يعدّ الإلكترون من مكونات المادة الأكثر شيوعاً، فكل ذرة كاملة في الكون تحتوي إلكتروناً واحداً على الأقل، لكن له نظائر أقل شيوعاً وأكثر غموضاً، وأحدها هو الميون. ربما لا نبدي اهتماماً كبيراً بالميونات، ولكنها تأتي باستمرار إلى الأرض من الفضاء عبر الغلاف الجوي الخارجي.
الميونات: الوصول إلى أماكن لا يمكن للإلكترونات الوصول إليها
يستطيع الميون اختراق طبقات سميكة من الصخور الصلبة التي لا يمكن للإلكترونات اختراقها، ويمكن للعلماء الاستفادة من هذه الجزيئات المحيرة في إنشاء صور للأجسام شبيهة بصور الأشعة السينية. استخدم العلماء الميون على مدى عقود طويلة في فحص الأجزاء الداخلية للبراكين الثائرة والمقابر القديمة، إلا أن الصور الناتجة كانت ثنائية الأبعاد، واقتصرت الصور الثلاثية الأبعاد على بعض الأجسام الصغيرة.
لكن ذلك تغير الآن، إذ يشير تقرير نُشر مؤخراً في مجلة ساينس أدفانسز إلى أن الباحثين تمكنوا من إنشاء صورة ثلاثية الأبعاد لمفاعل نووي بحجم مبنى كبير باستخدام الميون، يفتح هذا الإنجاز آفاقاً جديدة للخبراء، لفحص المفاعلات القديمة ومراقبة النفايات النووية بأمان.
وفقاً لعالم الفيزياء النووية بجامعة باريس ساكلاي في فرنسا وأحد مؤلفي الدراسة، سيباستيان بروكورور، هذه أول مرة يتم فيها إنشاء صورة ثلاثية الأبعاد باستخدام الميون فقط لجسم بهذا الحجم.
اقرأ أيضاً: كيفية صناعة ليزر أشعة سينية أكثر برودة من الفضاء
الأشعة الكونية كمصدر للميونات
في الواقع، لولا وجود الأشعة الكونية لما استطعنا استخدام الميونات للتصوير. تتكون غالبية الأشعة الكونية من نوى الهيدروجين أو الهيليوم، وتنشأ من مجرات بعيدة ثم تأتي إلى الأرض وتخترق الغلاف الجوي لتشكل تدفقاً مستمراً من الإشعاع والجسيمات دون الذرية، ويكون تركيز الميونات عالياً في هذا الإشعاع المتدفق. الميون أثقل من الإلكترون، إذ إن كتلته أكبر بنحو 206 مرات، وهو شديد التقلب، ويبلغ متوسط عمره نحو جزء من المليون من الثانية، ولكن هذا الوقت يكفي ليضرب نحو 10 آلاف ميون كل متر مربع من سطح الأرض في الدقيقة.
بما أن الميونات أثقل وزناً فهي تحمل طاقة أكبر، ما يمنحها القدرة على اختراق المواد التي لا تستطيع الإلكترونات اختراقها، مثل طبقات الصخور التي تبلغ سماكتها أكثر من 800 متر. يمكن للعلماء مراقبة هذه الميونات باستخدام أجهزة متخصصة وعدها، وبالتالي يستطيعون تحديد ما إذا كانت هناك أي فراغات أو تجاويف في مسارها وفقاً لغزارة تدفقها واتجاهها.
الميونات ككواشف
وبهذه الطريقة، يمكن للعلماء جمع بيانات عن المساحات التي يتعذر على البشر الوصول إليها. على سبيل المثال، تم استخدام الميونات للعثور على تجويف مخفي داخل هرم خوفو الأكبر بالجيزة في مصر عام 2017، كما تمكن العلماء من تقدير الأضرار في محطة فوكوشيما دايتشي للطاقة النووية من مسافة آمنة بعد كارثة تسونامي في عام 2011، واستخدم العلماء الميونات أيضاً في فحص حاويات النفايات النووية دون فتحها، لتقليل احتمال حدوث أي تسرب إشعاعي منها.
ومع ذلك، ثمة تحديات في إنشاء الصور الثلاثية الأبعاد باستخدام الميونات، ومنها عدم قدرة العلماء على التحكم في كمية الميونات التي تسقط من السماء، وعلى الرغم من وصول الملايين منها إلى الأرض كل يوم، فهي غير كافية نسبياً لاستخدامها على المدى الطويل. وفقاً لبروكورور، قد يستغرق الأمر عدة أيام للحصول على صورة ميوغرافية واحدة، لأن علينا الانتظار حتى تتوفر كمية كافية منها.
