قد يكون اكتشاف وجود حياة ذكية خارج كوكبنا هو الحدث الأكثر تحوّلاً في تاريخ البشرية، ولكن ماذا لو قرر العلماء بشكل جماعي تجاهل الأدلة التي تشير إلى حدوث ذلك بالفعل؟ هذه هي مقدمة كتاب جديد لعالم فلك بارز، والذي يجادل بأن أبسط وأفضل تفسير للخصائص بالغة الغرابة لجسمٍ انطلق بسرعة عبر نظامنا الشمسي عام 2017 هو أنه كان تقنيةً فضائية.
رغم غرابة الأمر، يقول «آفي لوب» إن الأدلة تثبت خلاف ذلك، وهو مقتنع أن أقرانه في المجتمع العلمي مستَهلكون جداً في التفكير الجماعي لدرجة أنهم غير مستعدين لاستخدام «نصل أوكام»؛ وهو نهج علمي وفلسفي ينص على اللجوء دائماً إلى أبسط التفسيرات وأكثرها استساغة.
نبذة عن العالم
يتمتع الأستاذ الدكتور «آفي لوب» بمسيرة رائدة في علم الفلك والفيزياء الفلكية وعلم الكونيات. إذ قام بتأليف مئات الأوراق البحثية الأكاديمية حول مواضيع من الثقوب السوداء إلى الأيام الأولى للكون، وتعاون في مشاريع مع أشهر وأهم الفيزيائيين أمثال «ستيفن هوكينج» وقاد قسم علم الفلك في جامعة هارفارد لمدة عقد تقريباً، أطول من أي شخص في تاريخ القسم.
ولكن على الرغم من السيرة الذاتية المثيرة للإعجاب التي تتعمق داخل بعض أكثر المؤسسات العلمية احتراماً في العالم، فقد وجد «لوب» نفسه على خلاف مع التيار الرئيسي للعلوم في السنوات الأخيرة بسبب فرضيته الأكثر إثارة للجدل. إذ أصبح مقتنعاً بشكل متزايد بأن جسماً فضائياً، يفترض العديد من علماء الفلك الآخرين أنه مجرد صخرة فضائية غريبة، هو في الحقيقة قطعة من التكنولوجيا الفضائية تم إرسالها في اتجاهنا من قبل حضارةٍ أخرى خارج كوكب الأرض.
كتب لوب في مقدمة كتابه الجديد عن هذا الجسم، الذي سمّي بـ«أومواموا»، (خارج الأرض: العلامة الأولى للحياة الذكية بعيداً عن الأرض): "أسلّم أن أبسط تفسير لهذه الخصائص هو أن هذا الكائن تم إنشاؤه بواسطة حضارة ذكية ليست من هذه الأرض".
من أين بدأت القصة؟
بالعودة إلى عام 2017، اكتشف مجموعة من علماء الفلك -لم يكن لوب من بينهم- جسماً غريباً يطير مبتعداً عن الأرض بشكل غير عادي، ويتدحرج من نهايته ويتسارع مع انطلاقه خارج النظام الشمسي. وكان الأمر الأكثر لفتاً للنظر هو أنه يبدو أنه نشأ من خارج نظامنا الشمسي وأنه كان يمر مرور الكرام فقط.
أُطلق على هذا الجسم الأول من نوعه اسم «أومواموا»؛ وهي كلمة من هاواي تعني تقريباً «الكشاف». عمل العلماء في جميع أنحاء العالم على تحليل البيانات المحدودة لذاك الجسم الغريب. ونظراً لأن الجسم تم اكتشافه بعد دخوله في نظامنا الشمسي، مرره بالقرب من الشمس والأرض، وبدئه في الخروج منه، فقد تمكّن عدد قليل من التلسكوبات من الحصول على أي شيء يمكن أن يُطلق عليه من صورة مقربة جيدة.
قال «لوب» في وقتٍ سابق من هذا الشهر: «إن الأمر مثل وجود ضيف على العشاء وعدم إدراك أن الضيف غريب أطوار إلا عندما يخرج من الباب الأمامي ويذهب إلى الشارع المظلم».
