هل كِبر حجم دماغ الإنسان هو خطأ تطوري؟

هل كِبر حجم دماغ الإنسان هو خطأ تطوري؟
حقوق الصورة: shutterstock.com/ Jorm Sangsorn

يمتلك البشر وقردة الشمبانزي سلفاً مشتركاً، ولكن منذ نحو 4-6 ملايين سنة، انفصل النوعان وسارا في سياقين تطوريين مختلفين. احتفظت قردة الشمبانزي بميزات مثل المشي على 4 أطراف والعيش على الأشجار، بينما فقد البشر فراءهم وحاجتهم إلى الذيول. لكن ما يميّز البشر عن أقاربهم الأقرب هو أدمغتهم الكبيرة. دماغ الإنسان (يبلغ حجمه حجم 10 كرات تنس تقريباً) أكبر من دماغ الشمبانزي بثلاث مرات.

لماذا تطورت أدمغة البشر؟

وضع العلماء العديد من الفرضيات لتفسير تطوّر الأدمغة الكبيرة والمعقدة لدى البشر. يعتقد بعض علماء الأحياء المختصين بعلم الأحياء التطوري أن أجسام البشر الأكبر حجماً تطورت استجابة لعوامل الضغط البيئية، مثل العيش في المواطن المفتوحة غير المشجّرة التي يتطلب صيد الفرائس فيها المزيد من التعاون والتفكير.

يفترض آخرون أن أدمغة البشر ازدادت حجماً لتتمكن من التعامل مع المعلومات اللازمة لإدارة العلاقات الاجتماعية. يوفّر علماء الوراثة في دراسة جديدة نُشرت بتاريخ 27 أبريل/ نيسان 2023 في مجلة ساينس (Science) تفسيراً ثالثاً ينص على أن تطور أدمغة البشر الكبيرة ما هو إلا محض صدفة.

اقرأ أيضاً: 5 أمراض تصيب مراكز اللغة في الدماغ

هل تطور أدمغة البشر هو خطأ جيني؟

تُفضّل مديرة معهد غلادستون لعلوم البيانات والتكنولوجيا الحيوية في ولاية كاليفورنيا الأميركية والمؤلفة الرئيسية للدراسة الجديدة، كيتي بولارد (Katie Pollard)، أن تشبّه هذه المسألة برمي النرد؛ هناك احتمال أن تظهر الطفرات في جينوم كل مولود جديد من نوع ما، وتزداد فرص كل جيل جديد من الاستفادة من التعديلات في تجميعة المورثات وتزداد فرص بقائه، ويزداد احتمال بقاء هذه الطفرات المفيدة إذا ازدهرت الكائنات التي تتمتع بها ونقلتها إلى أبنائها.

تقول بولارد إنه في حالة حجم دماغ البشر، يتجلّى تراكم الطفرات في تغيرات عامة على الجينوم، ومن المحتمل أن تكون هذه الطفرات العشوائية قد أسهمت في ظهور سلاسل الحمض النووي القصيرة البالغ عددها 49 سلسلة في جينوم البشر، والتي تحمل اسم مناطق التعجيل في الإنسان (human accelerated regions). كانت بولارد وفريقها أول من اكتشف هذه القطع من الجينوم في عام 2006 بعد مقارنة جينومات البشر والشمبانزي. تؤدي هذه السلاسل من الحمض النووي دور معززات المورثات؛ إذ تتحكم في نشاط المورثات خلال مراحل التطور الجنيني، وخصوصاً المورثات التي تتعلق بتشكّل الدماغ.

اقرأ أيضاً: كيف يؤثر تعلمك أكثر من لغة على دماغك؟

مناطق التعجيل في دماغ الإنسان

تتشابه مناطق التعجيل في الإنسان كثيراً بين الأفراد، ولكنها تختلف عن نظائرها لدى الفقاريات الأخرى مثل قردة الشمبانزي والضفادع والدجاج.

كشف الباحثون منذ عام 2006 عن وجود ارتباط بين مناطق التعجيل في الإنسان وسمات عديدة تميّز نوعنا البشري. وعلى الرغم من أن بولارد أمضت وقتاً طويلاً في محاولة فهم دور هذه المناطق في تطور البشر، تركّز الدراسة الجديدة على نشوئها في المقام الأول.

جمع الفريق البيانات من 241 جينوماً للثدييات بالتنسيق مع مشروع زونوميا الأكبر (Zoonomia project)، وحددوا 312 منطقة من مناطق التعجيل فيها. أدت أغلبية هذه المناطق دور معززات للنمو العصبي، ما يشير إلى أنها مرتبطة بنمو الدماغ، ولكن عند مقارنة سلاسل الحمض النووي لدى البشر وقردة الشمبانزي، وُجدت نسبة 30% من مناطق التعجيل في مناطق من الجينوم تلتف فيها سلاسل الحمض النووي بعضها على بعض بطريقة مختلفة (وهي عملية تحمل اسم طيّ الحمض النووي)، ويشير هذا إلى أن الاختلافات البنيوية في الجينوم البشري نشأت من طفرة عشوائية حدثت في أثناء التكاثر على الأرجح.

