يعتمد التوصل إلى فهم مكتمل للغز تطور البشر أحياناً على دراسة الأسنان. عثر العلماء على أسنان متحجرة عمرها 1.7 مليون سنة تحمل دلائل مهمة تساعد على دراسة أسلاف البشر والقردة. ربما كان أشباه البشر الأوائل هؤلاء، الذين عاشوا في المكان الذي اصبح لاحقاً أوروبا، يتمتعون بمزيج من سمات النضج المبكر الشبيهة بسمات أسلاف البشر من القردة العليا والنمو المتأخر الشبيه بنمو البشر. وصف العلماء المكتشفات الجديدة في دراسة نشرتها مجلة نيتشر (Nature) بتاريخ 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2024.
ثلاثة أسئلة مهمة
تبرز ثلاثة أسئلة بالغة الأهمية عند دراسة ألغاز تطور البشر الأساسية. يتعلق الأول بكيفية اكتساب البشر ميزة المشي على رجلين بكفاءة، بينما يتعلق الثاني بكيفية اكتسابنا أدمغة كبيرة لهذه الدرجة؛ إذ يتمتع الإنسان الحديث الولادة بدماغ يبلغ حجمه حجم دماغ القردة العليا البالغة تقريباً، ويتعلق الثالث بنمو البشر البطيء للغاية وطفولتهم الموسعة على عكس الرئيسيات الأخرى.
يقول عالم مستحاثات البشر في جامعة زيورخ السويسرية والمؤلف المشارك للدراسة الجديدة، كريستوف زوليكوفر، لبوبيولار ساينس: "لو عاشت القردة العليا حياة البشر، فمن المرجح ألا تمتلك الوقت الكافي للوصول إلى مرحلة روضة الأطفال قبل أن تبلغ، ويبين ذلك مقدار الوقت الهائل الذي يقضيه البشر في النمو ضمن بيئة اجتماعية معقدة للغاية".
اقرأ أيضاً: لماذا تستطيع بعض الكائنات شرب المياه المالحة ولا نستطيع نحن البشر؟
تساعدنا الأسنان الأحفورية على فهم الآليات التي جعلت البشر يكتسبون هذه المراحل الفريدة من الحياة لأنها تحفظ أنماط النمو التدريجي. يمكن استخدام هذه الأسنان الأحفورية لاستنتاج سرعة النمو ووقت بدء مراحله، تماماً مثل حلقات الأشجار.
يقول زوليكوفر: "تنمو الأشجار من خلال التراكم السنوي للمادة، ويمكننا إحصاء عدد الحلقات لتحديد أعمارها. تنمو الأسنان من خلال اكتساب حلقات نمو يومية؛ إذ تتراكم فيها يومياً مواد صغيرة يتطلب تشكلها عدة سنوات. يمكننا قص الأسنان ورؤية حلقات النمو واستنتاج معدل نموها، ويشبه الأمر مشاهدة فيلم لنمو السن من الولادة حتى الوفاة".
دراسة الأحافير
فحص زوليكوفر وفريقه في الدراسة الجديدة عدداً من الأسنان التي اكتشفها العلماء منذ أكثر من 20 سنة في جبال القوقاز في مدينة دمانيسي بجورجيا. يصف زوليكوفر المجموعة الأحفورية التي تنتمي إليها هذه الأسنان بأنها "كنز" لأنها تتضمن 5 جماجم كاملة وأسناناً تعود إلى البشر الأوائل من مختلف الأعمار.
يقول زوليكوفر: "أحد هؤلاء الأفراد يافع، أما الآخرون فهم من البالغين الصغار السن، وبعض الذين فقدوا أسنانهم جميعها قبل الوفاة، ما يعني أن هذه المجموعة تمثّل الأعمار كلها".
تعود هذه الأسنان إلى بعض أقدم أعضاء جنس البشرانيات (الهومو) خارج إفريقيا، وتوفر فرصة لدراسة عمليات النمو لدى البشر الأوائل. استخدم الفريق تقنيات التصوير المتقدمة لتحليل البنية السنيّة المجهرية لبشراني مبكّر مات قبل وقت قصير من وصوله إلى مرحلة النضج السني، أي بين 11 و12 سنة تقريباً.
يبدو معدل النمو في أسنان هذا المراهق أعلى وهو شبيه بالمعدل المرصود في القردة العليا الحالية، لكن نمو الأسنان الخلفية لديه يبدو أبطاً وأشبه بمعدل النمو لدى البشر مقارنة بنمو الأسنان الأمامية. اكتشف الباحثون أيضاً أدلة تبين أن هذا المراهق شهد فترة نمو سريع متأخرة للأسنان.
تقول عالمة الأنثروبولوجيا البيولوجية في جامعة ولاية أوهايو التي راجعت الدراسة، ديبي غواتيلي-شتاينبرغ، لبوبيولار ساينس: "كان معدل النمو هو الأكثر إثارة للدهشة بالنسبة لي؛ إذ إننا نعتقد في مجالنا عادة أن النمو يحدث بخطوات ثابتة إلى حد ما، لكن هذا لم يحدث في حالة هذا المراهق، بل ما لاحظه الباحثون هو أن النمو اللاحق كان سريعاً للغاية".
ألّفت غواتيلي-شتاينبرغ مقال آراء إخبارياً نشرته مجلة نيتشر مع الدراسة الجديدة.
فرضيّة الجَدّة
وفقاً لزوليكوفر، هذا المزيج الفريد من السمات الشبيهة بسمات كل من القردة العليا والإنسان في تطور الأسنان يبين أن البشرانيات المبكرة كانت تتمتع بفترة نمو موسعة في تلك المرحلة بالفعل.
ينظر علماء الأنثروبولوجيا إلى مسألة: أيهما تطور أولاً: الطفولة الطويلة أم الأدمغة الأكبر؟ باعتبارها معضلة تقليدية من نوع "ما الذي تشكل أولاً، البيضة أم الدجاجة؟". يفترض الكثيرون أن أدمغة البشر ازدادت حجماً بسبب فترة الاعتماد الممتدة هذه.
اقرأ أيضاً: كيف نحافظ على الكتلة العضلية مع التقدم في العمر؟
تمثل نتائج الدراسة الجديدة أدلة تبين أن التكاثر البيولوجي الثقافي، الذي يشمل الجوانب البيولوجية والثقافية التي تؤثر في التطور، هو أيضاً مرتبط بالطفولة الطويلة، وليس فقط نمو الدماغ. يطلق العلماء على هذه الفرضية عادة اسم "فرضية الجَدّة"، وهي تنص على أن الطفولة الطويلة نتجت عن عيش ثلاثة أجيال معاً، الأطفال والآباء والأجداد.
يقول زوليكوفر: "هذا هو السبب الذي جعل الطفولة الطويلة تظهر وتستمر؛ إذ إن مسؤولية تربية الأطفال لم تعد تقع على عاتق الأمهات فقط".
قد تساعد دراسة العلامات الكيميائية في مينا الأسنان مستقبلاً على تفسير المزيد من الظواهر البيولوجية الغامضة التي تساعد بدورها على فهم الأدلة الثقافية على التطور البشري في سياق أشمل.