كيف يمكن الاستفادة من التجارب العالمية للوصول للأمن الدوائي في المملكة العربية السعودية؟

5 دقيقة
حقوق الصورة: shutterstock.com/Lightspring

لك أن تتخيل أن مريضاً شعر بأعراض معينة وبعد معاناة طويلة من زيارة المستشفيات والعديد من الأطباء وإجراء الكثير من الفحوصات المخبرية يُشخَّص بمرض معين. وبعد معاناة الوصول للتشخيص الصحيح يُبنى عليه صرف العلاج المناسب لحالته. ولكن على الرغم من اختيار العلاج المناسب للمريض فإن حالة المريض تتدهور! السبب بكل بساطة عدم توفر الدواء المناسب للمريض!

هذا ما حدث يوم الثلاثاء 30 يناير/كانون الثاني 2024، عندما توفيت مريضة في الولايات المتحدة تبلغ من العمر 61 عاما بعد وصولها إلى المرحلة الرابعة من سرطان الرئة. من أهم الأدوية لعلاج حالة المريضة دواء الكاربوبلاتين، وهو الدواء المعروف بتحسين جودة الحياة لحالة المريضة المذكورة. ولكن للأسف توفيت المريضة بسبب نقص الإمدادات لهذا الدواء المهم جداً لهذه الحالة على الرغم من أن العيادة التي تعالجت فيها المريضة تعد عيادة ذات قوة شرائية كبيرة.

اقرأ أيضاً: باحثون يكتشفون علاجاً محتملاً لآلزهايمر

عمليات إمداد الجهات الصحية بالأدوية

عمليات إمداد الجهات الصحية بالأدوية هي عبارة عن عملية مستمرة ومعقدة ومحكومة بعدة اعتبارات تنظيمية وتشريعية ولوجستية واقتصادية، وتتطلب السيطرة على سلاسل الإمداد إدارة قوية ومتوازنة تراعي الأطراف كافة في المنظومة، وكذلك تتطلب حلولاً تضمن توفر الدواء على المدى القصير، بالإضافة لحلول على المدى البعيد، ما يسهم في وصول الدواء للمريض وصولاً صحيحاً وفي التوقيت الصحيح. 

يحدث نقص الأدوية عندما يكون الطلب أعلى من المعروض، وينتج عنه العديد من المخاطر مثل التأخر في العلاج والتقدم في المرض ، وبالتالي عدم رضا المريض!

يُنظر للتوفر الدوائي في الولايات المتحدة من منظور أمني، بل ويُعتبر نقص الأدوية والاعتماد على الموردين العالميين من الصين والهند تهديداً حقيقياً للأمن القومي في أميركا، لأن 50% من الأدوية المستهلكة في الولايات المتحدة مصدرها من الصين والهند. 

كيف ظهرت مشكلة نقص الأدوية؟

شهدت السنوات الأخيرة نقصاً في عدد المصانع في أميركا مع زيادة ملحوظة في الصين والهند وتايوان وإسرائيل، ويرجع الأمر في هذا إلى عددٍ من العوامل؛ منها انخفاض تكلفة الأيدي العاملة والإنتاج بالإضافة للتشريعات البيئية الأقل صرامة مقارنة بالولايات المتحدة. 

وفي تصريح مهم للدكتور ستيفن شوندلماير، مؤسس معهد برايم الذي يركّز على الدراسات الدوائية المتعلقة بالاقتصاد والإدارة، يتكلم فيه عن مشكلة نقص الأدوية المتكررة في أميركا واعتمادها على الصين والهند كموردين أساسيين وخطورة ذلك على الأمن القومي في أميركا. شبّه الدكتور ستيفن المشكلة بالاعتماد على الأعداء في زمن الحرب! وقال: "نحن لا نعتمد على الأعداء في الحرب لصنع الرصاص". ويعتبر الدكتور ستيفن أنه لا يوجد سبيل للحفاظ على الصحة العامة والأمن القومي في الولايات المتحدة سوى بالسيطرة على مصادر إنتاجها وتصنيعها.

