بينما اقتصر استخدام الطاقة النووية على الأغراض العسكرية في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، كان هناك اعتقاد بأنه يمكن استخدام الطاقة النووية لأغراض تجارية وصناعية. وفي عام 1953، سلّط الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور في خطابه بعنوان "الذرة من أجل السلام" الضوء على التطبيقات "السلمية" للطاقة النووية، بما في ذلك المجال الطبي والعمليات الصناعية وتوليد الطاقة، ولعل أهمها استخدام الطاقة النووية في الزراعة. عندما يتعلق الأمر بالزراعة، يمكن للتقنيات النووية المساعدة في مواجهة تحديات الأمن الغذائي والتزايد الكبير في أعداد السكان حول العالم. فما أهم استخدامات الطاقة النووية في الزراعة؟
استخدام الطاقة النووية في زراعة البذور
أشعة غاما هي أشعة كهرومغناطيسية مؤينة عالية التردد، أي أنها تمتلك ما يكفي من الطاقة لإزالة أيون من ذرة أو جزيء، وتنبعث من الأشكال المشعة للعناصر مثل الكوبالت (كوبالت-60) أو عنصر السيزيوم (السيزيوم-137). اعتمد علماء النبات على هذه الخاصية لتحسين البذور قبل زراعتها:
تربية أصناف مقاومة
يمكن لعلماء النبات إحداث تغيرات أو طفرات في تركيب الحمض النووي لبذور النباتات أو البراعم أو الأنسجة، باستخدام الإشعاع المؤين (أشعة غاما) لتحسين الصنف، كأن يصبح أكثر مقاومة للظروف الجوية القاسية أو الآفات المرضية، أو أكثر إنتاجية. على سبيل المثال، في إندونيسيا، تمكن الباحثون من تعديل أكثر من 35 نوعاً من المحاصيل كالأرز وفول الصويا، لإنتاج محاصيل يمكنها تحمل المناخات غير الملائمة، حيث يستطيع المزارعون زراعة الأرز ثلاث مرات في السنة؛ مرة في الجفاف ومرتين في موسم الأمطار، كما استطاع مركز الحمضيات في جامعة تكساس تطوير محاصيل عالية الجودة من الجريب فروت الأحمر.
اقرأ أيضاً: رحلة الإمارات في تدشين برنامج نووي سلمي لإنتاج الطاقة
تعقيم البذور
يُعرف التعقيم بالتشعيع بأشعة غاما بالتعقيم البارد، لأنه لا يتضمن درجات حرارة عالية أو ضغطاً أو رطوبة، فهي الأكثر مناسبة لتعقيم البذور، وهي وسيلة تعقيم فيزيائية وكيميائية، تتضمن إحداث تغيرات على المستوى الجزيئي في الميكروبات كما في تكسير الحمض النووي للبكتيريا، ما يمنع الانقسام البكتيري، ويجعلها غير قادرة على التكاثر. لا يتبقى أي بقايا إشعاعية على البذور ولا يمكنها نقل الإشعاع ما يجعلها طريقة تعقيم آمنة.
استخدام الطاقة النووية في نمو المحاصيل
بعد أن تبدأ المحاصيل نموها، يستخدم المزارعون تقنيات أخرى لتحسين إنتاجهم، مثل:
الأسمدة الموسومة
بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الأسمدة، فإن استخدامها بنسب تزيد على احتياجات النبات قد يسبب ضياعاً في التربة وتلوثاً للمياه، لذا لا بُدّ من استخدامها بالشكل الصحيح.
يوفر تتبع الأسمدة في البيئة باستخدام النظائر المشعة مثل النيتروجين-15، أو الفوسفور-32، تحديد الكمية التي يمتصها النبات والمقدار المفقود منها، ما يسمح بإدارة أفضل لاستخدام الأسمدة، وتقييم كمية النيتروجين التي يتم تثبيتها من الهواء باستخدام بكتيريا الجذر في البقوليات.
على سبيل المثال، نجح المزارعون في كينيا في التحول إلى الري بالتنقيط بعد تحليل كفاءة استخدام المياه بهذه التقنيات النووية، وبالتالي تقليل كمية المياه اللازمة لإنتاج محاصيلهم.
