل مع المواد الأفيونية التي تؤثر في مستقبل مو مثل المورفين، ما يشير إلى أن تعاطي هذه الأدوية أقل إمتاعاً وبالتالي فاحتمال أن تتسبب بالإدمان أقل.
توجد مستقبلات دلتا في أجزاء معينة من الجهاز العصبي مرتبطة بالشقيقة، مثل العقدة الثلاثية التوائم. اكتشفت برادهان أن المركبات التي تؤثر في مستقبلات دلتا الأفيونية لدى الفئران تخفف فرط الحساسية تجاه اللمس، وهو مؤشر لأعراض تشبه أعراض الشقيقة، وتخفض أيضاً نشاط الدماغ المرتبط بنسمة الشقيقة.
بفضل الأدلة الأولية التي تشير إلى إمكانية استهداف هذه المستقبلات بأمان لدى البشر، تسعى شركتا فارم نوفو (PharmNovo) السويدية وتريفينا (Trevena) التي مقرها ولاية بنسلفانيا الأميركية إلى تطوير علاجات أفيونية بديلة. يمكن استخدام هذه الأدوية في علاج الشقيقة أو الوقاية منها.
تنتج الشقيقة عن العديد من المحفّزات ولها العديد من الأنواع، فضلاً عن أن نوباتها لها أنواع متعددة، وهناك الكثير من المواد التي يمكن استهدافها لعلاجها أو الوقاية منها، وقد يطور الباحثون المزيد من العلاجات بمرور الوقت.
يقول ليفي: "لا أعتقد أننا سنكتشف جزيئاً واحداً فقط يساعد على علاج الشقيقة، وآمل أنه خلال 10 أو 15 سنة، سنعرف ما هي محفّزات هذا الصداع ونتمكن من استهدافها على مستوى الفرد الواحد".