أخيراً، توصل الباحث جيبين يو (Zhibin Yu) إلى طريقة لحل مشكلة هندسية واجهته لعدة سنوات. في أثناء الحجر الصحي الأول في المملكة المتحدة بسبب جائحة كوفيد-19، كان لدى المهندس الحراري الوقت الكافي لتحسين كفاءة المضخات الحرارية؛ وهي الأجهزة الكهربائية التي تنقل الحرارة من الهواء في الوسط الخارجي إلى داخل المنازل.
تُعتبر المضخات أكثر كفاءة من أجهزة التسخين التي تعمل بالغاز؛ لكن النماذج التقليدية التي تمتص الحرارة من الهواء تكون معرّضة للتجمد ما يقلل فعاليتها بدرجة كبيرة.
فكّر يو، الذي يعمل في جامعة غلاسكو بالمملكة المتحدة، في حل لهذه المشكلة لأسابيع، وقرأ عدة أبحاث حتى خطرت بباله فكرة. يهدر معظم المضخات الحرارية بعض الحرارة المتولدة، وإذا تمكن من ضبط الحرارة المهدرة وتحويلها، فسيحل مشكلة إزالة الجليد ويعزز الأداء العام للمضخات. يقول يو: "وجدت فجأة حلاً لاستعادة الطاقة الحرارية، كانت حقاً لحظة رائعة".
اقرأ أيضاً: لماذا تحتاج محطات الطاقة النووية إلى الكهرباء لتبقى آمنة؟
الهدف: رفع كفاءة تكنولوجيا المضخات الحرارية
فكرة يو هي واحدة من عدة ابتكارات حديثة تهدف إلى رفع كفاءة تكنولوجيا المضخات الحرارية التي يبلغ عمرها 200 عام؛ ما قد يفسح المجال لاعتمادها بدرجة أكبر بكثير في أنحاء العالم جميعها. تقول الوكالة الدولية للطاقة (IEA) إنه حتى يومنا هذا، تُستخدم المضخات الحرارية في تلبية نحو 10% فقط من متطلبات التدفئة في أنحاء العالم جميعها؛ ولكن نظراً لأزمة الطاقة الحالية والضغط المتزايد لتقليل استهلاك الوقود الأحفوري من أجل مواجهة مشكلة التغير المناخي، فقد أصبحت هذه الأجهزة أهم من أي وقت مضى.
عمل يو وزملاؤه في أثناء الحجر الصحي عام 2020، على إنشاء نموذج أولي لمضخة حرارية تخزن الحرارة المتبقية في خزان ماء صغير، وفي بحثهم الذي نُشر في صيف عام 2022، وضحوا كيف يسهم هذا التصميم في تقليل الطاقة التي تستخدمها المضخة. كما يمكن للجهاز نفسه أن يذيب الجليد دون الحاجة إلى إيقاف إمداد المنزل بالحرارة مؤقتاً، وذلك من خلال إعادة توجيه بعض من هذه الحرارة المتبقية على نحو منفصل إلى جزء من المضخة الحرارية المعرّضة للهواء البارد.
مبدأ عمل المضخات الحرارية
تعتمد الفكرة على مبدأ عمل المضخات الحرارية نفسه: إذا تمكنا من تخزين الحرارة فسنتمكن من استخدامها. ما يميز المضخات الحرارية هو أنها لا تقتصر على مجرد توليد الحرارة، فهي تمتص أيضاً الحرارة من البيئة وتنقلها إلى المنزل، وفي النهاية تنقل هذه الحرارة إلى المشعّات أو أنظمة التدفئة المركزية على سبيل المثال، وذلك بفضل سائل التبريد الذي يتدفق داخل المضخة الحرارية. عندما يتعرض سائل التبريد للحرارة (حتى ولو كانت كميتها ضئيلة في الهواء بيوم بارد)، فإنه يمتصها،
ثم يقوم الضاغط بزيادة ضغط سائل التبريد وبالتالي تقترب جزيئات مادة التبريد بعضها من بعض وتزيد حركتها؛ ما يرفع درجة حرارة السائل إلى الحد الذي يمكّنه من تدفئة المنزل، ثم يتمدد المبرد لاحقاً مرة أخرى ويبرد، وتتكرر الدورة. يمكن أن تتم هذه العملية بأكملها بشكل عكسي أيضاً؛ ما يسمح للمضخات الحرارية بتبريد المنزل في حرّ الصيف.
