يحظى تناول الطعام في موسم الأعياد بسمعة سيئة. يبدأ موسم عيد الشكر بوابل من النصائح حول كيفية تجنب زيادة الوزن، من استخدام أطباق أصغر إلى طهي نسخ "صحية" من الأطباق المفضلة. نتلقى قُبيل رأس السنة الكثير من الدعوات التي تشجعنا على إزالة الأطعمة غير الصحية من أنظمتنا الغذائية وحساب عدد السعرات الحرارية التي نتناولها. لكن علماء النفس وعلماء الأوبئة على حد سواء يحذرون من أن كل هذه الدعوات يمكن أن تضر أكثر مما تنفع.
انتبه إلى طريقتك في تصنيف الطعام
يعتبر تصنيف الطعام الذي نأكله خلال موسم الأعياد على أنه "غير صحي" موضة شائعة للغاية لا علاقة لها بالحقائق الصحية، كما يمكن أن يتسبب الشعور بالذنب المترافق مع تناول الطعام بضرر جسيم على المدى الطويل. إذا كنت تشعر بالتوتر الذي يتصاحب مع محاولتك للتكفير عما تناولته خلال الأسابيع القليلة الماضية، فقد تكون بحاجة لأن تتخلص من بعض المفاهيم الخاطئة المتعلقة بالأنظمة الغذائية.
أولاً، من المهم توضيح أن مخاطر زيادة الوزن أثناء العطلة مبالغ فيها إلى حد كبير. بينما تشير الأبحاث إلى أن معظم الناس يكسبون القليل من الوزن خلال موسم الأعياد، إلا أن هذه الزيادة لا تكون كبيرة عادة، إذ تبلغ ما بين 0.4 و0.9 كيلوغراماً في المتوسط، وذلك وفقاً لدراسة مراجعة أجريت عام 2017، ونُشرت في دورية "مجلة السمنة". بالنظر إلى ذلك، وبالنظر إلى أن الارتباط بين زيادة مؤشر كتلة الجسم وتردّي الصحة ضعيف في أحسن الأحوال، من الآمن أن نقول إن معظم الناس لا يعرضون حياتهم للخطر من خلال تناول الأطعمة غير الصحية لبضعة أيام من العام.
حتى مع معرفة كل ذلك، قد لا تزال تشعر بالحاجة إلى تعويض تناول كميات كبيرة من الأطعمة الغنية والسكرية. يمكن أن يجعل الضغط الاجتماعي في موسم الأعياد الالتزام بالنظام الغذائي أمراً صعباً، إذ أنه من الصعب رفض تناول البسكويت أو المشروبات عندما يكون كل من حولك يفعل ذلك، لذلك، شعورك بأنك تسببت في ضرر لجسمك مبرر.
اقرأ أيضاً: اضطرابات الأكل قد تتعلق بالألم العاطفي وليس بالعادات الغذائية
وجبات الأعياد مفيدة
لكن تشير الأبحاث إلى أن وجبات موسم الأعياد لها مجموعة من الفوائد الصحية الخاصة بها، إذ وجدت دراسة نُشرت عام 2017 في دورية "السلوك البشري وفيزيولوجيا البشر التكيفيّان" أن الأشخاص الذين يتناولون وجبات أكثر في الأوساط الاجتماعية هم أكثر عرضة للشعور بمشاعر جيدة تجاه أنفسهم، وأنهم يتمتعون بشبكة اجتماعية أوسع، وهي ميزات، كما أشار مؤلفو الدراسة، مرتبطة بالسعادة والرفاه وانخفاض مخاطر الإصابة بالأمراض. كانت الوجبات المسائية التي تترافق مع تناول المشروبات هي الأكثر احتمالية لإثارة مشاعر الدفء والترابط.
