"سنأكل ما يأكله الجميع"، قد تختصر هذه الكلمات حال معظم الأنظمة الغذائية على مستوى العالم، فالوجبات الغذائية للبشر أصبحت تشبه بعضها بعضاً في جميع أرجاء الكرة الأرضية، وليس غريباً بعد اليوم أن تجد السوشي في وسط الصحراء العربية، وأن تجد البطاطا الحلوة على أطباق الصينيين، وأن تكون البيتزا والنودلز والدجاج المقلي هي الوجبات المفضلة عند معظم البشر. ولكن، هل يعي الناس حجم العواقب الوخيمة التي قد تنتج عن الأنظمة الغذائية المتشابهة عالمياً؟
هل بات البشر يأكلون نفس الأطعمة في معظم أنحاء العالم؟
أكدت دراسة منشورة في دورية "وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم" (Proceedings of the National Academy of Science PNAS) عام 2014، أجراها فريق دولي من العلماء بقيادة كولين خوري (Colin Khoury)، أنه وعلى مدى الخمسين عاماً الماضية، أصبحت الأنظمة الغذائية البشرية في جميع أنحاء العالم متشابهة أكثر من أي وقت مضى، وذلك بمتوسط عالمي يبلغ 36%، وهو ما سماه الباحثون بالنظام الغذائي المعولم.
إذ أصبح المزيد من الناس حول العالم يستهلكون المزيد من السعرات الحرارية والبروتينات والدهون، ويعتمدون في تحضير طعامهم على قائمة مختصرة من المحاصيل الغذائية الرئيسية مثل القمح والأرز والبطاطس والذرة والسكر وفول الصويا، بالإضافة إلى ارتفاع استهلاكهم من اللحوم ومنتجات الألبان بشكل كبير.
وهذا ينطبق على البلدان العربية أيضاً، فقد تغيرت معظم الأنظمة الغذائية في الشرق الأوسط ولكن بنسبة أقل من المعدل العالمي البالغ 36%، في حين أن النظام الغذائي اليمني قد تغير أكثر من أي بلد في العالم، متمثلاً بالارتفاع الشديد في استهلاك الحبوب الأساسية كالقمح والأرز والذرة وكذلك السكر، بالتزامن مع قلة استهلاك الحبوب التقليدية مثل الذرة الرفيعة والشعير.
اقرأ أيضاً: ما هو قمح «جبل» المقاوم للجفاف؟ وكيف سيساعد الدول العربية على مواجهة التغير المناخي؟
في الواقع، من بين 6000 نوع من النباتات التي أكلها البشر على مر العصور، فإن 9 منها فقط هي ما يسيطر على الأنظمة الغذائية البشرية حالياً، بل إن 3 منها فقط وهي القمح والأرز والذرة توفر 50% من إجمالي السعرات الحرارية للبشر.
فقد أصبح القمح غذاءً رئيسياً في 97.4% من بلدان العالم، والأرز في 90.8%، وفول الصويا أصبح أساسياً في 74.3% من البلدان، في المقابل تراجعت زراعة العديد من المحاصيل ذات الأهمية الإقليمية الكبيرة، مثل الذرة الرفيعة والدخن والجاودار (الشيلم)، وكذلك المحاصيل الجذرية مثل البطاطا الحلوة والكاسافا وغيرها، بالإضافة إلى تراجع زراعة واستهلاك العديد من محاصيل الحبوب والخضروات الأخرى المهمة محلياً.
ومن المفارقات الغريبة التي وصفها الباحثون، أنه ونظراً لأن النظام الغذائي البشري أصبح أقل تنوعاً على المستوى العالمي على مدار الـ 50 عاماً الماضية، فقد وسعت العديد من البلدان لا سيما في إفريقيا وآسيا قائمة طعامها الرئيسية، ولكنها تغيرت إلى أنظمة غذائية أكثر عولمة.