اقرأ أيضاً: دليلك لاستخدام الأدوية المُستهلكة الأكثر شيوعاً

الجهود الرامية لحل مشكلة نقص الأدوية

عقدت هيئة الغذاء والدواء الأميركية مؤتمراً في سبتمبر/أيلول 2011 بسبب النقص الواضح والمتزايد عن عام 2010. وعُقِد مؤتمر آخر في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه بين الجمعية الأميركية لصيادلة النظام الصحي والجمعية الأميركية لعلم الأورام والمعهد الدولي للممارسات الدوائية الآمنة للتوصل لأسباب النقص. كانت أهم الأسباب المذكورة سوء التواصل بين المصنعين وهيئة الغذاء والدواء وبعض الأطراف الأخرى. وقد أُلزمت الشركات بعد ذلك بإبلاغ هيئة الغذاء والدواء عن أي نقص محتمل قبل 6 شهور. قبل هذا القانون كانت العملية اختيارية وكانت الشركات غير ملزمة بإبلاغ الهيئة عن أي نقص محتمل. وبالفعل بعد هذا التشريع ارتفعت البلاغات إلى 6 أضعاف مقارنة بما قبل إلزامها، ما انعكس إيجاباً على توفر الأدوية. 

أسباب نقص الأدوية في المملكة العربية السعودية

وفي دراسة أُجريت عام 2018 في جامعة الملك سعود تتحدث عن أهم الأسباب والتحديات المتعلقة بنقص الأدوية في المملكة العربية السعودية، التقى القائمون على الدراسة 19 شخصاً يعملون في قطاعات مختلفة (في المجال الأكاديمي والمشتريات ومصانع الأدوية والشؤون التنظيمية في الشركات). كانت نتيجة الدراسة أن هناك 7 أسباب تسهم في نقص الأدوية في المملكة وهي:

  1. عدم إخبار هيئة الغذاء والدواء مسبقاً بالنقص المتوقع للأدوية.
  2. ضعف أنظمة إدارة سلاسل الإمداد.
  3. عدم وجود عقوبات على المصنعين والمستوردين في حال عدم التزامهم بالتشريعات الحكومية.
  4. الوقت الطويل الذي تتخذه هيئة الغذاء والدواء في السماح لإطلاق وترخيص المنتجات البيولوجية، وهذا يعود لكثرة المتطلبات من هيئة الغذاء والدواء.
  5. الاعتماد المفرط على الأدوية المستوردة.
  6. هوامش الربح المنخفضة لبعض الأدوية الأساسية.
  7. الاعتماد على سياسات مشتريات قديمة تركّز على السعر على حساب الجودة.

وفي دراسة أخرى مميزة أُجريت عام 2023 في المملكة العربية السعودية لدراسة العلاقة السببية بين تسعير الأدوية ونقص الأدوية. اعتُمِد في الدراسة على قاعدة البيانات للهيئة العامة للغذاء والدواء السعودية، ودراسة الأدوية التي شهدت نقصاً بين عامي 2017 و2020، ومقارنة سعرها المحلي والعالمي في وقت النقص. توصلت الدراسة إلى أنه قد يكون ارتفاع سعر الدواء العالمي مقارنة بالسعر المحلي سبباً لنقص الأدوية في المملكة.

اقرأ أيضاً: احذر تقسيم أقراص الدواء دون استشارة طبية لهذه الأسباب

جهود المملكة العربية السعودية لمعالجة نقص الأدوية

من يعمل في المكاتب العلمية والمستودعات ومع فريق سلاسل الإمداد في الشركات والمصانع الدوائية في المملكة العربية السعودية يعلم أن هيئة الغذاء والدواء السعودية تلزمها بشكلٍ أسبوعي برفع قائمة بالكميات المتوفرة للأدوية المسجلة. وتطالبها كذلك بالإفصاح عن سبب النقص في حال عدم توفر كميات كافية. علاوة على ذلك، تلزم هيئة الغذاء والدواء السعودية الشركات بشكل ربع سنوي بإرفاق بيانات المخزون الآمن، وهو الكمية التي تعتقد الشركة أنها تكفي لاستهلاك 6 أشهر بناءً على بيانات الاحتياج والاستهلاك التاريخية وكذلك المخزون الفعّال، بالإضافة لرفع بيانات الاستهلاك والاحتياج بشكل سنوي. 

ويُعتبر نظام "رصد" الذي يسمح بتتبع الدواء من المصنع حتى الوصول للمستهلك كذلك داعماً قوياً جداً لتوفر الدواء. وتوجد قائمة في موقع هيئة الغذاء والدواء السعودية تُتيح البحث عن اسم الدواء والتأكد من توفره. 