في بعض الأحيان، تتضمن المشاركة في هذه المواقف الاجتماعية تناول الأطعمة والمشروبات التي تحتوي على الكثير من السعرات الحرارية أو تلك الدهنية أو السكرية. يحاجج علماء الأخلاقيات الحيوية في جامعة "جونز هوبكنز" بأن هذه الأطعمة لها قيمة صحية أيضاً. كتب هؤلاء في مقال نُشر في دورية "معهد كينيدي للأخلاق": "تقاسم الطعام هو وسيلة للتعبير عن الحب، وإقامة العلاقات، وتعزيز الروابط"، وأضافوا: "ما نأكله يعبر عن هويتنا الشخصية والجماعية". قال الباحثون أيضاً إن ذلك يشمل غالباً الأطعمة التي نعتبرها غير صحية. لكن حتى هذه التسمية يمكن أن تكون مضللة.
إن هوسنا الثقافي حول ما إذا كانت الأطعمة صحية أم لا هو بعيد كل البعد عن كونه عالمياً. طلب علماء النفس في جامعة بنسلفانيا مؤخراً من ما يقرب من 947 مشاركاً هندياً وفرنسياً وأميركياً تصنيف مجموعة من الأطعمة بأي طريقة يرونها مناسبة. أظهرت النتائج، والتي نُشرت في دورية "الشهية"، أنه بينما اختار المشاركون الفرنسيون والهنود عموماً تصنيف الأطعمة إلى مجموعات محايدة مثل "الطعام مقابل الشراب"، اختار معظم الأميركيين تصنيف الأطعمة حسب ما إذا كانوا يعتبرونها صحية أو غير صحية. يقول "بول روزين"، مؤلف الدراسة، وأستاذ علم النفس في جامعة بنسلفانيا: "هذه ليست طريقة منطقية جداً لتصنيف الأطعمة".
روزين مهتم بشكل خاص بالاختلاف بين سلوك الفرنسيين والأميركيين. يقول روزين: "يميل الفرنسيون إلى التفكير في الطعام على أنه تجربة فريدة". في دراسة أجريت عام 1999 ونشرت أيضاً في دورية الشهية، وجد روزين أنه من بين المشاركين الذين ينتمون إلى 4 بلدان مختلفة، كان الفرنسيون هم الأكثر احتمالا لربط الطعام بالمتعة، والأقل احتمالا لربط الطعام بالصحة. كان الأميركيون على الطرف الآخر من الطيف. يقول روزين إن هذا مهم لأن معدل أمراض القلب بين الفرنسيين أقل في المتوسط من نظيره لدى الأميركيين، كما أن الفرنسيين يعيشون حياة أطول بمقدار 4 سنوات وسطيّاً. حسب روزين، هذا لا يعني أن الأنظمة الغذائية الفرنسية مثالية للصحة وطول العمر، ولكن التركيز على المتعة في الطعام بدلاً من قيمته الصحية بالتأكيد لا يبدو أنه يضر.
اقرأ أيضاً: التمارين الرياضية بعد الأكل مباشرة قد تصيبك بنوع من الحساسية
أنصت إلى ما يقوله جسمك بحذر
تكشف أبحاث أخرى علاقة مباشرة أكثر بين سلوكيات البشر وصحتهم. سأل علماء النفس من نيوزيلندا المشاركين في دراسة الناس عما إذا كانوا يربطون جملة "كعكة الشوكولاتة" بكلمة "الاحتفال" أو "الشعور بالذنب"، ثم تابعوا هؤلاء المشاركين لمدة 18 شهراً. وجد الباحثون أن الأشخاص الذين اختاروا "الاحتفال" كان من الأسهل بالنسبة لهم الالتزام بنظام غذائي متوازن مقارنة بأولئك الذين اختاروا "الشعور بالذنب"، كما أنهم كانوا يميلون أيضاً إلى الحفاظ على وزن جسم ثابت خلال العام ونصف العام التاليين.
