قصة عمرها 40,000 عام يرويها الحمض النووي على لسان العالم سفانتي بابو الفائز بنوبل للطب 2022

4 دقائق
قصة عمرها 40,000 عام يرويها الحمض النووي على لسان العالم سفانتي بابو
حقوق الصورة: shutterstock.com/ Billion Photos

تخيل ردة فعلك لو كنت تسمع قصة عمرها مئات الآلاف من السنين، ولكنها لا تزال نابضة بالحياة حتى يومنا هذا، وهذه القصة التي تحمل في طياتها تاريخ البشرية لا يسمع همساتها إلا القليلون ممن يصغون إليها، وتلك حال العالِم سفانتي بابو الذي حاول في شبابه دون إخبار بعض أساتذته الجامعيين استخلاص الحمض النووي لنحو 23 مومياء قديمة قناعةً منه بأنها تحمل أسرار تاريخ البشرية، واستطاع استخراج وتحليل أجزاء جينوم مومياء طفل رضيع عمرها 2500 عام، وأرسل نتائج اكتشافه هذا إلى دورية نيتشر التي وضعتها غلافاً لعددها، ما أكسبه شهرة واسعة في الثمانينيات من القرن الماضي، ومن هنا بدأت مسيرة بابو مؤسس علم المستحاثات الجينومي (plaeogenomics) الذي أكسبه جائزة نوبل في مجال الفيزيولوجيا والطب عام 2022.

بالصدفة قرأ ذلك العدد المنشور لدورية نيتشر عالم الأحياء الجزيئية في جامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأميركية ألان ويلسون، وكان مهتماً بأبحاث بابو على الرغم من أنه لم يُنهِ مرحلة الدكتوراة آنذاك، حيث اتصل به ويلسون وعملا معاً منذ ذلك الحين إلى اليوم في مجال علم المستحاثات الجزيئي، إذ طبّقا تفاعل البوليميراز المتسلسل لتحليل الحمض النووي من العظام الأثرية لأول مرة في عام 1988، وطوّرا هذه العملية تدريجياً ليرسيا المبادئ الأساسية لهذا العلم.

اقرأ أيضاً: كيف أوصل تسلسل جينوم النياندرتال سفانتي بابو لجائزة نوبل للطب 2022؟

تحديات دراسة جينوم المستحاثات

تختلف دراسة جينومات المستحاثات عن جينومات العضيات الحية في عدة نواحٍ أهمها عامل الزمن، فالحمض النووي لدى الكائنات الحية يكون متماسكاً وسهل التعامل نسبياً مقارنة بالحمض النووي للمومياوات والمستحاثات التي عمرها آلاف السنين، فهناك خطر تحلل الدنا وتقطع خيوطه بسبب السنين الطويلة من التعرّض للحرارة والرطوبة والعفن، وهناك عوامل كيميائية مثل الأملاح والحموضة وغيرها التي تستخدم في عملية التحنيط ما يؤذي الجينوم ويؤدي لتحلله بشكل أسرع، كل هذه الجوانب جعلت من دراسة الحمض النووي للمستحاثات مستحيلاً بنظر المجتمع العلمي سابقاً.

تكمن الصعوبة الجوهرية في استخلاص جينومات المستحاثات في وجود تلوث بالبكتيريا أو الحمض النووي للأشخاص الذين اكتشفوا المستحاثة أو تعرضها لكائنات حية كالديدان وغيرها، وصرح العالم بابو لاحقاً في حياته بأن عينات الحمض النووي للمومياوات التي اكتشفها في بداية مسيرته البحثية قد تكون معظمها تلوثاً من الحمض النووي للعاملين والمستكشفين الذين تعاملوا معها.

بالإضافة لهذه الأمور، تكون كميات الحمض النووي المكتشفة قليلة، ويجب القيام بالمئات من المحاولات لإيجاد آثار جيدة للحمض النووي يمكن اعتمادها في الأبحاث والدراسات الأنثروبولوجية، لكن ما ساعد في هذا الخصوص هو اكتشاف تفاعل البوليميراز المتسلسل من قِبل العالم كاري موليس عام 1983، إذ ساهم في تضخيم الأجزاء القصيرة من الدنا لتعطي مليارات النسخ القابلة للعمل عليها.

