كشفت دراسة حديثة أن الحديد كان المعدن الانتقالي الوحيد المطلوب لظهور الحياة على الأرض، وأن انخفاض مستويات الحديد بعد ذلك، أسهم في تطوير الكائنات البدائية لاستراتيجيات جديدة من أجل البقاء. وأسهم توفر معادن انتقالية أخرى، مثل النحاس والزنك، في دفع تطور الحياة البدائية، واعتمادها على تلك المعادن. تتحدى هذه الفرضية النظريات السابقة بخصوص أدوار المعادن المختلفة في العمليات الحيوية المبكرة، وتشير إلى تفرد الحديد بصفته عنصراً أساسياً في الجدول الزمني التطوري للحياة.
اقرأ أيضاً: ما العلاقة بين نقص فيريتين الحديد وتساقط الشعر؟
"الحديد" المعدن الانتقالي البدائي للحياة
تفترض الدراسة التي أجراها فريق متعدد التخصصات من جامعة ميشيغان (University of Michigan)، بالتعاون مع معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (California Institute of Technology)، وجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، ونشرتها دورية وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم (Proceedings of the National Academy of Sciences)، أن وفرة الحديد في المحيطات المائية ربما جعلت المعادن الانتقالية الأخرى "غير مرئية" للكائنات الحية البدائية في ذلك الوقت، التي اعتمدت بشدة على الحديد في وظائف أساسية، مثل التنفس والتمثيل الغذائي ونسخ الحمض النووي. ويعتقد الباحثون أن هذه الوفرة ربما سهّلت الانتقال من أشكال الحياة البسيطة إلى المعقدة، وأن الحياة تمحورت حول وجود المعادن، ما يشير إلى أن العوامل الكيميائية كانت حاسمة في تشكيل مسار التطور البيولوجي.
فهم جديد للتطور البيولوجي وأصل الحياة
توصل الباحثون إلى هذه النتائج من خلال الاعتماد على بيانات جيولوجية حول تركيب قشرة الأرض والمحيطات القديمة، وخصائص الفتحات الحرارية المائية التي كانت تُطلق المعادن في المحيط القديم، ومن ثَمَّ استخدموا برامج حاسوبية تُحاكي التفاعلات الكيميائية بين المعادن في ظروف هذه المحيطات. حسب الباحثون عندها أقصى تركيز يمكن أن يوجد عندها المعدن في الماء، وقارنوا بين قوة ارتباط العديد من الجزيئات البسيطة، مثل الأحماض الأمينية، مع مختلف أيونات المعادن مثلما قارنوا بين الوظائف التي تؤديها الإنزيمات الحديثة التي تحتوي على معادن مختلفة، وبحثوا في إمكانية استبدال معدن بآخر في بعض الإنزيمات دون التأثير في وظيفتها على نحو كبير.
تؤكد الدراسة أهمية البروتينات الحاملة للمعادن، مثل نواقل الحديد، والتي تمثّل جزءاً كبيراً من البروتينات الخلوية، إلى جانب تفاعلات الإنزيمات المعتمدة على الحديد، التي تُعدّ جزءاً أساسياً في تطور الحياة، ما يؤكد أهمية المعادن في النُظم البيولوجية.
"أحد أكبر التحديات في علم الأحياء الفلكية هو فهم كيفية بداية الحياة على الأرض قبل مليارات السنين عندما كانت البيئة مختلفة تماماً عما هي عليه اليوم".
مدير معهد علم الأحياء الفلكية (Astrobiology Institute) التابع لوكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، كارل بيلشر Carl Pilcher
تقدّم هذه النتائج بُعداً آخرَ لفهم التطور البيولوجي وأصل الحياة، وتفيد بأن العمليات الكيميائية الحيوية الأساسية للحياة ربما كانت أبسط مما كان يُعتقد سابقاً، مثلما تعزز فهمنا لدور الحديد في العمليات الحيوية، وتأثيراته في الصحة، وأهميته التطورية في النُظم البيولوجية.
اقرأ أيضاً: ما هي المعادن الكبرى والصغرى في جسم الإنسان؟ وكيف تختلف حاجته إليها؟
خصائص الحديد الفريدة جعلته مكوناً أساسياً لظهور الحياة
يُعدّ الحديد من العناصر الأكثر وفرة على الأرض، ويمثّل نحو 5% من كتلة قشرة الكرة الأرضية.