تقول "رويلين كويجر"، عالمة النفس في جامعة كانتربري في نيوزيلندا، وإحدى مؤلفي الدراسة: "إن الحديث عن الأطعمة غير الصحية أو الأطعمة المحظورة في حد ذاته أمر غير صحي". القيام بذلك يجعلنا نشعر بالذنب، وهو شعور يرتبط بتفعيل استجابة "الكر أو الفر". تشير أبحاث أخرى إلى أن مثل هذه المشاعر قد تؤدي إلى سلوكيات أكل مضطربة. شعر المشاركون في إحدى الدراسات بالذنب بشكل متزايد في الساعات الأربع التي سبقت تناول الطعام بشراهة.
يتضمن أحد نماذج النظام الغذائي التخلص تماماً من فكرة "صحي" و"غير صحي". يركز الأكل الحدسي على الاستجابة لحاجات الجسم: متى يكون جائعاً؟ متى يشبع؟ كيف جعلك تشعر تناول قطعة البسكويت هذه؟ عندما يبدأ البالغون في تناول الطعام بشكل حدسي، تشير الأبحاث إلى أنهم في الواقع يأكلون كميات أقل بشكل عام، ويقل احتمال تناولهم للأكل بتوتر أو شراهة، ويكونون أكثر سعادة بأجسادهم.
تقول "سوزان ميسون"، عالمة الأوبئة الاجتماعية في جامعة مينيسوتا: "هناك ارتباط ثقافي وعاطفي عميق بالطعام، فلماذا لا تستمتع به وتنتبه فقط إلى ما يشعر به جسمك؟"
اقرأ أيضاً: لماذا نستمر بالأكل حتى بعد الشبع؟
استمتع
من احتفالات موسم الأعياد إلى ما بعد العام الجديد، فإن الشخص الذي يتناول الطعام بشكل حدسي سينظر لقطعة من الكعكة كما ينظر لطبق من الخضار، عن طريق تناول هذه الأطعمة إذا كان جائعاً وإذا كان هذا ما يريده، والتوقف عند الشبع، والانتباه للمشاعر التي يحفزها تناول الطعام.
يشمل الأكل الحدسي أيضاً الانتباه عندما يجعلك النظام الغذائي تشعر وكأنك لست بصحة جيدة. وفقاً لميسون، إذا كنت تشعر بالخمول أو الانتفاخ بعد أسبوع أو أسبوعين من موسم الأعياد، فقد يكون من المنطقي تناول المزيد من الفواكه والخضروات، وتقليل كمية المشروبات والسكر. لكن هذا لا يعني الاستغناء عن مجموعات كاملة من الطعام. تقول ميسون: "التغييرات المتطرفة في النظام الغذائي للفرد ليست مستدامة أو موصى بها"، ولا حتى كجزء من استراتيجية مؤقتة.
توصي ميسون أيضاً بالانتباه إلى إشارات الجوع التي يولدها الجسم. غالباً ما يتضمن موسم الأعياد تناول الكثير من الأطعمة بين الوجبات، لذلك حتى عندما تأكل بشكل حدسي، قد يكون من السهل أن تتجاهل ما إذا كنت جائعاً أم لا. لا بأس أن تأكل من أجل المتعة، ولكن إذا كنت تشعر أن جسمك مضطرب قليلاً، فإن الانتباه أكثر لسبب رغبتك في تناول الطعام يمكن أن يساعدك على تحقيق التوازن مرة أخرى. تقول ميسون: "يمكن أن يكون الانتباه لإشارات الجوع والشبع خطوة نحو استعادة عادات أكل ما قبل موسم الأعياد".
لكن سواء كنت تلتزم بالأكل الحدسي على مدار العام أم لا، تظل الحقيقة هي أنه بغض النظر عن مدى شعورك بالسوء حيال ما أكلته في الأسابيع القليلة الماضية، فإن محاولة التعويض عن طريق تقييد نفسك لن يفيدك بشيء على الأرجح، وأن كل تلك الوجبات والحلويات قد يكون لها تأثير إيجابي على صحتك.
تقول ميسون: "من منظور الصحة العامة، الأكل في موسم الأعياد ليس هو المشكلة"، وتضيف: "لا تتردد في تناول البسكويت، ولكن توقف عندما تشعر بالشبع".