كيف نتعلّم الأكل؟ الإجابة ليست بالبساطة التي تعتقد

6 دقائق
تعلم الأكل
حقوق الصورة: بي ويلسن.

في منتصف عشرينيات القرن الماضي، جمعت الدكتورة «كلارا ديفيس» مجموعة من 15 طفلاً (معظمهم أيتام، والكثير منهم يعانون من سوء التغذية، وكلهم كانت أعمارهم أقل من عام واحد) وعزلتهم عن أي اتصال اجتماعي في حضانة تجريبية. مُنح الأطفال لأشهر حرية تجميع وجباتهم الخاصة من مجموعة محدودة من 34 نوعاً من الأطعمة.

تعلم الأكل
إعلان منشور في مجلة لايف في 12 ديسمبر/كانون الأول 1949. 

شملت هذه الأطعمة الفاكهة والخضروات (الموز والبازلاء واللفت) والحبوب (دقيق الشوفان وخبز الجاودار) واللحوم (الدجاج والكبد ونخاع العظام)، كل منها مهروس أو مفروم في وعاء. كُلّفت ممرضة بمراقبة الأطفال، وإطعامهم بالملعقة فقط عندما يُظهرون اهتماماً واضحاً بمحتويات أحد الأوعية.

ما الذي سيختار الأطفال تناوله إذا تحرروا من  الضغوط؟

كانت النتائج مذهلة. في غضون أشهر، أصبح الأطفال الصغار النحيلين ذوي العيون الغائرة بدينين. عالج الأطفال أنفسهم باستخدام النظام الغذائي وحده. بدلاً من تجنّب النكهات الجديدة، جرب الأطفال كل طبق تقريباً، وطوروا تفضيلاتهم الفريدة بينما تمكنوا من اختيار نظام غذائي متنوع وصحي يعكس توازن السعرات الحرارية فيها (تلك التي مصادرها البروتين والدهون والكربوهيدرات) النسب المثالية التي يوصي بها أخصائيو التغذية.

إنه نوع التجربة التي نتمنّى ألا يوافق عليها أي مجلس مراجعة مؤسسي معاصر. تساءلت ديفيس، والتي كانت قلقة بشأن الأطفال في رعايتها الذين كانون ضعيفين ويعانون من سوء التغذية (والذين رفضوا بعناد تناول الأطعمة المغذية التي حثهم الآخرون على تناولها): ما الذي سيختار الأطفال تناوله إذا تحرروا من ضغوط وتوقعات الآباء والأطباء؟

بعد ما يقرب من 90 عاماً، لا يزال يُعتمد على بحث ديفيس على نطاق واسع كدليل على أننا نعرف غريزياً احتياجاتنا الغذائية. فلماذا يبدو أن الكثير منا غير ماهرين في تناول الطعام الصحي؟ القصة المعتادة هي أن تعقيدات الحداثة، التكنولوجيا، والأطعمة المصنعة، والإعلانات، وربما حتى الثقافة نفسها، قد سلبتنا حكمتنا البيولوجية الفطرية، أو ما هو أسوأ من ذلك، فهي استغلت شهيتنا الفطرية، مما عرض صحتنا للخطر بهدف زيادة أرباح شركات الطعام الكبيرة. ما هو «نظام باليو الغذائي» إن لم يكن عودة محبوكة إلى طبيعتنا البدائية التطورية، عندما كانت الرغبات متوافقة تماماً مع الاحتياجات؟ كما هو الاعتقاد السائد، نحن ولدنا مع معرفة فطرية للطريقة التي يجب أن نأكل بها، إلا أننا نقضي حياتنا في نسيان هذه الطريقة.

