القدرة على تحديد أي علامة موسيقية من الذاكرة أو غنائها دون مقارنتها بأي علامة أخرى، أو ما يُسمَّى "السمع المطلق"، هي موهبة نادرة. في الواقع، نسبة الأشخاص الذين يتمتّعون بالسمع المطلق أقل من واحد من أصل 10 آلاف شخص، لكنك لست بحاجة إلى هذه الموهبة لتذكر لحن ما على نحو عفوي بدقة لا بأس بها. على أي حال، قد لا تكون عديم الموهبة الموسيقية كما تعتقد.
تشير الأبحاث السابقة التي أجرها العلماء في المختبرات إلى أن الأشخاص المكلفين بمهمة تذكر أغنية معروفة وغنائها يمكنهم فعل ذلك في 15% من المرات على الأقل، وهذه نسبة أكبر من أن تفسرها الصدفة. مع ذلك، فهم علماء النفس لعملية التذكّر هذه لا يزال منقوصاً. على سبيل المثال، هل يتطلب تذكّر المفتاح الموسيقي الصحيح لأغنية ما جهداً ذهنياً منسّقاً أم إن الدماغ يخزّن هذه البيانات تلقائياً؟
اقرأ أيضاً: دراسة جديدة تكشف الآلية التي يتبعها الدماغ للتمييز بين الموسيقى والكلام
كيف يتذكر البشر العلامات الموسيقية؟
لجأ باحثون من جامعة كاليفورنيا في سانتا كروز إلى الألحان المعروفة بأنها تعلق في الذهن لسد بعض الفجوات في فهمهم لهذه الظاهرة. تساعد النتائج الجديدة التي نشرتها مجلة الانتباه والإدراك الحسي والفيزياء النفسية (Attention, Perception, & Psychophysics) بتاريخ 12 أغسطس/آب 2024 على تسليط الضوء أيضاً على الموهبة الموسيقية الفطرية للإنسان.
قال أستاذ علم النفس في جامعة كاليفورنيا سانتا كروز والمؤلف المشارك للدراسة، نيكولاس دافيدنكو، في منشور على موقع الجامعة صدر بتاريخ 14 أغسطس/آب 2024: "يفكر الأشخاص الذين يدرسون الذاكرة غالباً في الذكريات الطويلة المدى على أنها تلخّص جوهر شيء ما، أي أن الدماغ يجري عمليات مختصرة لتمثيل المعلومات عند تكوين هذه الذكريات، وإحدى الطرق التي قد تحاول أدمغتنا تمثيل جوهر الموسيقى وفقها هي نسيان المفتاح الموسيقي الأصلي للألحان".
أوضح دافيدنكو أنه بما أن الموسيقى التي لها مفاتيح مختلفة تبدو متشابهة في الكثير من الأحيان، فإن العملية المختصرة السهلة التي يجريها الدماغ قد تكون متمثلة في تجاهل تلك المعلومة في أثناء تكوين الذاكرة. لكن في الواقع، لا يبدو أن هذا ما يحدث.
تابع دافيدنكو قائلاً: "هذه الذكريات الموسيقية هي في الواقع تمثيلات دقيقة للغاية تتعارض مع فرضية التكوين الجوهري النموذجي الذي يحدث في بعض المجالات الأخرى المتعلقة بالذاكرة الطويلة المدى".
معظمنا قادر على أداء الألحان باحترافية
استخدم الباحثون صوراً موسيقية لا طوعية، وهي الألحان التي تعلق في الذهن، لاختبار دقة التقديرات الوسطية للسمع المطلق لدى البشر. تلقى 30 متطوعاً ستة إشعارات نصية وفق فواصل زمنية شبه عشوائية طوال اليوم على مدار دراسة استمرت أسبوعين. إذا كانت هناك أغنية عالقة في أذهانهم في تلك اللحظة، طلب الباحثون من المشاركين تسجيل أصواتهم وهم يغنونها بأكبر قدر ممكن من الدقة. بحلول نهاية الفترة التي استمرت أسبوعين، جمع الباحثون 462 تسجيلاً ميدانياً لألحان معروفة بأنها تعلق في الذهن. بعد ذلك، بدأ الباحثون بتقييم القدرات الموسيقية للمشاركين.
لاحظ هؤلاء أنه على الرغم من أن أغلبية المشاركين لم يتمتعوا بموهبة موسيقية فذّة بالضرورة، فإن العديد منهم كان قادراً على غناء الألحان بجودة لا بأس بها. وفقاً لنتائج الفريق، تمتعت نسبة 45% من التسجيلات بخطأ نغمة يبلغ 0 نصف نغمة، بينما بلغ خطأ النغمة 1± نصف نغمة نسبة لألحان الأغاني العالقة في رؤوس المشاركين في نحو 69% من الحالات.
اقرأ أيضاً: دراسة جديدة تبين أن الأطفال الحديثي الولادة يميّزون الإيقاعات الموسيقية
قال المؤلف الرئيسي للدراسة والمرشح لنيل درجة الدكتوراة في علم النفس الإدراكي، مات إيفانز، بتاريخ 14 أغسطس/آب 2024: "ما يبيّنه ذلك هو أن نسبة كبيرة على نحو مدهش من السكان تتمتع بنوع من القدرة التلقائية الخفية على 'السمع المطلق'".
لكن على الرغم من ذلك، بدا أن هناك العديد من الأشخاص غير الواثقين تماماً من دقة تنغيمهم. على الرغم من أن المشاركين بأغلبهم اعتقدوا أنهم كانوا قادرين على غناء اللحن على نحو صحيح، فإنهم لم يكونوا متأكدين من قدرتهم على فعل ذلك بالمفتاح الموسيقي الأصلي للحن.
قال إيفانز: "اتضح أن العديد من الأشخاص الذين يتمتّعون بذاكرة موسيقية دقيقة للغاية قد لا يتمتعون بقدرة مرتفعة على تحديد دقتهم، وقد يعود ذلك إلى أنهم لا يتمتعون بالقدرة على تحديد العلامات الموسيقية التي يتمتّع بها الأشخاص أصحاب السمع المطلق الحقيقي".
يأمل إيفانز أن تساعد نتائج الدراسة بعض الأشخاص على التصالح مع حقيقة أنهم يمتلكون مهارة الغناء، مشيراً إلى الغناء والموسيقى على أنهما "من التجارب الإنسانية الفريدة".
قال إيفانز: "لا يسمح الكثيرون لأنفسهم بالانخراط في الموسيقى لأنهم يعتقدون أنهم غير قادرين على ذلك، أو قيل لهم إنهم لا يستطيعون ذلك. "لكن في الواقع، يجري دماغك بعض هذه المهام تلقائياً وبدقة، على الرغم من أنك قد لا تعتقد أنك قادر على ذلك".