على سبيل المثال، في شرق وجنوب آسيا، اكتسبت العديد من الأطعمة الرئيسية مثل القمح والبطاطس أهمية أكبر إلى جانب المواد الغذائية الأساسية الموجودة منذ فترة طويلة في هذه المنطقة مثل الأرز، لكن هذا التوسع في الأطعمة الأساسية الرئيسية جاء على حساب العديد من الأطعمة الثانوية المتنوعة التي كان لها دور مهم في الأنظمة الغذائية للناس.
اقرأ أيضاً: 5 بدائل صحية وآمنة للقمح في صناعة الخبز
كيف أصبحت قائمة الطعام واحدة على مستوى العالم؟
يمكن القول إن الأنظمة الغذائية المتشابهة ناتجة عن قوى اجتماعية واقتصادية قوية. على سبيل المثال، أدى ارتفاع الدخل في البلدان النامية إلى تمكين المزيد من المستهلكين من استهلاك كميات من المنتجات الحيوانية والزيوت والسكريات في وجباتهم الغذائية. علاوة على ذلك، شجّع التأثر بالحضارة الغربية في هذه البلدان على زيادة استهلاك الأطعمة المصنّعة والسريعة، وقد أدى بعض التطورات الأخرى مثل تحرير التجارة، وتحسين نقل السلع، والمصانع الغذائية متعددة الجنسيات، وتوحيد معايير سلامة الأغذية إلى تعزيز هذه الظاهرة.
ما العواقب الوخيمة التي قد تنتج عن النظام الغذائي المعولم؟
على الرغم من أن النظام الغذائي المعولم قد أدى إلى إدخال أغذية جديدة لملايين الفقراء الذين اعتادوا سابقاً على أنظمة غذائية محدودة للغاية، فإنه ومع ذلك له عواقب وخيمة أيضاً وأهمها:
التأثير السلبي على الأمن الغذائي العالمي
مع ارتفاع عدد سكان العالم وزيادة الاعتماد على المحاصيل العالمية المتشابهة وأنظمة الإنتاج العالمية التي تمد معظم الناس بغذائهم، سيصبح ثمن فشل أي من هذه المحاصيل باهظاً للغاية. لماذا؟
لأن الأنظمة الغذائية المتشابهة تعني أن معظم البلدان تعتمد بشكل كبير على الاستيراد، وبما أن قلة قليلة من البلدان ذات المناخ المناسب والتكنولوجيا الزراعية والصناعية المناسبة هي التي تتحكم في إنتاج المحاصيل الرئيسية، بالتالي فإن أي حادث متوقع أو غير متوقع يؤدي إلى نقص إمدادات المحاصيل سيؤثر على الدول المستوردة بشكل كبير، وأفضل مثال عن هذه الحوادث هو الحرب، فقد أدى النزاع الروسي الأوكراني إلى تأثر إمدادات القمح بشكل كبير جداً وارتفاع أسعاره بنسبة 40% تقريباً، خصوصاً أن ربع صادرات القمح العالمية يأتي من روسيا وأوكرانيا.
وليست الحروب وحدها ما تسبب تقلبات أسعار هذه المحاصيل، بل يشكل الطقس المتطرف أيضاً خطراً على الإمدادات الغذائية، فالفيضانات في أستراليا وموجات الجفاف في الهند والعواصف الثلجية في أميركا تهدد المحاصيل الزراعية العالمية. وبالطبع، من المرجح أن يزيد التغيّر المناخي من تفاقم الوضع.
على سبيل المثال، من المتوقع أن تؤثر أحداث ندرة المياه الشديدة على ما يصل إلى 60% من مساحة زراعة القمح في العالم بحلول نهاية هذا القرن، بالإضافة إلى أن كل زيادة في درجة حرارة الأرض بمقدار درجة مئوية واحدة من المتوقع أن تؤدي إلى انخفاض في إنتاج القمح العالمي بنسبة 4- 6.5% في المتوسط، في حين أن زيادة الطلب على الغذاء قد تصل إلى 53% بحلول عام 2050، ناهيك عن ذكر الآفات الحشرية والأمراض، والتي من المحتمل أن تتفاقم في أجزاء كثيرة من العالم وتهدد إنتاج المحاصيل الزراعية بسبب تغيّر المناخ.