وأسهمت وفرته وتعدد استخداماته بطريقة جوهرية في العمليات البيولوجية المختلفة، وخاصة تطور أشكال الحياة المبكرة، مثل الكائنات أحادية الخلية الأولى. يُعدّ انتقال الحديد بين حالتيه الثنائية والثلاثية ضرورياً للعديد من العمليات الحيوية، خاصة في البيئات البحرية، حيث يمكن أن يؤدي اختزال الحديد إلى أكسدة مركبات الكبريت، وهي مركبات أساسية في عمليات مثل التمثيل الضوئي.
ينحل الحديد الثنائي بسهولة في المحيطات البدائية، ما وفّر بيئة بحرية غنية بالحديد خلال العصر الأركي، أي منذ نحو 4 مليارات وحتى 2.5 مليار سنة. مع تطور الحياة، ازداد التنافس على الحديد القابل للانحلال، لا سيما بعد حدث الأكسدة العظيم (the Great Oxidation Event)، قبل نحو 2.4 مليار سنة، عندما زاد تركيز الأوكسجين في الغلاف الجوي للأرض على نحو كبير، نتيجة نشاط الكائنات الحية، مثل البكتيريا الزرقاء، التي تجري عملية البناء الضوئي.
أدّت هذه الزيادة إلى تغييرات كبيرة في البيئة والمناخ، ونشوء كائنات جديدة، وقللت توفر الحديد الثنائي. مع ندرة الحديد، أصبحت المنافسة عليه شرسة، ولم يعد الاكتفاء بامتصاص الحديد من البيئة كافياً، بل اضطرت الكائنات الحية إلى تطوير استراتيجيات جديدة للحصول عليه، مثل إعادة تدوير الحديد من الخلايا الميتة أو سرقة الحديد من الخلايا الحية أو التطفل على خلايا أخرى واستخدام آلياتها في امتصاص الحديد للبقاء على قيد الحياة. يرى بعض العلماء أن هذه المنافسة المحتدمة على الحديد ربما كانت الدافع الأول لنشوء الكائنات متعددة الخلايا، وأسهم توفر معادن انتقالية أخرى مثل النحاس و الزنك في تطور الحياة البدائية واعتمادها على تلك المعادن.
اقرأ أيضاً: الفطريات القديمة قد تكون سبباً في ظهور أشكال الحياة المعقدة
آفاق الدراسة
تفتح الدراسة آفاقاً أمام استكشاف وجود حياة خارج الأرض، حيث يبحث العلماء عن وجود ظروف مماثلة على أجرام سماوية أخرى مثل تلك التي أدّت إلى نشأة الحياة على الأرض. إلى جانب إمكانية إجراء العديد من الدراسات المستقبلية، التي تعني بـ:
- تطوير علاجات أكثر فاعلية: يمكن تطوير الأدوية لأمراض اضطراب الحديد، من خلال معرفة العوامل المؤثرة في عملية التمثيل الغذائي للحديد، وآثارها في الصحة.
- تطوير طرق فحص متقدمة: يمكن تطوير استراتيجيات فحص مبتكرة غير تقليدية للمؤشرات الحيوية، مثل مستويات الهيموغلوبين. يمكن أن تساعد هذه الطرق على استهداف السكان المعرضين للخطر بطريقة أكثر فاعلية عبر دمج التاريخ الطبي للأم، والبيانات الصحية الأخرى لتطوير برنامج فحص شامل يهدف إلى تقليل التأثيرات العصبية لنقص الحديد، لا سيما في الفئات الأكثر عرضة.
- تطوير نهج تكاملي في الأبحاث: يمكن تطوير أطر عمل متكاملة تجمع بين البيانات الجينية والبيئية والسريرية، لتوضيح العلاقة بين التمثيل الغذائي للحديد، وخطر الإصابة بالأمراض، لتعزيز فهمنا لأسباب الحالات الصحية المرتبطة بمستويات الحديد.
- دراسة الآثار الطويلة المدى في المستوى الحيوي والجيني: يمكن بحث العلاقة بين التغيرات في التوفر البيولوجي للحديد وتأثيره في إنزيمات أساسية مثل البوليميراز التي تنظّم عمليات تخليق الحمض النووي وإصلاحه، وهي عمليات ضرورية لنمو الخلايا وتجديد الأنسجة، وضمان سلامة المعلومات الوراثية واستمرارها. وكذلك، يمكن البحث في تأثير "المركبات الحديدية الكبريتية" في الوظائف الخلوية، واستقرار الجينوم، وفهم العواقب الطويلة الأمد على مستوى التمثيل الغذائي والجينات.