تؤخذ صور الميون عادة باستخدام جهاز كاشف يحسب عدد الميونات التي تصطدم به من كل اتجاه، ولكن استخدام جهاز كاشف واحد لا يسمح إلا بالتحقق من وجود تجويف دون تحديد عمقه أو موقعه بدقة، ولذلك تكون غالبية صور الميون الناتجة ثنائية الأبعاد. وبالتالي إذا صورت واجهة المبنى بالميونات، فستتمكن من رؤية الغرف الفردية، ولكن لن ترى توزيعها أو أبعادها، أي ستفتقر الصور الناتجة إلى التفاصيل الدقيقة المطلوبة بسبب عدم وجود بعد ثالث.
اقرأ أيضاً: كيف سيصبح توزع الترسانة النووية عالمياً في السنوات القادمة؟
من الناحية النظرية، يمكن التقاط عدة صور بالميونات من زوايا مختلفة وجمعها معاً لتشكيل صورة ثلاثية الأبعاد، وهذا ما يقوم به أطباء الأشعة باستخدام الأشعة السينية بالفعل. ولكن في حين أنه من السهل التقاط مئات الصور بالأشعة السينية من زوايا مختلفة، فإن القيام بذلك باستخدام الميونات عمل شاق ويستغرق وقتاً طويلاً.
ومع ذلك، فقد حاول بروكورور وزملاؤه القيام بهذه المهمة في مفاعل قديم، كان عبارة عن محطة للطاقة النووية ومنشأة للأبحاث في ماركول بجنوب فرنسا، ويُدعى جي2 " (G2)، وبني في خمسينيات القرن الماضي. أُغلق المفاعل نهائياً عام 1980، ومنذ ذلك الحين تعمل السلطات الفرنسية على تفكيكه ببطء، والآن، واستعداداً لتفكيك المفاعل كلياً، أراد الفرنسيون إجراء فحص سلامة آخر للهياكل الداخلية. يقول بروكورور: "اتصلوا بنا من أجل ذلك".
التقاط صور ثلاثية الأبعاد بالميونات
التقط العلماء صوراً ثلاثية الأبعاد بالميونات لأجسام صغيرة مثل الدبابات من قبل، لكن التقاط واحدة لهيكل مثل مفاعل جي2 يتطلب اختراق طبقات ومساحات أكثر بكثير؛ إذ إنه يقع داخل أسطوانة خرسانية بحجم غواصة صغيرة، ومحاط ببناء ذي جدار معدني بحجم حظيرة الطائرات.
لحسن الحظ، كانت هناك مساحة كافية لبروكورور وفريقه لوضع 4 أجهزة كشف مملوءة بالغاز في نقاط استراتيجية حول المفاعل وتحته. ومن خلال نقل الكواشف حول الأسطوانة الخرسانية، تمكّن الفريق من التقاط 27 صورة ميون بوقت تعريض طويل، استغرق التقاط كل منها عدة أيام.
اقرأ أيضاً: صغيرة الحجم وعالية الأداء: ماذا تعرف عن الجيل الجديد من المفاعلات النووية؟
يقول بروكورور إن الجزء الصعب لم يكن في الواقع إعداد أجهزة كشف الميون أو حتى تشغيلها، بل كان تجميع الصور معاً لإنشاء الصورة النهائية بعد ذلك. قام الباحثون بتكييف خوارزمية مستخدمة في العيادات الطبية للجمع بين الصور التشريحية، ومع ذلك، كانت عملية مضنية واستغرقت وقتاً طويلاً، إلا أنهم تمكنوا من إنشاء صورة نهائية تظهر أجساماً صغيرة مثل أنابيب التبريد التي يبلغ قطرها نحو 70 سنتيمتراً.
يقول الفيزيائي من مختبر فيرميلاب الوطني الذي يقع في ضواحي شيكاغو والذي لم يشارك في البحث، آلان بروس، إن ما قام به الفريق جدير بالتقدير لأنه استطاع بناء أجهزة الكشف، والذهاب إلى الموقع وجمع البيانات، وهي مهمة معقدة حقاً.
ويقول بروكورور إن عملهم كان يهدف لإثبات المفهوم. والآن بعد أن اكتشفوا ما يمكنهم القيام به، تتمثل الخطوة التالية لهم في تطبيق هذه التقنية لمسح الحاويات النووية في مواقع أخرى. يقول بروكورور: "من المتوقع أن تكون نتائج المرحلة التالية أكثر دقة".
لقد فتح نجاح مشروع تصوير الميون في ماركول إمكانية تطبيقه في أماكن أخرى قريباً. يعمل بروس وبعض زملائه حالياً على مشروع يتطلب جهداً أكبر بكثير لإنشاء مسح ثلاثي الأبعاد للهرم الأكبر في الجيزة بمصر. يقول موضحاً: "نستخدم في الأساس نفس التقنية، ولكن حجم ما سنعمل عليه ضخم جداً".