اقرأ أيضاً: كيف تلعب جينات إنسان نياندرتال دورها في حمايتنا من الأمراض؟

استراتيجية عمل سفانتي بابو بعلم المستحاثات الجينومي

لكي يتخطى بابو وويلسون هذه الصعوبات، طوّرا استراتيجية عمل قاما بتعميمها على المختبرات التي تعمل معهما، وأول خطوة من هذه الاستراتيجية هي تصميم غرف معقّمة تقلل بشكل كبير من احتمال حدوث تلوث، واستخدما العظام والأسنان لاستخلاص الحمض النووي منها نظراً لأنها الأجزاء التي تبقى من جسم الإنسان بعد الوفاة بآلاف السنين، وركزا جهودهما على العينات المحفوظة في الجليد والمناطق الباردة لأن جودة الحمض النووي تكون بها أفضل، وهذه كانت حالة إنسان الدينسوفان الذي اكتشفه بابو في سيبيريا عام 2010، واستطاع أن يعرف أنه إنسان مختلف عن الأنواع البشرية القديمة المنقرضة الأخرى مثل النياندرتال، وذلك من خلال تحليل حمضه النووي المأخوذ من عينة صغيرة لعظم إصبع صغيرة لفتاة من ذلك العصر.

المثير للاهتمام في التقنية التي بدأ بها بابو هي أنها تستهلك الكثير من الوقت والجهد، لكن نتائجها يمكن اعتمادها، ولاحقاً تم استغلال طريقة العمل هذه ضمن برامج المعلوماتية الحيوية والذكاء الاصطناعي لتسهيل الأمور والتقدم بهذه الدراسات بشكل أسرع، حيث كان يأخذ قطع الدنا المستخرجة المتهتكة بسبب العوامل المختلفة، ويقوم بتحديد تسلسلها ومن ثم يقوم باستبعاد الأجزاء التي تبدو أنها تلوثت من كائنات أخرى، وعندما يقوم بهذه العملية يقوم بترتيب التسلسلات القصيرة المعروفة لتعطي تسلسلاً كاملاً للجينوم.

لتقريب الأمر هذا يمكننا تخيل شريط فيلم طويل، تم قصه إلى مئات القطع التي تحمل صوراً للفيلم بترتيب الأحداث، وتم توكيل شخص بأن يقوم بترتيب هذه القطع بشكل صحيح، وهذا ما فعله سفانتي، إذ حاول إلصاق القطع المتتالية لنحو 3 مليارات نكليوتيد برمجياً لمعرفة التسلسل الكامل لجينوم النياندرتال الذي نمثله بالفيلم، ومن ثم قام بمقارنة هذا التسلسل بالبشر في الوقت الحالي، ووجد أننا نحمل في جيناتنا نحو 1-4% من جينات النياندرتال، ومن تلك الجينات ما يزيد خطورة الإصابة بفيروس كوفيد-19.

اقرأ أيضاً: وراثة لآلاف السنين: ما دور جينات الإنسان البدائي في الإصابة بكورونا؟

أهمية دراسات علم المستحاثات الجينومي

قد يبدو غريباً فوز سفانتي بابو بجائزة نوبل في مجال الطب والفيزيولوجيا، ربما كانت الجائزة ستبدو ملائمة أكثر لو كانت في علم الآثار أو في مجال التاريخ البشري، لكن ما يجعل عمله مهماً في تلك المجالات بالذات هو دوره في تحديد بعض الجينات المُحدِّدة للصفات المهمة التي لا تزال موجودة لدى إنسان اليوم، مثل الطول ونوعية نسيج الشعر وكفاءة حاسة الشم والاستجابات المناعية والتكيّف مع الارتفاعات العالية وخطر الإصابة بأمراض معينة وغيرها من الخصائص، فهناك أسباب عديدة أدت لانقراض الأنواع الستة للبشر القدماء وبقاء جنسنا، وهذا اللغز يكمن في جينات الأجناس الأخرى التي قد تدلنا على نقاط الضعف الموجودة لدينا في جينومنا كآثار منها، وكيفية إيجاد طرق جديدة لتفادي الأمراض على مستوى جينومي شخصي وعلاجها.

اقرأ أيضاً: عبر الحمض النووي: هل يمكن أن نعيد الديناصورات إلى الحياة؟

لا يزال الحمض النووي البشري يشكل كنزاً حياً مدفوناً في كل خلية من أجسامنا، فهو ليس مجرد مكون بيولوجي لا يرى بالعين المجردة بل هو تراكم لآلاف من السنوات من البقاء على قيد الحياة ضمن الظروف التي مررنا بها كبشرية على هذه الأرض، ويحمل هذا الجينوم في طياته أسرار المناعة والصحة والحياة البشرية، ومهما اكتشفنا منه فنحن لا نزال نخدش القمة الظاهرة من الجبل الجليدي، لكن الأمل بإيجاد مستقبل صحي أفضل يكبر بسبب الأبحاث التي يقوم بها بابو وغيره ضمن هذا المجال.

المحتوى محمي