هل الشهية هي دافع اجتماعي فقط؟

«كلام فارغ!»، كما تكتب «بي ويلسن» في كتابها الجديد المُقنع «اللقمة الأولى: كيفية تعلّمنا للأكل». كانت تجربة ديفيس مثل لعبة مزورة. جعلت البيئة المنظمة بعناية في هذه الدراسة القيام باختيار سيء أمراً مستحيلاً. على الرغم من أن الأطفال لم يثبتوا أنهم قارِتين (القارت هو الكائن الذي يتغذّى على المواد النباتية والحيوانية) تماماً، إلا أن ميولهم الفردية لم تكن ذات أهمية، إذ أن جميع الخيارات الغذائية المتوفّرة كانت صحية.

علاوة على ذلك، كم من التعميمات يمكننا أن نصيغ عن العالم الحقيقي بناءً على سيناريو غير واقعي ومصطنع مثل هذا؟ تستنتج ويلسن أنه «لا يمكننا فهم الشهية عن طريق إزالة جميع التأثيرات الاجتماعية»، وتضيف: «الشهية هي دافع اجتماعي للغاية».

تحاجج ويلسن في كتابها بأنه لا يمكن أن نعزو تعزية الطريقة التي يأكل بها البشر إلى الغريزة الفطرية بشكل كامل. إذ أنها تمثّل بكاملها تقريباً سلوكاً مكتسباً. أي، فمن أجل فهم، وربما تغيير، الطريقة التي نشتهي فيها الأطعمة التي نشتهيها، لن يقدم علم الأعصاب ولا علم الغدد الصماء ولا علم النفس التجريبي، ولا أي علم مخبري، أية إجابات حاسمة. علينا أن ندرس التاريخ والثقافة والأسرة والدولة، وكذلك الدماغ والجسد.

ويلسن هي مؤرخة تدربت في جامعة كامبريدج، ومن كتبها السابقة «مخدوع، تاريخ الغش في الطعام»، و«تَفكّر في الشوكة» الممتاز، والذي يبيّن كيف أن الأدوات التي نستخدمها للطهي وتناول الطعام أثرت في ما نأكل والطريقة التي نأكل بها. في هذا الكتاب، أثبتت ويلسن أنها مُرشدة واضحة الرؤية ومتوازنة قادرة على كشف زيف مجال أبحاث التغذية المعاصرة.

تخبرنا ويلسن أن الباحثين اكتشفوا فترة في مرحلة النمو (تتراوح بين 4 و 7 أشهر) يتقبل الأطفال فيها النكهات الجديدة بشكل مذهل قبل أن يفقدوا هذه القدرة مجدداً. لسوء الحظ، فإن توصيات تغذية الأطفال المعيارية تنص على ضرورة الرضاعة من الثدي أو الزجاجة خلال تلك الفترة، مما يمنع إمكانية توسيع أذواق الأطفال في هذا المجال العمري الحاسم.

تعلم الأكل لا يجب أن ينفصل عن محيطنا 

مع ذلك، تبذل ويلسون جهوداً مضنية لإظهار أن غرائزنا البيولوجيّة ليست قدرنا المحتوم. من خلال فهم أن التفضيلات يتم تطويرها من خلال التجربة، يمكننا تطوير طرق أفضل لتدريب حواس التذوق لدى الأطفال بشكل فعال، أي بشكل تدريجي بداية بتناول كميات صغيرة من الخضروات المكروهة وصولاً إلى الألفة والقبول وربما التمتّع بهذه الخضراوات. حتى بالنسبة لاضطرابات الأكل، وهي حالة يبدو أنها تنتج عن أسباب وراثية (مثل فقدان الشهية العصبي، والذي يتسم بالانتقائية العالية للأطعمة)، تورد ويلسن بالتفصيل بعض الممارسات العلاجية التي أظهرت نتائج واعدة، لا سيما تلك التي تضع التغذية والأكل في سياقات مجتمعية وأسريّة أوسع.