السمة الأساسية لغرابة الجسم، بحسب «لوب» هي كيف بدا أنه يتسارع عندما غادر منطقتنا الكونية، تماماً مثل مذنبٍ ينفث الغازات. المشكلة هي أن الجسم لم يكن لديه ذيل مذنب مرئي. في الأساس، بدا وكأنه كويكب غريب جداً، لكنه تصرف مثل مذنب.
كان كل هذا رائعاً ومحيراً للعلماء لدراسته. لكن المشهد جذب انتباه الجمهور الأكبر عندما نشر «لوب» وأحد طلابه ورقة بحثية أواخر عام 2018 تشير إلى أن الجسم يمكن أن يكون «شراعاً خفيفاً»؛ أي نوع من المركبات الفضائية المدفوعة بزخم جزيئات الضوء في الفضاء، والتي تم بناؤها من قبل حضارة فضائية متقدمة تقنياً.
وفجأةً بعد ذلك، ذاع صيت الجسم و «لوب» وفرضيته، مما جذب انتباه وسائل الإعلام وولّد رد فعل عنيف من العديد من علماء الفضاء. رأى البعض أن لوب يستدعي الضوء لنفسه في المقام الأول في سبيل الشهرة فقط، بينما اتهمه آخرون برؤية الأشرعة الضوئية في كل مكان - لوب في فريق «بريك ثرو ستارشَت» الذي يعمل على إرسال شراع ضوئي إلى أقرب نجم قزم أحمر إلى الشمس، «قنطور الأقرب».
نزاع علمي وفرضيات متناقضة
نشرت مجموعة من علماء الفلك، بمن فيهم أولئك الذين اكتشفوا الجسم في الأصل بحثاً خاصاً بهم عام 2019 يرفضون فيه جميع النظريات الفضائية ويعلنون يقينهم النسبي في أصول الجسم الطبيعية. وخلصت الورقة البحثية إلى عدم وجود ما يبرر التأكيدات على أن الجسم قد يكون مصطنعاً.
قال لوب عندما سُئل عن هذا الطعن: «حسناً، لم أتفاجأ بهذا. إذا عرضت هاتفاً خلوياً لرجل الكهف الذي نظر إلى الصخور طوال حياته، فسيستنتج رجل الكهف أن الهاتف المحمول هو مجرد صخرة مصقولة جيداً... عليك أن تكون متفتح الذهن من أجل العثور على أشياء رائعة».
وهذه واحدة من الرسائل الأساسية في كتابه الجديد، والتي تحدّد فرضية الشراع الخفيف مرة أخرى بلغة مبسّطة، لكنها تقضي العديد من الصفحات في الاستجابة لرد الفعل العنيف ضدها وما يراه لوب على أنه أزمة في العلم. ويعتقد أن كوادر العلماء يجتمعون في بعض الأحيان لتأسيس سلطة، والتراجع عن المفاهيم التي تبدو للبعض بعيدةً عن الواقع مثل الحضارات المتقدمة البعيدة، والتي غالباً ما كانت تعتبر غير جديرة بالدراسة العلمية الجادة على مدى عقود.
وأوضح «لوب» أن هذه المقاومة للبحث عن ذكاء خارج كوكب الأرض تتلخص في النزعة المحافظة، التي يتبناها العديد من العلماء لتقليل عدد الأخطاء التي يرتكبونها خلال حياتهم المهنية. ويرى أنه من المفارقة أن يرى علماء الفلك يأتون بأفكارهم البعيدة لشرح «أوماموا» كجسمٍ طبيعي، مثل «أرنب الغبار» الكوني الذي يتم دفعه بواسطة الضوء أو جبل جليدي مصنوع تقريباً من الهيدروجين النقي كلياً، وهما ظاهرتان لم يسبق أن لوحظتا أبداً بشكلٍ مباشر من قبل كذلك.