وتكمن أهمية المضخة الحرارية في قدرتها على نقل كمية كبيرة من الطاقة الحرارية باستخدام قدر بسيط من الطاقة الكهربائية. تُقاس كفاءة المضخات الحرارية عموماً من حيث معامل الأداء (COP). إذا كانت قيمة معامل الأداء 3 مثلاً، فهذا يعني أن كل كيلو واط ساعي من الطاقة الكهربائية يُنتج 3 كيلو واط ساعي من الطاقة الحرارية؛ أي أن نسبة فعاليته هي 300%. تختلف قيمة معامل الأداء تبعاً لظروف الطقس وعوامل أخرى.
اقرأ أيضاً: ما الذي يمنعنا من توسيع نطاق توليد الطاقة الحيوية؟
تكنولوجيا تعود إلى اللورد كلفن
إنها نظرية فعالة ولكنها قديمة. اقترح عالم الرياضيات والفيزيائي والمهندس البريطاني، لورد كلفن (Lord Kelvin) استخدام أنظمة المضخات الحرارية للتدفئة في عام 1852، وتم تصميم أول مضخة حرارية بعد بضع سنوات، واستُخدمت صناعياً لتسخين المحلول الملحي من أجل استخلاص الملح من السائل. في خمسينيات القرن الماضي، ناقش أعضاء البرلمان البريطاني موضوع المضخات الحرارية بسبب انخفاض مخزون الفحم، وفي السنوات التي أعقبت أزمة النفط بين عاميّ 1973 و1974، تم ترويج المضخات الحرارية كبديل للوقود الأحفوري لأغراض التدفئة.
كتب أحد المحلّلين في مجلة المراجعة السنوية لأبحاث الطاقة (Annual Review of Energy) لعام 1977: "يكمن الأمل في المضخة الحرارية المستقبلية".
المضخات الحرارية من أجل السلام والحرية
يواجه العالم الآن مشكلات أخرى فيما يتعلق بإمدادات الطاقة؛ عندما اندلعت الحرب بين روسيا، أحد أكبر مصادر الغاز الطبيعي في العالم، وأوكرانيا في فبراير/ شباط 2022، ارتفع سعر الغاز بشكل كبير، ولهذا اتجهت الأنظار نحو المضخات الحرارية لأنها تعمل بالكهرباء وليس بالغاز.
في الشهر نفسه، كتب الخبير البيئي بيل ماكيبين (Bill McKibben)، مقالاً انتشر على نطاق واسع بعنوان: "المضخات الحرارية من أجل السلام والحرية" (Heat pumps for peace and freedom)، قال فيه إن الولايات المتحدة يمكن أن توجه ضربة قوية بأسلوب سلمي للمصالح الروسية عن طريق استخدام المضخات الحرارية على نطاق واسع، مع تقليل اعتماد الأميركيين على الوقود الأحفوري. يمكن أن تستمد المضخات الحرارية الطاقة من الألواح الشمسية المنزلية، على سبيل المثال، أو من الشبكة الكهربائية التي تعتمد في الغالب على مصادر الطاقة المتجددة.
اقرأ أيضاً: ما هي الحلول المطروحة لحل عجز الاحتياطي النفظي الأميركي عن تلبية متطلبات الطاقة؟
كارين بالمر (Karen Palmer) هي خبيرة اقتصادية وواحدة من كبار الباحثين في مؤسسة ريسورسز فور ذا فيوتشر (Resources for the Future) البحثية المستقلة في العاصمة واشنطن، شاركت في تأليف دراسة لتحليل السياسات الرامية إلى تعزيز كفاءة الطاقة في مجلة المراجعة السنوية لاقتصاديات الموارد (Annual Review of Resource Economics) في عدد عام 2018، وتقول: "يمكن أن يساعد تشغيل الأجهزة بالاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة في مواجهة مشكلة التغير المناخي أيضاً؛ كما أن زيادة استخدام الكهرباء لتلبية احتياجات الطاقة في المباني أمر حتمي في ظل غياب حلول التكنولوجيات المبتكرة الأخرى".
المضخات الحرارية صديقة للبيئة وكفاءتها مرتفعة
تشير الوكالة الدولية للطاقة (IEA) إلى أن المضخات الحرارية، على مستوى العالم، يمكن أن تقلل من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون بما لا يقل عن 500 مليون طن متري في عام 2030؛ أي ما يعادل انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون السنوية من السيارات جميعها في أوروبا في يومنا هذا.
وعلى الرغم من تاريخ المضخات الحرارية الطويل ومزاياها المحتملة، فهي تواجه بعض الصعوبات التي تعيق انتشارها في بعض البلاد، وإحدى هذه الصعوبات هي التكلفة: لم يكن أصحاب المنازل متحمسين لفكرة استخدام المضخات الحرارية لأنها أغلى بكثير من أجهزة التدفئة التي تعمل بالغاز؛ كما أن أسعار الغاز الطبيعي ظلت معقولة نسبياً لعقود من الزمن.
