شهدنا في السنوات الأخيرة طيفاً واسعاً من إنجازات الذكاء الاصطناعي والتي لم تقتصر فقط على تحويل الحواسيب الضخمة إلى أجهزة بحجم اليد، إنما طالت مجالات طبية عدة وساعدت في تغيير ملامح الطب الحديث، فمن كان يتخيل أن مرضى الشلل النصفي -الذين فقدوا كامل حركية أطرافهم والإحساس بها-، سيكونون قادرين على استعادة شيء من قدراتهم الحركية عن طريق زرع رقاقة إلكترونية في النخاع الشوكي!
بدأ العمل على فكرة التغلب على الشلل بواسطة التحفيز العصبي عندما اقترحت مجموعة من العلماء أن زرع رقاقة إلكترونية قد ينشط نقل الإشارات العصبية، متغلبين بذلك على التثبيط العصبي الحاصل، وأوضح غريغوار كورتين، عالم أعصاب وأستاذ جامعي في المعهد السويسري الفيدرالي للتكنولوجيا في لوزان، القائم على الدراسة في بيان له: "كان للذكاء الاصطناعي الدور الأكبر في جعل ذلك أملاً محتملاً اليوم حيث إن الرقاقة المستخدمة ذات آلية معقدة، فهي قادرة على التحكم بضربات قلب الإنسان بطريقة تتناسب مع مقدار النشاط الحركي المطلوب".
مما يتكون النخاع الشوكي وما دوره في الحركة والإحساس؟
يتكون النخاع الشوكي من مجموعة من الأنسجة العصبية التي تتمايز إلى سبل حسية (القرون الحسية الخلفية) وأخرى حركية (القرون الأمامية الحركية). تنقل السبل الحسية الإحساسات المختلفة من ضغط وحرارة وألم، وترسل سيالات عصبية كهربائية تنتقل من الجلد إلى العضلات ومنها إلى مناطق الوصل العصبي العضلي وحتى السبل الحسية النخاعية، التي ترسل هذه الإشارات إلى الدماغ وتنبهه بالتغيرات الفيزيائية الحاصلة. وبالمقابل عند بدء أي شكل من أشكال الحركة، يرسل الدماغ رسالة على شكل سيالة عصبية تنتقل عبر السبل الحركية للنخاع الشوكي حتّى تصل للعضلات التي تستجيب لأمر الحركة، ومن هنا نستطيع أن نفهم آلية الشلل، ألا وهي وجود إصابة في النخاع الشوكي تعمل كحاجز يمنع وصول السيالات العصبية من الدماغ إلى الأعضاء المستهدفة -العضلات- عبر السبل الحركية، كما يمنع عبور السيالات الحسية من الجلد إلى النخاع.
مصطلح التحفيز الكهربائي للنخاع الشوكي (Spinal Stimulation) ليس بمصطلح حديث العهد، حيث أنه يستخدم كشكل من أشكال علاج الألم الجذري العصبي المزمن. ونظراً للنتائج الجيدة التي حصدها علم الأعصاب عند تطبيق التحفيز الكهربائي، وجد العالم كورتين أن دور التحفيز قد يتجاوز علاج الألم الجذري. كان الأمل عندئذ أن ينجح التحفيز في التغلب على الحاجز العائق الذي يمنع وصول السيالات، وذلك عن طريق إرسال إشارات عصبية تصل لمناطق أبعد من السبل الحركية باستخدام غرسات إلكترونية (أقطاب كهربائية)، أي يتم خلق إشارات مماثلة تماماً لتلك التي يرسلها الدماغ، ولكن مُعدلة بطريقة قادرة فيها على تجاوز النسج العصبية النخاعية المتضررة.
اقرأ أيضاً: التكنولوجيا القابلة للارتداء: أكثر من مجرد اكسسوارات إلكترونية
محتوى الدراسة
شملت الدراسة ثلاثة ذكور يعانون من الشلل النصفي نتيجة إصابة في النخاع الشوكي. كانت أعمار الذكور 29 و32 و41 عاماً، وكل منهم قد أصيب جراء وقوع حادث دراجة نارية قبل عدة سنوات، وكانت النتيجة خسارتهم كامل القدرات الحركية والحسية في كل من جذعهم وأطرافهم السفلية. وجد الأطباء من خلال القيام بالتخطيط العصبي تخرب كامل النسج العصبية في منطقة محددة من النخاع الشوكي مع بقاء 6 سم من الأنسجة النخاعية السليمة تحت المنطقة المصابة.