الادعاءات غير العادية تتطلب أدلةً غير عادية
يقول علماء مثل «ناتالي ستاركي»، التي تحلل المذنبات والكويكبات في الجامعة المفتوحة في المملكة المتحدة، إن تفسير الحضارة الفضائية مطروحاً على الطاولة، لكن في أقصى نهايتها.
إذا قالت في مقابلة أجرتها مع عالم الفلك الشهير «نيل ديجراس تايسون» على البرنامج الإذاعي «ستارتوك راديو» في 18 يناير/كانون الثاني: «ما يتعين علينا القيام به أولاً هو استبعاد كل الأفكار الطبيعية حول ما يمكن أن يكون هذا الشيء».
كما استشهدت «ستاركي» أيضاً بالمبدأ الشائع «الادعاءات غير العادية تتطلب أدلةً غير عادية»، وهو المعيار الذي وضعه عالم الفلك الشهير «كارل ساجان». لكن أشار عالم الفلك «لوب» بدوره إلى رفض هذه العبارة العريقة. معتبراً أن كلمة «غير عادية» هي تعبير ذاتي تماماً. كما يعتقد أن العلم يجب أن يستند إلى الأدلة، وأن المناقشة المحكّمة تستوجب المزيد من الأدلة، لكن لا ينبغي لنا رفض الخيارات لأن الأدلة ليست قوية بما يكفي.
وبالرغم من أن مجموعة ردود الفعل من العلماء على فرضية «لوب» كانت مثيرةً للاهتمام. إلا أنه لم يتم ذكره بالاسم مطلقاً في حلقة «ستار توك» المذكورة أعلاه والتي كانت تدور حول الجسم الغريب، أو في الورقة الأكاديمية لعام 2019 التي دحضت فرضيته المنتشرة على نطاق واسع. كما قام علماء آخرون، مثل عالم الكونيات في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا «شون كارول»، بإعطاء لوب وفرضيته منصةً للتحدث عنها. إذ تم تخصيص حلقة يوم 25 يناير/كانون الثاني من بودكاست «مايندسكيب» لإجراء محادثة واسعة النطاق مع لوب.
ربما يكون مستقبلنا الكوني أكثر إشراقاً
يأمل البعض منا ويحلمون، بل ويريدون بشدة أن يعرفوا أن الإنسانية ليست وحدها في هذا الكون. قد يعتقد العديد من هؤلاء الأشخاص أن مصيرنا هو الوصول إلى أماكن أبعد في الكون، والسفر إلى كواكب أخرى وما وراءها. وتعتبر هذه النظرة هي الأقل شيوعاً.
ومن المرجح أكثر أن يأخذ الناس نظرة متشائمة لأشياء مثل بناء مدينة على المريخ، والتي تأسر تماماً أشخاصًا مثل «إيلون ماسك» ومعجبيه. إذ يعتقد معظم الناس أن البشر يواجهون صعوبة في إدارة مشاكلهم التي لا تعد ولا تحصى على الأرض لدرجة أنه لا معنى حقيقي للانتقال إلى كوكب آخر، أو أنه ربما حتى لن ننجح إذا حاولنا.
لكن يبقى هناك دافعٌ لفئة الحالمين السابقة. حتى أن «لوب» كتب في كتابه عن رغبته في رؤية البشر يرسلون مجسات مجهزة بعينات من الحمض النووي البشري إلى الكون كنوع من النسخ الاحتياطي لجنسنا البشري. وهذا يعكس تلك الرؤية الأكثر تفاؤلاً لكون مليء بالحضارات الذكية التي تسافر عبر الكون بواسطة «أومواموا».
ربما لا يشارك علماء آخرون لوب تفاؤله بشأن احتمالات الحياة الذكية في الكون. أو ربما يكونون مهتمين أكثر فقط بتفسير ذلك الجسم بناءً على مفهومٍ موجود مسبقاً لماهية الكون وكيف يعمل. النقطة المهمة هي أن العلماء لن يتوقفوا عن البحث للوصول إلى الإجابة الحاسمة والتفسير المؤكد للكون من حولنا.