تستخدم ويلسن في عدة فصول من كتابها ديناميكيات الحياة الأسرية المتعلّقة بتناول الطعام لاستكشاف الطرق المختلفة التي تؤثر بها عوامل مثل الجنس والثقافة على طريقة تناولنا للطعام، وعلى وجه الخصوص، الطرق التي تحافظ بها العائلات على الممارسات التقليدية التي لم تعد مناسبة في ظروف الوفرة التي نعيشها اليوم. تقول ويلسن: «الطريقة التي نكافئ بها الأطفال بالطعام تستند إلى ذكريات شعبية تتعلق بكميات من الموارد الغذائية تغيّرت بشكل كبير». إنها ذكريات عن فترة كان فيها السكر الأبيض والدقيق المكرر من الأطعمة اللذيذة النادرة وليس من الوجبات الخفيفة المتوفرة بسهولة كما هي الآن.

قد يحاجج البعض بأن الاختلاف ضئيل عملياً بين القول إن النظم الغذائية الحديثة غير منسجمة مع الحقائق البيولوجيّة التطورية، وأنها غير منسجمة مع الثقافة. ألا يستبدل هذا سبباً صعب التغيير بآخر؟ لكن ويلسن تذكرنا بأن الثقافات يمكن أن تتغير، وهي تفعل ذلك في الواقع، وأن الحداثة لا تقتضي تلقائياً التراجع عن اتباع نظام غذائي تقليدي نعتقد أنه مثالي وغني بالمغذّيات.

توضّح لنا ويلسن في الفصل الأخير من الكتاب أن المطبخ الياباني، والذي يُشاد به لصحيّته وتركيزه على التجارب الحسية، ليس ناتجاً عن تقليد عمره قرون، ولكنه إبداع حديث أخذ شكله نتيجة للسياسات الغذائية السائدة في عصر «ميجي» والمعونات الغذائية الأميركية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. كما توضح ويلسن بالتفصيل المبادرات التعليمية (في البلدان الأوروبية مثل فنلندا وفرنسا) التي حسنت صحة الأطفال ووسعت من تنوع وجباتهم الغذائية من خلال مساعدتهم على تطوير علاقات غنية ومتعددة الحواس مع الطعام وتناول الطعام.

التحول المتعيّ: هل نأكل بشكل أكثر صحية فعلاً إن استمتعنا بما نأكل؟

على الرغم من أن معظم الكتاب يركز على الأطفال، إلا أن رسالة ويلسن الأساسية موجهة بشكل مباشر إلى البالغين. الأكل شيء يجب أن نتعلم كيف نفعله، لكنه ليس شيئاً نتعلمه مرة واحدة. الخطأ هو افتراض أن شهيتنا فطرية ولا جدال فيها، وأن عاداتنا ثابتة. لهذا فإن أهم درس يمكن أن نتعلّمه من هذا الكتاب هو: المتعة أمر ضروري. والأطعمة التي نستمتع بأكلها يمكن أن تتغير، وهي عملية تسمّيها ويلسن «التحول المُتعيّ». لا يمكننا أن نتوقع أن نأكل بشكل أكثر صحية إذا كنا لا نستمتع بما نأكله.

ومع ذلك، بالنسبة لشخص ألّف كتاباً رائعاً عن تأثير الأدوات التي نستخدمها في طرق الطهي وتناول الطعام، فإن افتقار الكتاب العام إلى معالجة عوامل مثل تكنولوجيا الغذاء وإنتاج الغذاء هو أمر مخيب للآمال. على الرغم من أن ويلسن تكتب ببلاغة كبيرة ونظرة ثاقبة حول الطريقة التي يعزز بها الطعام المعالج رغباتنا العميقة ليس فقط في تناول الأطعمة المالحة والحلوة والغنية بالدهون، ولكن أيضاً في ارتباطنا العاطفي بتاريخنا (إذ تمثّل هذه الأطعمة «استمرارية مع الماضي لا يمكننا الحصول عليها من الأطعمة الأخرى)، إلا أنها تستبعد الأطعمة المصنّعة كإحدى مصادر المتعة الزائفة، وأنها تمثّل خطراً ويجب استهلاكها باعتدال وحذر. 