تم غرس الأقطاب الكهربائية المرنة بين أعصاب النخاع الشوكي وبين الفقرات العظمية. تكون الرقاقات على اتصال وثيق مع شاشة جهاز لوحي تمّكن الطبيب -أو المريض حتى في المستقبل- من التحكم بالنبضات والإشارات التي تُرسل لعضلات الجذع والطرفين السفليين. يستطيع الطبيب تحديد نمط التحفيز من خلال الجهاز اللوحي، حيث إن تحديد نمط التحفيز مهم في ترجمة الإشارات إلى أنماط حركية مختلفة، كالنهوض من الكرسي أو المشي السريع أو ركوب الدراجة.
بعد ذلك، تم تدريب المرضى على استخدام الجهاز والتعامل معه والذي كان مربكاً قليلاً بالبداية، إلا أن ذلك تحسن مع التدريب. كما أوضحت جوسيلين بلوش، أستاذة علم الأعصاب المساعدة في مستشفى جامعة لوزان، أن التدريب المبكر كان له دور كبير في الحصول على مشية متزنة وأكثر مرونة.
في الأيام الأولى التالية لزرع الرقائق الإلكترونية، كان المرضى قادرين على مشي ما يعادل 300 خطوة مع بعض المساعدة في البداية. بعد ذلك اعتاد المرضى بشكل أكبر على الأجهزة المحمولة ما حسن من نوعية الحركية، حتى أصبح معظمهم خلال عدة أشهر قادرين على المشي لمسافات طويلة وبشكل مستقل تماماً.
الأمر الذي ميّز الأقطاب الكهربائية أنها كانت قادرة على التأثير في عدة أنظمة في الجسم في آن واحد بآلية تماثل آليات الجسم الطبيعية تماماً، فركوب الدراجة مثلاً يرفع درجة حرارة الجسم ويزيد من معدل الحرق والاستقلاب من خلال زيادة عدد ضربات القلب على عكس المشي البطيء، وكانت النقطة الجوهرية أن جهاز الأقطاب اللوحي كان مُعدلاً بطريقة تسمح للبروتوكولات المقابلة بتعديل معدل وسرعة نبض القلب بما يتناسب مع نوعية الحركة وما تتطلب.
اقرأ أيضاً: ما تود معرفته عن رقاقة «نيورالينك» القادرة على معالجة بعض الأمراض
فوائد مستقبلية للدراسة
يعمل المشرفون على توسيع دائرة مرضى الدراسة بالشكل الذي يشمل أكبر عدد من المتغيرات، كانت النتائج عند دراسة زرع الشرائح عند مرضى ذوي أعمار مختلفة مرضية أكثر عند فئة اليافعين والشباب، حيث كان العمر أحد العوامل المستقلة التي أثرت بشكل واضح فيها، كما شملت الدائرة مرضى لم يمض وقت طويل على إصابتهم حيث أثبتت نتائجهم أن العلاج بالتحفيز المبكر أظهر نتائج واعدة بشكل أكبر مقارنة بالذين مضت عدة سنوات على إصابتهم، ما أكد على أهمية السرعة في اتخاذ الإجراءات الطبية حفاظاً على حيوية وديمومة الأنسجة العصبية.
اقرأ أيضاً: إيلون ماسك يخترق الدماغ برقاقة لمعالجة الشلل والاكتئاب وبث الموسيقى
بالاعتماد على النتائج المشاهدة، نستطيع القول إنه خلال العقد القادم قد يصبح الشلل مرضاً مزمناً قابلاً للتحسن أكثر من كونه عجزاً دائماً غير عكوس، وذلك بفضل إغناء أساليب الطب العلاجية بما يقدمه الذكاء الاصطناعي والتطور التكنولوجي المستمر من فهم لآلية عمل الجسم البشري وتقديم رقاقات وأجهزة إلكترونية تحاكي الطبيعية البشرية، وتعوض عن أي جزء مفقود أو متضرر منها.