لطالما كان هناك تصور بأن المضخات الحرارية ليست فعالة في المناخ البارد، وبخاصة في المنازل سيئة العزل التي تتطلب تدفئتها الكثير من الحرارة. في المملكة المتحدة على سبيل المثال؛ حيث تكون المنازل شديدة البرودة إلى حد ما، يعتبر بعض مالكي المنازل أن المراجل التي تعمل بالغاز آمنة أكثر لأنها توفر المياه بدرجة حرارة أعلى للمشعّات (نحو 60 - 70 درجة مئوية)؛ ما يسهّل تدفئة الغرفة. وفي المقابل، تعمل المضخات الحرارية بأعلى مستوى كفاءة عند تسخين الماء إلى نحو 38 درجة مئوية.
يمكن القول إن مشكلة المناخ البارد أقل أهمية مما يعتقده البعض، نظراً لتوفر العديد من المضخات الحديثة ذات المصدر الهوائي في السوق والتي تعمل بفعالية حتى عندما تنخفض درجات الحرارة في الخارج إلى 23 درجة مئوية تحت الصفر، خذ مثلاً النرويج التي تُعدّ من الدول الرائدة على مستوى العالم في استخدام المضخات الحرارية. تمتلك بالمر مضخة حرارية في منزلها بالولايات المتحدة، بالإضافة إلى مدفأة احتياطية، وتقول: "حين يكون الجو بارداً جداً نعتمد على المدفأة".
اقرأ أيضاً: كيف يمكن الاستفادة من الطاقة الشمسية ليلاً؟
تؤدي الابتكارات في تصميم المضخات الحرارية إلى تصميم أجهزة أكثر كفاءة وأكثر ملاءمة للمنازل ذات المستويات المنخفضة من العزل، وربما تكون أقل تكلفة أيضاً. على سبيل المثال؛ يقول يو إن تصميم المضخة الحرارية ذات المصدر الهوائي الجديد يحسّن معامل الأداء بنسبة تتراوح بين 3 و10%، في حين أن تكلفته أقل من تكلفة التصميمات الحالية للمضخة الحرارية ذات الوظائف المماثلة، ويتطلع هو وفريقه الآن إلى تسويق هذه التكنولوجيا.
عمل مبتكر
يقول مهندس أنظمة الطاقة المتقاعد من جامعة ديمونتفورت (De Montfort University) في المملكة المتحدة، ريك غرينو (Rick Greenough): "إن عمل يو مبتَكَر وفريد من نوعه".
وكذلك فهناك الكثير من الأفكار الأخرى قيد التنفيذ، فمثلاً جرب غرينو تخزين الحرارة في الأرض في الأشهر الدافئة ليستفيد منها بواسطة مضخة حرارية عندما يصبح الطقس بارداً؛ إذ يستخدم في تصميمه سائلاً لنقل الحرارة الزائدة من ألواح تسخين المياه بالطاقة الشمسية إلى آبار ضحلة في التربة، وذلك حسب قوله يرفع درجة حرارة التربة بما يتراوح بين 7.22 و14.44 درجة مئوية كحد أقصى. وفي فصل الشتاء، تسحب المضخة الحرارية بعض هذه الحرارة المخزنة كي تعمل بكفاءة أكبر عندما يصبح الهواء أكثر برودة. يشير غرينو إلى أن هذه التقنية متوفرة بالفعل في السوق، ويقدمها بعض فنيي تركيب أجهزة التدفئة في المملكة المتحدة.
لكن معظم المضخات الحرارية الحالية تولّد درجات حرارة منخفضة نسبياً، لذلك قد يحتاج أصحاب المنازل المعرضة للتيارات الهوائية الباردة إلى تحمل تكاليف إضافية للعزل عند تركيب مضخة حرارية. ومن الجيد أن يتوفر حل يتمثل في مضخات حرارية تولّد حرارة عالية.
يتساءل مدير برنامج تطوير الأعمال في شركة الطاقة السويدية فاتنفال (Vattenfall) التي تصنع المضخات الحرارية، فوتر فولفسفينكل (Wouter Wolfswinkel): "لماذا لا نصنع مضخة حرارية تحل محل مراجل الغاز دون الحاجة إلى عزل المنزل بطرائق شديدة الإحكام؟" تعاونت شركة فاتنفال مع شركة فينسترا (Feenstra) الهولندية التابعة لها لتطوير مضخة حرارية تولد حرارة عالية، ومن المتوقع إطلاقها في عام 2023.
في هذا التصميم، يستخدمون ثاني أوكسيد الكربون كسائل تبريد. ولكن لأن ظروف تشغيل نظام المضخة الحرارية عالية الضغط تمنع تكثف الغاز أو تبريده بسهولة كبيرة؛ كان عليهم التوصل إلى طريقة لخفض درجة حرارة السائل المبرد كي يتمكن من امتصاص حرارة كافية من الهواء مجدداً عندما يعود إلى بداية حلقة المضخة الحرارية.