تقول بولارد: "تحدث الطفرات بصورة متكررة، وتقع الأخطاء التي تتسبب بقطع سلاسل الحمض النووي، وحذف أجزاء منها، وغيرها من التعديلات في كل مرة يركّب الجسم فيها الحيوانات المنوية أو البيوض. لا يتسبب الكثير من الطفرات في أي أثر، ولكن يتسبب بعضها بأثر إيجابي بين الحين والآخر، وهذا حدث نادر للغاية".

في هذه الحالة، يبدو أن ثني سلاسل الحمض النووي وطيّها بطرق مختلفة ساعد على إدخال نسخة من الجينوم في كل خلية من الجسم، تقول بولارد: "فوجئنا للغاية باكتشاف أن عملية طي الجينوم لها تأثير؛ لأنها لم تحظ باهتمام الباحثين من قبل عند دراسة مناطق التعجيل في الإنسان. نظرنا إلى الحمض النووي كملف نصيّ في مستند كبير مليء بالنوكليوتيدات (الأدنين والسيتوزين والثايمين والغوانين)، وبحثنا عن الأنماط في أثناء التحرك خطياً عبر السلاسل".

اقرأ أيضاً: الكتابة على الورق تحفز الدماغ مقارنة بالكتابة على الأجهزة الإلكترونية

التغيرات في طي الحمض النووي

من المحتمل أن تكون التغيرات في طي الحمض النووي قد أثرت في الطريقة التي نظّمت فيها المعززات الوراثية نشاط المورثات لدى البشر الأوائل. اعتماداً على طريقة طي الحمض النووي، قد تكون المعززات قد اتخذت مواضع قريبة من سلاسل جديدة، ما منحها القدرة على استهداف مورثات جديدة وتعزيزها، ومن باب المصادفة كانت أغلبية المورثات المتجاورة لدى البشر متعلقة بنمو الدماغ. بتعبير آخر، كان البشر محظوظين للغاية.

تقول الباحثة في علم الوراثة في معهد الطب الحيوي الخطيّ التابع لجامعة ولاية سانت بطرسبرغ الروسية، أناستازيا ليفتشينكو (Anastasia Levchenko)، التي درست الدور الذي تؤديه مناطق التعجيل في تطور دماغ البشر من قبل: "يتمثّل الإنجاز الأساسي للدراسة الجديدة في اكتشاف أن التاريخ التطوري لمناطق التعجيل يرتبط بطريقة ما بالديناميكيات المعقدة للتكوينات البنيوية للجينوم البشري". مع ذلك، ترغب ليفتشينكو في أن يُجرى المزيد من الأبحاث لدراسة سلسلة الأحداث التي وقعت خلال تطور الجينوم البشري.

على سبيل المثال، من المحتمل أن مناطق التعجيل ظهرت في وقت أبكر بكثير من التغيرات في طريقة طي الحمض النووي البشري، أو أن طي الحمض النووي هو واحد من عدة عوامل أسهمت في نشوء مناطق التعجيل.

اقرأ أيضاً: فك شيفرة التاريخ البشري من خلال دراسة الحمض النووي للأسلاف

بالإضافة إلى ذلك، قد تكون السمات البشرية التي تختلف عن سمات الحيوانات الأخرى تطورت نتيجة مسارات وراثية مختلفة. تعتبر الدراسة الجديدة واحدة من 11 ورقة بحثية نُشرت في مجلة ساينس بتاريخ 27 أبريل/ نيسان 2023 ضمن مشروع زونوميا، وهو تعاون دولي يهدف إلى فهم الشيفرات الوراثية المسؤولة عن السمات المشتركة والمتخصصة لدى مئات الأنواع من الثدييات.

على سبيل المثال، حدد الباحثون في هذا المشروع الأجزاء المميزة من جينوم كلب الزلاجة الشهير، بالتو (Balto)، والتي ساعدته على توصيل مصل إلى قرية نائية في ألاسكا، بالإضافة إلى التغيرات الوراثية لدى البشر الأوائل التي يمكن أن يكون لها علاقة بالأمراض الحديثة. تركز ورقة بحثية أخرى على استخدام المعلومات من الحمض النووي للتنبؤ بالأنواع الأكثر عرضة للانقراض. عموماً، ستفتح دراسة الجينومات المختلفة المجال لفهم تطور الثدييات والسمات التي تجعل البشر فريدين.

المحتوى محمي