ثمة أماكن قليلة في النظام الشمسي أشد حرارة من سطح الشمس؛ ولكن وخلافاً للتوقعات، من المدهش أن حرارة الطبقة الخارجية من الغلاف الجوي التي تتكون من خيوط رفيعة من البلازما؛ والتي تُعرف بهالة الشمس، أكبر بكثير من حرارة سطحها.
يقول الباحث في علوم الفضاء بجامعة كاليفورنيا، جيا هوانغ: "إنه لأمر محير أن تكون هالة الشمس أشد حرارة من سطحها على الرغم من أنها أبعد عن مركز الشمس".
تبلغ درجة حرارة سطح الشمس نحو 5,530 درجة مئوية، بينما يمكن أن تصل درجة حرارة الهالة الرقيقة إلى 1,100,000 درجة مئوية، ويُشار إلى هذه الظاهرة اللغز باسم "مسألة التسخين الإكليلي"، ويحاول العلماء تفسيرها منذ أواسط القرن التاسع عشر.
يوضح هوانغ إن حل مسألة التسخين الإكليلي يمكن أن يساعدنا في فهم شمسنا بصورة أفضل، ويضيف إن الفهم الأفضل للفيزياء الشمسية "ضروري للتنبؤ بطقس الفضاء لحماية البشر". علاوة على ذلك، الشمس هي النجم الوحيد الذي يمكننا إرسال المسابير إليه لأن النجوم الأخرى بعيدة جداً، ولذلك يمكن أن يساعدنا فهم فيزيائها على فهم سلوك النجوم الأخرى في الكون".
تاريخ موجز لمسألة التسخين الإكليلي
في عام 1869، تمكّن العلماء من ملاحظة الهالة الباهتة في أثناء كسوف الشمس الكلي؛ الذي يحدث عادة عندما تصطف الشمس والقمر والأرض على خط واحد، فتحجب الأرض معظم ضوء الشمس ما يسمح للهالة بالظهور. وكشفت ملاحظاتهم عن ميزة في الهالة يعتقدون أنها دليل على عنصر جديد أطلقوا عليه اسم "الكورونيوم" (coronium) نسبةً إلى الهالة. بعد مرور أكثر من 60 عاماً، كشفت نظريات ميكانيكا الكم المحسّنة أن هذا "العنصر الجديد" كان في الواقع حديداً عادياً قديماً سُخّن إلى درجة حرارة أعلى من حرارة سطح الشمس.
اقرأ أيضاً: سر التمثال الذي يتبع الشمس لأكثر من ألف عام
كان اكتشاف التفسير الجديد للغز قياس عام 1869 أولَ دليل على درجة حرارة الإكليل المتطرفة جداً، وأدى إلى إجراء أبحاث استمرت عقوداً لفهم الآليات المسؤولة عن تسخين البلازما إلى هذه الدرجة الشديدة. بعبارة أخرى، كان العلماء يسعون إلى معرفة مصدر الطاقة في الهالة وكيف تصل إليها.
يقول هوانغ إنه من المؤكد أن مسألة التسخين الإكليلي ما تزال دون حل على الرغم من وجود العديد من النظريات التي تحاول تفسيرها، وما زال مجتمع علم الفلك بأكمله يعمل بحماس على حلها. توجد حالياً فرضيتان رئيسيتان لكيفية تسخين الطاقة التي تصدر من الشمس للهالة؛ الأولى هي حركة الأمواج المغناطيسية والثانية فرضية الظاهرة الانفجارية التي تُدعى "الانفجارات الشمسية المتناهية الصغر" (Nanoflares).
النظرية الأولى: موجات ألفين (Alfvén waves)
يتهيج سطح الشمس وتتصاعد الفقاعات منه كما لو كان قدراً من الماء المغلي. بفضل الحمل الحراري المكثف للبلازما، ومع ارتفاع المواد الشديدة الحرارة للأعلى وغرق المواد الأبرد، يتولد المجال المغناطيسي الهائل للشمس. يمكن لهذا المجال المغناطيسي أن يتحرك ويتذبذب بنمط معين من الموجات تُعرف بـ "موجات ألفين"؛ التي تدفع بالبروتونات والإلكترونات وتتلاعب بها في المنطقة فوق سطح الشمس.
تُعتبر موجات ألفين ظاهرة راسخة في فيزياء البلازما، وقد لاحظها الباحثون في تجارب أُجريت هنا على الأرض. بالنسبة إلى الشمس، يعتقد علماء الفلك أن حركة الجسيمات المشحونة التي تحدثها موجات ألفين يمكن أن تنقل الطاقة إلى الإكليل؛ ما يؤدي إلى تسخينها إلى درجات حرارة هائلة.
النظرية الثانية: الانفجارات الشمسية المتناهية الصغر
كان التفسير الآخر للتسخين الإكليلي أغرب قليلاً؛ إذ يبدو كما لو أن الشمس تلفّ شريطاً مطاطياً إليها وتطلقه فجأة. وبعبارة أخرى، عندما تتدفق البلازما وتدور في الطبقة العليا، فإنها تلوي خطوط الحقل المغناطيسي للشمس بأشكال متشابكة وفوضوية. في النهاية، تصل هذه الخطوط إلى مرحلة من التشابك الشديد لا تعود بعدها قادرة على الاستقرار، فتنفلت بطريقة متفجرة في حدث يُعرف بـ "إعادة الاتصال المغناطيسي"، مرسلةً ومسخنةً جزيئات مشحونة حولها؛ وهو ما يُشار إليه بـ "الانفجارات الشمسية المتناهية الصغر"، حاملة معها الطاقة إلى الهالة. كان العلماء قد لاحظوا بعض الأمثلة على الانفجارات الشمسية المتناهية الصغر باستخدام التلسكوبات والأقمار الصناعية الحديثة.
اقرأ أيضاً: تعرّف إلى مكونات الطيف الكهرومغناطيسي
ما يزال لغز التسخين الإكليلي دون تفسير
غالباً ما تكون الطبيعة أعقد مما نتوقع، ويبدو أن الشمس تنتج على الأرجح موجات ألفين والانفجارات الشمسية المتناهية الصغر كلاهما معاً، وليس إحداهما فقط؛ لكن العلماء لا يعلمون مدى تواتر هذه الأحداث.
لكن العلماء قد يحصلون على بعض الإجابات الواضحة قريباً بفضل مسبار باركر الشمسي الذي أُطلق عام 2018 في مهمة سيقترب فيها من الشمس إلى مسافة أقرب من أي وقت مضى. يحلق مسبار باركر حالياً عبر بعض الأجزاء الخارجية من الهالة؛ ما يمنح علماء الفلك أول نظرة قريبة على حركة الجزيئات التي قد تكون مسؤولة عن درجات الحرارة المتطرفة في الهالة. مر المسبار بالفعل عبر الغلاف الجوي للشمس مرة واحدة، وسيستمر في الدوران حولها عدة سنوات أخرى؛ حيث ستساعد المعلومات الرئيسية التي سيجمعها العلماء في فهم العمليات التي تسهم في تسخّن الهالة بصورة أفضل وحل هذا اللغز الذي طال أمده.
يقول هوانغ أخيراً: "أنا واثق جداً من أنه يمكننا إحراز تقدم كبير خلال العقد المقبل لتفسير هذه المشكلة".