ولتحقيق هذه الغاية؛ أضافوا عازلاً للنظام يتمثل في خزان مياه يكون الماء البارد في أسفله والماء الساخن في أعلاه. تستخدم المضخة الحرارية طبقة الماء البارد لتعديل درجة حرارة السائل المبرد حسب الحاجة؛ ولكن من الممكن أيضاً إرسال الماء الساخن في الجزء العلوي من الخزان إلى المشعّات عندما تصل درجة حرارته إلى 85 درجة مئوية.
اقرأ أيضاً: أنظمة الطاقة الشمسية العائمة: ثورة في إنتاج الطاقة النظيفة
المضخات الحرارية أفضل من مراجل الغاز
ويعترف فولفسفينكل بأن الجهاز أقل كفاءة بقليل من المضخة الحرارية التقليدية التي تولد حرارة أقل؛ إذ يبلغ معامل أدائه نحو 265% مقابل 300% للمضخة التقليدية بحسب الظروف. لكنه يشير إلى أن هذه المضخات تبقى أفضل من مراجل الغاز (التي لا تزيد فعاليتها عن 95%)، وما دامت أسعار الكهرباء قريبة من أسعار الغاز وليست أعلى بكثير، فستبقى تكلفة تشغيل المضخة الحرارية التي تولد حرارة مرتفعة قليلة، ولن يضطر أصحاب المنازل إلى ترقية العزل أو زيادة حجم المشعّات، وسيساعد ذلك على الانتقال إلى التدفئة الكهربائية بسرعة أكبر.
كان تبني أصحاب المنازل في هولندا لهذه المضخات من أبرز المهام الصعبة، فنفذت شركتا فاتنفال وفينسترا برنامجاً تجريبياً وركبتا المضخة الحرارية في 20 منزلاً بأحجام مختلفة في بلدة هيمسكيرك القريبة من العاصمة أمستردام. وبعد بضع سنوات من الاختبار، في يونيو/ حزيران 2022، أعطت الشركتان أصحاب المنازل خيار استعادة سخانات الغاز القديمة التي احتفظوا بها في منازلهم، أو اعتماد المضخة الحرارية التي تولد الحرارة العالية بصورة دائمة. يقول فولفسفينكل: "اختار أصحاب المنازل جميعهم الاستمرار باستخدام المضخة الحرارية".
في بعض الحالات، قد يكون تركيب المضخات الحرارية لكل منزل على حدة أقل كفاءة من إنشاء نظام واحد كبير لخدمة حي بأكمله. منذ قرابة عقد من الزمن، تعمل شركة ستار رينيوابل إنرجي (Star Renewable Energy)، ومقرها في مدينة غلاسكو، على بناء أنظمة تدفئة المناطق التي تستمد الحرارة من نهر قريب أو مضيق بحري؛ ومنها نظام متصل بممر مائي نرويجي. يمكن أن تستفيد المضخات الحرارية من درجة حرارة الماء الثابتة في أعماق الممر المائي الاسكندنافي؛ حيث تصل درجة الحرارة إلى7 درجات مئوية.
اقرأ أيضاً: نجاح تفاعل الاندماج النووي في مفاعل جيت الأوروبي: خطوة صغيرة أم قفزة كبيرة؟
يسحب نظام شبكة التدفئة المحلية هذه المياه عبر أنبوب طويل جداً ويستخدمها لتسخين سائل التبريد؛ وهو الأمونيا، وتؤدي زيادة الضغط بدرجة كبيرة على سائل التبريد (يصل إلى 50 باراً)، إلى رفع درجة حرارته إلى نحو 121 درجة مئوية، ثم يمرر السائل المبرد الساخن حرارته إلى الماء في حلقة التدفئة المحلية؛ ما يرفع درجة حرارة الماء إلى نحو 90 درجة مئوية، ويوفر هذا النظام 85% من الماء الساخن اللازم لتدفئة المباني في مدينة درامن.
يقول غرينو: "هذا النوع من المضخات مدهش للغاية".
لن يتمكن أصحاب المنازل كلهم من تركيب المضخات الحرارية لأنها تتطلب ميزانية كبيرة، ويقول يو إن تكلفة استبدال مرجل الغاز في منزله ما تزال باهظة لكنه يحلم أن يستبدلها في المستقبل. مع التحسن المستمر في الكفاءة، وزيادة المبيعات في العديد من البلدان، تزداد صعوبة رفض المضخات الحرارية على منتقديها. ويقول يو: "في النهاية، أعتقد أن الجميع سيعتمدون المضخات الحرارية".