فاقد الشيء أعطاه وطوره: كيف تمكن علماء فاقدون للبصر من تحسين تقنية عمرها أكثر من قرن

4 دقائق
فاقد الشيء أعطاه وطوره: كيف تمكن علماء فاقدون للبصر من تحسين تقنية عمرها أكثر من قرن
لوح ليثوبان مصنوع من الهلام المعرّض للفصل الكهربائي الهلامي باستخدام سلفات دوسيسيل الصوديوم، وهي آلية مخبرية تستخدم لدراسة البروتينات. جوردان كون وبرايان شو

قبل اختراع التصوير الفوتوغرافي، انتشر الليثوفان.

الليثوفان هو عبارة عن قطعة رقيقة من الخزف أو البلاستيك مزيّنة بنقوش سطحية. إذا وضع مصدر للضوء وراء هذه القطعة شبه الشفّافة، ستتحول إلى صورة مظللة. بدأ الأوروبيون بصنع الليثوفان قبيل بداية القرن التاسع عشر. إلا أن الآسيويين الشرقيين استخدموا حيلاً مشابهة لتشكيل السيراميك قبل ذلك بقرون. لفترة من الزمن، أنتج الحرفيون وعمال المصانع البدائية الأضواء الليليّة وأغطية المصابيح والأكواب المصنوعة من الليثوفان. كما انتشرت أيضاً الصور الشخصية المصنوعة من الليثوفان في الماضي.

لم يختفِ الليثوفان من العالم الحديث بشكل كامل. إذ يمكن إيجاد هذه المواد في الديكورات وبعض البرامج التعليمية للطباعة ثلاثية الأبعاد. الآن، أصبح بالإمكان استخدام الليثوفان بطريقة جديدة لأنه يؤدي دوراً مزدوجاً كصور ونقوش. وهو جعل تعلّم العلوم أكثر سهولة بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من صعوبات في الرؤية.

اقرأ أيضاً: علماء يستخدمون حراشف السمك في صناعة مصابيح الإنارة

ابتكار ثوري جديد

لجأ العلماء من جامعة بايلور بالتعاون مع مجموعة من الكيميائيين المكفوفين من جميع أنحاء الولايات المتحدة لاستخدام الليثوفان كوسيلة للتواصل مع بعضهم. تحدّث العلماء عن فكرتهم الجديدة في ورقة بحثية نُشرت في مجلة ساينس أدفانسيس في 17 أغسطس/ آب 2022.

تقول مونا مينكارا (Mona Minkara)، عالمة الكيمياء فاقدة البصر في جامعة نورث ويسترن وإحدى مؤلفي الورقة الجديدة: "تخيل عالماً يجلس فيه شخص فاقد للبصر وآخر بصير بجانب بعضهما بعضاً يراجعان نفس البيانات التي يمكن لكليهما الوصول إليها"، وتضيف: "قد يكون هذا الابتكار ثورياً إذا استخدمه العلماء".

لا شك في أن استخدام الليثوفان لهذا الهدف أفضل من استخدام الطرق المتوفرة حالياً. إذا قرأت ورقة علمية من قبل، فعلى الأرجح أنك تعلم أن الرسوم البيانية والمخططات والمرئيات ضرورية لفهم النصوص الغنية المليئة بالمصطلحات التخصصية. إذا كنت تعاني من فقدان البصر، يمكنك أن تحول النص إلى ملف صوتي باستخدام البرامج الحاسوبية، ولكن ماذا بشأن الصور؟

يقول ماثيو غوبرمان-فيفر (Matthew Guberman-Pfeffer)، وهو باحث فاقد للبصر في مرحلة ما بعد الدكتوراة في جامعة ييل والمعاهد الوطنية للصحة في الولايات المتحدة وأحد مؤلفي الورقة الجديدة: "هناك مئات من المقالات العلمية التي قمت بتحميلها بصيغة بي دي إف، ولا يمكنني الاطلاع على أي رسوم بيانية فيها".

اقرأ أيضاً: كيفية صناعة ليزر أشعة سينية أكثر برودة من الفضاء

لا تكمن المشكلة في عدم وجود طرق لمساعدة المكفوفين على فهم الرسوم البيانية. إذ تُرفق بعض الصور الرقمية بالنصوص البديلة التي تصفها. لكن استخدام هذه النصوص غير شائع أبداً. يمكن تصميم الصور القابلة للقراءة باللمس، لكنها تتطلب استخدام أنواع خاصة ومكلفة من الورق. يمكن للمكفوفين الحصول على كتب مكتوبة وفق نظام بريل حسب الطلب. ولكن هذه الكتب تكلّف آلاف الدولارات أو أكثر، كما أن صناعتها تستغرق أكثر من سنة.

من المثير للسخرية أن علماء الكيمياء أيضاً يعانون من هذه المعوقات. إذ إنهم يدرسون الذرات والجزيئات التي تعتبر أصغر من أن تُرى بالعين المجردة حتى لو قلّصت نفسك بطريقة ما إلى حجمها (وذلك لأن أبعادها أقصر من الأطوال الموجية للضوء المرئي).