في الواقع، ستبدو الكثير من نصائح ويلسن الغذائية مألوفة لمحبي «مايكل بولان»، و«مارك بيتمان»، و«ماريون نستله»، وغيرهم ممن يمجّدون فوائد اتباع نظام غذائي من الأطعمة الكاملة. تمنيت لو اعترفت ويلسن بأن تناول كميات أقل من الطعام المعالج يقتضي أن نقوم بالمزيد من معالجة الطعام بأنفسنا، وهو أمر له عواقب كبيرة على حياتنا.

هناك انتقادات أخرى. ويلسن هي كاتبة واضحة ومقنعة، تنتقل برشاقة بين السرد التاريخي والأبحاث العلمية والشهادات الشخصية. ولكن يعاني الكتاب أحياناً من تنوعه اللامتناهي. في مرحلة ما، تظهر حكاية من حياة الفيلسوف الفرنسي «تشارلز فورييه» الذي عاش في القرن التاسع عشر بجانب قصة لأجداد صينيين يفرطون في إطعام أحفادهم، ويتبعها أغنية من أوائل القرن العشرين من جدة المؤلّفة عن هدر الطعام. يمكن أن يشعرك هذا ببعض الارتباك.

في مرحلة ما، بعد عدد معين من القصص عن أشخاص في المختبرات يتم إطعامهم الحساء أو اللبن المخفوق أو مواد بروتينية حتى يتمكن الباحثون من قياس رغبتهم بتناول الطعام، قد يلاحظ القارئ أن شهيته الخاصة للتعلّم عن مثل هذه الدراسات العلمية قد تضاءلت إلى حد كبير. يتساءل هذا القارئ أيضاً عن سبب غياب التشكيكية الحادة التي طبقتها ويلسن بشكل مثمر في انتقادها أبحاث الغذاء التي أجريت في أوائل القرن العشرين ومنتصفه عن ملخصاتها للدراسات الأكثر حداثة.

كما هو الحال في كتاب ويلسن السابق، «تفكّر في الشوكة»، تتخلل الفصول الغنية بالأبحاث قصص ساخرة مع رسوم توضيحية، في هذه الحالة، حكايات أخلاقية خرافية تتضمن أطعمة مختلفة مثل الحليب وكعكات أعياد الميلاد والفلفل الحار وغيرها. تهدف هذه القصص إلى إضفاء الطابع الدرامي على وصفات الأطعمة الصحية التي تصر ويلسن أنها لا ترقى لمستوى النصائح الصحية. مع ذلك، يهدف هذا الكتاب إلى تغيير طريقة تفكيرنا في الطعام والأكل، سواء بالنسبة لأنفسنا أو لعائلاتنا، وكذلك في السياسة العامة والتعليمية.

الكتب المقنعة التي تقدم توصيات معقولة تخاطر بأن تُتهم بأنها تثبت ادعاءاتها بادّعاءاتها. قد يشعر بعض القراء أن نتائج الكتاب تفسر نفسها بنفسها. لكن هذا لا يجعل هذا الكتاب أقل فائدة أو ضرورة. تكتب ويلسن أن الناس في بعض الأحيان «يغضبون قليلاً» عندما تشرح المحاججة الأساسية للكتاب، والتي تنص على أننا نتعلم تناول الطعام، وأن أذواقنا تتأثر بالثقافة والمجتمع. يصر البعض قائلين: «ماذا عن المورّثات؟».

كمؤرخة تكتب عن صناعات الغذاء، واجهت رد الفعل هذا أيضاً. لكن لماذا يبدو الكثير من الأميركيين (وغيرهم) ملتزمين بعناد بالفكرة التي تنص على أن أذواقنا في الطعام فطرية، وبالتالي غير قابلة للتغيير؟ للأسف، هذا أحد الألغاز التي لم يحلّها كتاب ويلسن.

ناديا بيرينشتاين مرشّحة لنيل شهادة الدكتوراه في التاريخ وعلم اجتماع العلوم في جامعة بنسلفانيا. تحكي أطروحتها قصة تاريخ النكهات الاصطناعية وعلم النكهات في الولايات المتحدة.

المحتوى محمي