هل يمكن أن تكون لدى البشر قدرات خارقة لم نكتشفها حتى الآن؟ قد يكون الجواب المختصر نعم، والدليل الأحدث على ذلك هو قصة الممرضة السبعينية المتقاعدة جوي ميلني (Joy Milne) من اسكتلندا التي استطاعت أن تشم رائحة مميزة من زوجها لمدة سنوات، وكانت تعزي تلك الرائحة لقلة نظافته، لكن تبين لاحقاً أنها تملك القدرة على شم رائحة مرض باركنسون، إذ تم تشخيص زوجها ليز بالمرض بعد أكثر من 10 سنوات من بداية شمها لتلك الرائحة.
اقرأ أيضاً: حاسة الشم لدى البشر أقوى مما يتصورون
لم تدرك جوي مسبقاً أنها ستساهم في سبعينيات عمرها في تطوير آلية بسيطة وفعّالة في تشخيص داء باركنسون قبل سنوات من قدرة وسائل التشخيص الموجودة حالياً، لكن كل هذا بدأ عندما شعرت جوي بتغيير بسيط برائحة زوجها ليز، حيث صدرت منه رائحة "ليست مقرفة إنما تشبه رائحة المسك" على حد قولها، وكانت تلك الرائحة تزداد قوة مع الزمن وتكون شدتها كبيرة حول الرأس وخلف العنق.
فرط حاسة الشم حالة شائعة أكثر مما نظن
كانت جوي تطلب من زوجها الاستحمام باستمرار لأن الرائحة أصبحت مزعجة، وكان يغضب من حديثها هذا لأنه لا يشتمُّ رائحة سيئة منه، وربما سأل بعض زملائه بالعمل أو أقاربه عن الموضوع وأيّدوه، إذ تبين لاحقاً أن جوي تمتلك حالة وراثية شديدة الندرة اسمها "فرط حاسة الشم الوراثي" وهي ظاهرة فيزيولوجية تمكّن الشخص من شم الروائح وتمييز أنواعها بفعالية كبيرة وكفاءة عالية، وهناك العديد من الحالات التي يصاب بها الشخص بفرط حاسة الشم ومنها ما يلي:
- الحمل.
- مرض لايم.
- اضطرابات المناعة الذاتية.
- مرض الشلل الرعاشي.
- الصرع.
- مرض ألزهايمر.
- التصلب اللويحي.
- الأورام الحميدة أو الخبيثة في الأنف أو الجمجمة.
حيث تتغير هرمونات المصابين بتلك الحالات بشكل مؤقت أو دائم تبعاً للحالة، فتزداد فعالية الشم لديهم بشكل كبير، وقد يسبب ذلك إزعاجاً لديهم، وفي بعض الأحيان قد تتفاقم الأعراض فيظهر على المصابين صداع نصفي، أو دوخة وغثيان وغيرها من الأمور، لذا تتطلب هذه الحالة القيام بتدابير علاجية خاصة تختلف بحسب نوع الإصابة، لكن ينصح بعض الخبراء بمضغ علكة بنكهة النعناع لردع الروائح المزعجة من التأثير على الشخص. وهناك بعض الأدوية التي لا تحتاج لوصفة طبية يمكنها المساعدة في إيقاف الغثيان والقيء، ومنها عقارا بونين وبينادريل وغيرهما.
لم تقم جوي بربط الرائحة بالمرض إلى أن حضرت لقاء مجموعة دعم أشخاص مصابين بمرض باركنسون في المملكة المتحدة، حيث لاحظت وجود الرائحة المميزة التي لدى زوجها عند أغلب الموجودين بمجموعة الدعم، ومنها استنتجت ارتباط الرائحة المميزة بمرض باركنسون.
اقرأ أيضاً: في اليوم العالمي لداء باركنسون: كيف يمكن التعايش مع هذا المرض؟ وما هي أحدث العلاجات المطروحة؟
كيف بدأ الأمر مع جوي في شم مرض باركنسون؟
بدأت جوي بعرض الظاهرة التي حدثت معها على الأخصائيين، وباشرت بالمساهمة مع المجموعات البحثية في جامعة مانشستر بدراسة طرق لتشخيص مرض باركنسون بفعالية، وما دفعها للاستمرار بهذا العمل هو وفاة زوجها عام 2015 ووصيته قبل الوفاة كانت أن تساعد جوي في تخفيف مآساة الناس المصابين بهذا المرض، فالتشخيص المبكر قد يساهم في إطالة عمر المصابين لسنوات وتحسين نمط الحياة بشكل كبير، وما أقنع الجهات البحثية بقدرتها هو أنهم عرضوا عليها مجموعة قمصان لمرضى باركنسون وأشخاص سليمين، فاستطاعت تمييز كل منها من خلال الرائحة ما عدا قميص واحد كان لشخص سليم قالت إنه لمريض، وتبين لاحقاً أنه مصاب بباركنسون وتم تشخيصه بعد 8 أشهر من تلك الحادثة.
لا يوجد حتى يومنا هذا اختبار محدد لتشخيص مرض باركنسون، عوضاً عن ذلك يقوم طبيب أخصائي بأمراض الجهاز العصبي بالتكهن بوجود مرض باركنسون بناءً على التاريخ الطبي للشخص ومراجعة العلامات والأعراض على فترات طويلة، وإجراء فحوصات دورية عصبية وحركية مثل التصوير المقطعي المحوسب للدماغ، وغالباً ما يتم تشخيص الحالة بشكل متأخر بعد أن يكون المرض قد تقدم بنسبة 50% من تطوره إذ تظهر الأعراض بعد 6 سنوات من بدء الإصابة بباركنسون وذلك بحسب بحث منشور في دورية "التنكس العصبي المتعدي" (Translational Neurodegeneration) عام 2015، قام به الدكتور فابريزيو ستوكي وزملاؤه.
اقرأ أيضاً: ماذا كشفت هذه الدراسة الجديدة عن الارتجاج ومرض باركنسون؟
التطلعات المستقبلية لكشف مرض باركنسون
حالياً يقوم الباحثون في جامعة مانشستر بالتعاون مع جوي بتطوير اختبار مسحة جلد لأخذ عينة من الزهم وتشخيص مرض باركنسون بالاعتماد عليه. وبحسب قولهم، تبلغ كفاءة الاختبار 95%، حيث وجدوا نحو 4200 مركب مميز في العينات المدروسة، ويختلف 500 مركب منها بين السليمين والمصابين بداء باركنسون بمراحل الإصابة الأولى، ويستغرق هذا الاختبار 3 دقائق، وذلك بحسب البحث منشور في دورية الجمعية الأميركية الكيميائية (JACS) عام 2022 من قِبل الباحث ديبانجان سركر وزملائه.
اقرأ أيضاً: ألزهايمر وباركنسون: جسيمات نانوية لعلاج إصابات الدماغ
تؤمن جوي أن واقع مرض باركنسون سوف يتغيّر بشكل كبير بعد الاكتشاف هذا، وتقول بهذا الصدد: "أعتقد أنه يجب اكتشاف المرض في وقت أبكر بكثير مثل السرطان والسكري، لأن التشخيص المبكر يعني الحصول على علاج أكثر فعالية ونمط حياة أفضل للناس"، وتحاول جوي حالياً العمل مع الباحثين لتطوير طرق جديدة في مجال كشف وتشخيص السرطانات وداء السل، ومن الممكن أن يتم اعتماد اختبار باركنسون بغضون سنتين في مانشستر وصولاً لأنحاء العالم، ذلك لأنه اختبار سريع وذو كفاءة ويمكن إجراؤه ببساطة.