يقول هوبي ويدلر (Hoby Wedler)، عالم كيمياء مكفوف وأحد مؤلفي الورقة الجديدة: "أحد الأمور التي أفكر فيها خلال عملي في الكيمياء هو أننا جمعياً مكفوفون بالفعل". يستخدم علماء الكيمياء المساعدات البصرية على اختلاف أشكالها، من الجدول الدوري إلى نماذج الجزيئات إلى صور البلورات بالأشعة السينية. ولكن هذه الوسائل هي مساعدات لا أكثر.

أحد العلماء الذين عملوا على إزالة هذه العقبات هو برايان شو، وهو عالم كيمياء في جامعة بايلور يُستشهد بأبحاثه في مجاله. لطالما اهتم شو بجعل دراسة الكيمياء أكثر سهولة بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من صعوبات في الرؤية من خلال تجديد معدات المختبرات وتحويل نماذج الجزيئات المعقّدة إلى حلويات لذيذة.

كان أحد طلاب شو يجرّب نقش الرسومات على ألواح مصنوعة باستخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد. ولتوفير المواد والوقت، بدأ شو وطالبه بجعل الألواح أرق بشكل متزايد. عندما مرروا الضوء عبر الألواح الأقل ثخانة، ظهرت الرسومات التي نقشوها عليها بوضوح كما تبدو في الصور الأصلية.

ما يجعل هذه الألواح مميزة هو أن النقوش التي يمكن أن يتحسسها المكفوفون تتحول إلى صور مرئية عندما تتعرض للضوء. ولاختبار ذلك، صمم الباحثون رسومات على ألواح الليثوفان تتألف من بعض الصور والرسوم البيانية الشائعة في الكيمياء وعرضوها على مجموعة من المشاركين (المكفوفين والمبصرين). بعد ذلك، طرح الباحثون على المشاركين مجموعة من الأسئلة حول هذه المرئيّات.

هل سيتمكن المكفوفون من الرؤية حقاً؟

تمكّن المشاركون من الإجابة عن الأسئلة بدقّة متوسطها 90%. بينما بلغت دقة إجابات مجموعة أخرى من المبصرين الذين عُرضت عليهم الصور الرقمية الأصلية 88% وسطياً. بالإضافة إلى ذلك، عندما طلب الباحثون من المشاركين المبصرين ارتداء عصابات الأعين والإجابة عن الأسئلة من خلال اللمس فقط، تمكّن هؤلاء من الإجابة بدقة بلغ متوسطها 79%.

قال غاري باتي (Gary Patti)، عالم الكيمياء في جامعة واشنطن في مدينة سانت لويس والذي لم يشارك في الدراسة الجديدة: "إن ابتكار طريقة واحدة تناسب المكفوفين والمبصرين هو الجزء الأكثر إثارة في البحث الجديد برأيي".

بالإضافة إلى ذلك، تمت صناعة ألواح الليثوفان المستخدمة في هذه الدراسة باستخدام طابعة ثلاثية الأبعاد تكلّف أقل من 3500 دولار. بينما تتطلب صناعة الأدوات الأخرى التي تستخدم لمساعدة المكفوفين استخدام مواد مكلفة. على الرغم من أن الطابعات ثلاثية الأبعاد التي يمكن استخدامها لصناعة الأدوات الجديدة تعتبر مكلفة بالنسبة للطابعات المنزلية، فإن معظم مختبرات الحاسوب الجامعية تستطيع تغطية تكلفتها.

تقول مينكارا: "نفكّر كثيراً في صناعة أدوات يستطيع الطلاب المكفوفون استخدامها"، وتضيف: "لكن هذه التكنولوجيا الجديدة يمكن أن تكون مفيدة كثيراً بالنسبة لي، وهي تمكنني من التواصل مع طلابي ومشاركة البيانات".

اقرأ أيضاً: مركب يقضي على مجموعة أمراض البصر المستعصية وأبرزها العمى

لكن في الواقع، هذه التكنولوجيا ليست متوفرة للجميع كما يجب أن تكون. إذ إن عملية تحويل الرسومات من صور رقمية إلى ألواح الليثوفان تتطلب وجود شخص مبصر. ويقول الباحثون إن الخطوة التالية هي تصميم برامج حاسوبية تتيح للطلاب الذين يواجهون صعوبات في الرؤية صناعة هذه الألواح بأنفسهم.

على الرغم من أن علماء الكيمياء صنعوا هذه الألواح ليستخدمها علماء الكيمياء الآخرون، فإنهم يعتقدون أن أي مجال بحثي يعتمد على المخططات والرسوم البيانية (أي جميع المجالات العلمية عملياً) يمكن أن يستفيد منها. يقول تشاد داشنو (Chad Dashnaw)، طالب في جامعة بايلور وأحد مؤلفي الورقة الجديدة: "بدأنا بالفعل في التفكير بأنواع البيانات الأخرى التي يستخدمها العلماء في مجالات أخرى".

هل ستمكن المكفوفون من الرؤية حقاً؟
لوح ليثوفان مُضاء من الخلف يُظهر قشور فراشة مكبّرة. جوردان كانو وبرايان شو

تضمّنت ألواح الليثوفان التي تم تحضيرها في هذه الدراسة لوحاً يحتوي على صورة مكبّرة لقشور على جناح فراشة. يقول غوبرمان-فيفر: "لن أتمكّن أبداً ببصري الضعيف من رؤية جمال جناح فراشة"، ويضيف: "تمكّنت أيضاً من الشعور بملمس الجناح وقياس أبعاده".

المحتوى محمي