علاوة على ذلك، فإن معظم السلع الزراعية العالمية تُسعّر وفق الدولار الأميركي، بالتالي فإن سعر الصرف العالمي وتقلباته ومشكلاته قد يؤثر على العديد من الدول المستوردة للمحاصيل الزراعية. بالمختصر، سوف يؤدي مزيج من هذه العوامل إلى تفاقم أزمة الغذاء العالمية وتعريض السكان إلى صدمات غذائية كبيرة. وعلى الرغم من أن هذه القضايا تؤثر على الجميع، لكن وكما هي العادة، فإن الدول الأكثر فقراً هي الأكثر عرضة للخطر، لأنها الأكثر حساسية لارتفاع الأسعار، وذات قوة شرائية أقل منافسة عند نقص الإمدادات الغذائية.
اقرأ أيضاً: الأنظمة الغذائية النباتية ليست صحية دائماً
التأثير السلبي على صحة البشر
تشير الدراسة السابقة إلى أن البلدان التي تشهد تغيراً غذائياً سريعاً تشهد أيضاً ارتفاعاً سريعاً في الأمراض المصاحبة لوفرة الغذاء المفرطة، وذلك ليس لأن الغذاء أصبح مشابهاً لبعضه بعضاً في أنحاء الأرض، وإنما لأن هذه الأنظمة الغذائية المتشابهة اقتصرت على عدد قليل من المحاصيل غنية المحتوى بالكربوهيدرات والدهون، وقليلة المحتوى بالعناصر الغذائية المتنوعة والمفيدة، وهو ما يؤدي إلى سرعة الإصابة بالسمنة وأمراض القلب والسكري على مستوى العالم، وقد أصبحت مشكلات صحية كبرى على الرغم من أنها حالات مرضية تتأثر بشدة بالنظام الغذائي وتغيراته.
هل من حلول لزيادة التنوع في إنتاج الغذاء واستهلاكه على مستوى العالم؟
على الصعيد الدولي، ثمة بعض الإجراءات الضرورية لتعزيز التنوع في إنتاج الأغذية واستهلاكها وبالتالي تحسين التغذية والأمن الغذائي، وهي:
- التشجيع على اعتماد مجموعة أوسع من أنواع المحاصيل الرئيسية في جميع أنحاء العالم، وذلك لتعزيز التنوع الجيني للمحاصيل، وبالتالي الحد من ضعف النظام الغذائي العالمي في مواجهة التحديات التي تشمل تغيّر المناخ وزيادة الطلب على الغذاء وزيادة ندرة المياه والأراضي وغيرها.
- دعم حفظ واستخدام الموارد الوراثية المتنوعة للنباتات مثل الأصناف التقليدية والأنواع البرية للمحاصيل.
- تحسين الجودة الغذائية للمحاصيل الرئيسية التي يعتمد عليها الناس. على سبيل المثال، من خلال تحسين محتواها من المغذيات الدقيقة، وإتاحة الفيتامينات التكميلية ومصادر المغذيات الأخرى على نطاق أكبر.
- تشجيع زراعة المحاصيل المحلية البديلة التي يمكن أن تعزز مرونة الزراعة، وتجعل الأنظمة الغذائية البشرية صحية أكثر، وجعل هذه المحاصيل أكثر قدرة على المنافسة في الأسواق المحلية والدولية.
- تعزيز الوعي العام بالحاجة إلى أنظمة غذائية صحية، واتخاذ قرارات أفضل بشأن نوعية الطعام وكميته وأشكاله المأكولة.