تجربة وكالة الأدوية الأوروبية وكندا كنموذج

تُعتبر تجربة وكالة الأدوية الأوروبية (الجهة الرقابية والمشرعة في دول الاتحاد الأوروبي) في التعامل مع نقص الأدوية، تجربة فريدة من نوعها. فقد تمت صياغة اللوائح في الاتحاد الأوروبي للاستعداد للأزمات الصحية والتأكد من توفر الأدوية، عن طريق صياغة عدد من الاستراتيجيات ومن أهمها:

  •  مراقبة وتخفيف النقص الفعلي والنقص المحتمل للأدوية والأجهزة الطبية المهمة.
  • تقديم الدعم العلمي لتطوير أدوية ومنتجات تتماشى مع طبيعة الأزمة وفي وقت منطقي.
  • ضمان سير العمل بطريقة سلسة ومرنة فيما يتعلق بفريق العمل الذي سيقيِّم المنتجات في الهيئات الرقابية.

ونلاحظ هنا الاهتمام بنقص الأدوية على المدى القصير من خلال مراقبة النقص الفعلي والنقص المحتمل للأدوية. بالإضافة للاهتمام على المدى البعيد من خلال تقديم الدعم العلمي لتطوير أدوية في الأوقات الحرجة، والتركيز على تطوير كفاءات علمية ومرجعية من أجل تقييم المنتجات تقييماً علمياً.

يمكن تلخيص أبرز مسؤوليات وكالة الأدوية الأوروبية فيما يتعلق بإدارة الأزمات وتوفير الأدوية والأجهزة الطبية المهمة خلال الأزمات بعدد من النقاط ومن أهمها:

  •  مراقبة الأدوية التي سيؤدي نقصها إلى ظهور عواقب سيئة على النظام الصحي والصحة العامة بشكلٍ عام.
  •  العمل على إنشاء منصة تسهّل جمع المعلومات وترصد نقص الأدوية على مستوى الاتحاد الأوروبي.
  • إنشاء فريق عمل للطوارئ يقدّم المشورة العلمية ومراجعة الأدلة للأدوية التي لديها القدرة على حل المشكلات في الأزمات، وتقديم الدعم العلمي عن طريق تسهيل عمل التجارب السريرية.
  •  تنسيق الدراسات المستقلة حول استخدام وفاعلية الأدوية المستخدمة وسلامتها في الأزمات الصحية.
  • الاستثمار في الأدلة الواقعية للأدوية.

وتتجلى أهم الفوائد من هذه الاستراتيجيات بما يلي:

  • تسهيل عملية تقييم المنتجات المبتكرة خلال الأزمات الصحية.
  • تطوير التنسيق على مستوى الاتحاد الأوروبي بشكلٍ عام للاستعداد للأزمات الصحية.

وفي كندا، يُتيح النظام الصحي الاستيراد الاستثنائي للأدوية المسجلة خارجياً فترة محددة للتغلب على النقص. 

وتقوم فكرة الاستيراد الاستثنائي على السماح باستيراد أدوية من الخارج في حال وجود نقص فعلي أو نقص متوقع في الأدوية المسجلة في كندا، والذي سيؤدي نقصها إلى تأثير سلبي كبير في الرعاية الصحية. يُحدَّد التأثير ويُقيَّم عن طريق عدد من المعايير، ومن أهمها تقييم عدد الموردين بالإضافة لتقييم المواد الفعّالة البديلة والعلاجات البديلة وعدد المرضى الذين سيتأثرون بعدم توفر العلاج. قد يكون عدد المرضى قليلاً ولكن تأثير النقص عالٍ جداً. في هذه الحالة يدخل الدواء تحت قائمة الاستيراد الاستثنائي.

اقرأ أيضاً: 6 حقائق مهمة عن دواء أوزمبيك تبرر رواجه الهائل

الحلول على المدى البعيد والاستفادة من تجربة الاتحاد الأوروبي من خلال تأهيل كفاءات علمية، وتحديداً في القطاع الخاص، لتقديم حلول علمية تتماشى مع طبيعة الاحتياج في المنطقة، بالإضافة لحلول على المدى القصير تضمن توفر الدواء من خلال مصدر موثوق ومعتمد من قِبل السلطات التشريعية، هو الطريق للوصول إلى الأمن الدوائي.

المحتوى محمي