اقرأ أيضاً: لماذا تحتاج محطات الطاقة النووية إلى الكهرباء لتبقى آمنة؟
الحشرات العقيمة: إدارة الآفات
يُعتقد أن خسائر المحاصيل نتيجة الآفات الحشرية حول العالم تصل إلى نحو 10%، وقد تزيد على ذلك في البلدان النامية. وعلى الرغم من انتشار المبيدات الحشرية، فإن لها مخاطر على الصحة والبيئة، لذا كان لا بُدّ من إيجاد طرق بديلة.
تمثل تقنية الحشرات العقيمة (Sterile Insect Technique) "SIT" وسيلة أكثر أماناً وموثوقية لتقليل أعداد الآفات الحشرية التي تضر بالمحاصيل، تتضمن التقنية تشعيع الآفة الحشرية بأشعة غاما أو الأشعة السينية حتى تصبح عقيمة، ثم إدخالها في التجمعات الطبيعية. تبقى بذلك الحشرات العقيمة قادرة على المنافسة جنسياً، لكنها لا تستطيع إنتاج ذرية وبالتالي لا يمكن للحشرات الوافدة أن تستوطن في البيئة الطبيعية.
ساعدت التقنية في السيطرة على أعداد آفات حشرية مختلفة، بما في ذلك، البعوض والعث والدودة الحلزونية وذبابة التسي تسي وذبابة الفاكهة. على سبيل المثال، تم اكتشاف انتشار للدودة الحلزونية في ليبيا عام 1998، فكانت الاستجابة الوطنية والدولية باستخدام تقنية SIT، ما ساعد في منع انتشار الآفة إلى إفريقيا وباقي دول حوض البحر المتوسط.
استخدام الطاقة النووية بعد حصاد المحاصيل: تشعيع الغذاء
تشعيع الغذاء هو تطبيق إشعاع مؤين على الغذاء، بغرض تحقيق الأهداف التالية:
- القضاء على الميكروبات الممرضة المنقولة بالغذاء، مثل السالمونيلا والإشريكية القولونية.
- حفظ الغذاء وإطالة عمره الافتراضي، بتعطيل الآفات الممرضة التي تسبب التلف والتحلل.
- مكافحة الآفات الحشرية.
- تأخير إنبات البذور أو الثمار مثل البطاطا، وتأخير النضج ما يزيد من عمر الغذاء وصلاحيته.
كيف يتم تشعيع الغذاء؟
وفقاً لإدارة الغذاء والدواء الأميركية، تستخدم ثلاثة أنواع من الأشعة لتشعيع الغذاء، وهي:
- أشعة غاما: يمكن الحصول عليها من اضمحلال الإشعاع الطبيعي لليورانيوم والثوريوم والأكتينيوم، بالإضافة إلى انبعاثها من بعض النظائر المشعة الطبيعية مثل البوتاسيوم -40 والكربون -1، لكن النويدات المشعة الثلاث الأكثر فائدة هي الكوبالت-60، والسيزيوم-137، والتكنيتيوم-99 م، والأمريسيوم-241.
- الأشعة السينية: وهي أشعة كهرومغناطيسية عالية الطاقة، يمكن الحصول عليها عبر عكس تيار عالي الطاقة من الإلكترونات عن مادة مستهدفة في الغذاء.
- الأشعة الإلكترونية: وهي تيار من الإلكترونات عالية الطاقة، يتم إطلاقها من مسرّع الإلكترون إلى الطعام.
اقرأ أيضاً: هذا ما يجب أن تعرفه عن تشعيع الأغذية
حماية قطعان الماشية
تمكنت تقنيات الطاقة النووية من تحسين إنتاجية المواشي وحمايتها. على سبيل المثال:
- استطاع مزارعو الكاميرون مضاعفة إنتاج الماشية من الحليب ثلاثة أضعاف، من خلال برامج تكاثر الماشية وتربيتها والتلقيح الاصطناعي ومكافحة الأمراض التي تتم بالاعتماد على الطاقة النووية.
- أنشأت منظمة الأغذية والزراعة والوكالة الدولية للطاقة الذرية شبكة مختبرات التشخيص البيطري سميت "فيتلاب" (VETLAB) في أنحاء آسيا وإفريقيا، وعملت المختبرات على تتبع انتشار الأمراض التي تهدد الماشية والتحقق من صحة لقاحات الأمراض الحيوانية، باستخدام تقنيات التشخيص المشتقة من المواد النووية.