في 2 ديسمبر/ كانون الأول 2022، أصدرت مراكز السيطرة على الأمراض ومنع انتشارها الأميركية خريطة نشاط الإنفلونزا الأسبوعية الخاصة بها، تبيّن هذه الخريطة أن موسم الإنفلونزا في عامي 2022 و2023 شديد بالفعل ويزداد شدّة في وقت باكر بشكل خاص. أصبح المعدّل التراكمي للدخول إلى المستشفى في الأسبوع الأول من شهر ديسمبر/ كانون الأول أعلى مما كان عليه في نفس المرحلة من موسم الإنفلونزا خلال العقد الماضي.
طيف واسع من الفيروسات التنفسية هذا الشتاء
يتميّز هذا الموسم بانتشار حالات العدوى بين أعداد كبيرة من الأشخاص بسبب مختلف الأمراض من نزلات البرد والإنفلونزا إلى الفيروس المخلوي التنفسي ومرض كوفيد-19. لا يزال بعض العوامل التي تؤثر في انتشار حالات العدوى التي تصيب الجهاز العلوي التنفسي وازدياد شدّتها غير مفهوم بالنسبة للعلماء. في الواقع، لم يمض وقت طويل منذ أن كانت نظرية ميازما، وهي الفكرة التي تنص على أن "الهواء الفاسد" يتسبب بالأمراض شائعة للغاية. على الرغم من أن بعض الأمراض تنتشر بالفعل عبر الهواء، فإن الفيروسات والبكتيريا المنقولة بالهواء هي التي تتسبب بالأمراض، وليس الهواء بحد ذاته.
اقرأ أيضاً: تحذيرات من حالات تنفسية قد تسبب الشلل لدى الأطفال
وجدت دراسة جديدة من مستشفى ولاية ماساتشوستس للعيون والأذن وجامعة نورث إيسترن نُشرت بتاريخ 6 ديسمبر/ كانون الأول 2022 في مجلة الحساسية والمناعة السريرية أن انخفاض درجات الحرارة يثبّط نوعاً خاصاً من الاستجابات المناعية التي تحدث داخل الأنف وتقاوم فيروسات الجهاز التنفسي العلوي المسببة لحالات العدوى. يتسبب ذلك بازدياد احتمال الإصابة بحالات العدوى مع انخفاض درجات الحرارة.
سبب حيوي للتفاوت الموسمي في الإصابات التنفسية
قال مدير الأبحاث التحويلية في طب الأنف والأذن والحنجرة في مستشفى ولاية ماساتشوستس للعيون والأذن والمؤلف المشارك للدراسة الجديدة، بنجامين بلاير (Benjamin S. Bleier)، في بيان صحفي: "اعتقد العلماء من قبل أن موسم نزلات البرد والإنفلونزا يحدث في الأشهر الباردة لأن الأشخاص يقضون المزيد من الوقت في الأماكن المغلقة حيث يمكن أن تنتشر الفيروسات المنقولة بالهواء بسهولة أكبر"، وأضاف: "لكن تبين دراستنا أن هناك سبباً حيوياً جذرياً للتفاوت الموسمي في معدلات حالات العدوى الفيروسية التي تصيب الجهاز التنفسي العلوي السنوية، والذي ظهر مؤخراً خلال جائحة كوفيد-19".
يتمثل أحد الأسباب التي تجعل ارتداء الكمامات فعالاً للغاية في أنها تغطّي الأنف وتحميه، تعتبر الأنوف مدخلاً مرجّحاً للجراثيم، وذلك نظراً لأن الأنف هو أحد أولى نقاط الاتصال بين البيئة المحيطة وما داخل الجسم. إذا تم استنشاق العوامل الممرضة أو اقترابها من الأنف أو اليدين، يمكنها أن تنتقل عبر المجاري الهوائية إلى داخل الجسم. وعند دخولها، يمكن أن تدخل الخلايا وتتسبب بحالات العدوى في الجهاز التنفسي العلوي.
في عام 2018، سعى الباحثون في إحدى الدراسات للوصول إلى فهم أفضل للطريقة التي تحمي بها المجاري الهوائية نفسها من العوامل الممرضة، وجدت الدراسة أن الجسم يفعّل استجابة مناعية فطرية عند استنشاق البكتيريا من خلال الأنف، تتحسس الخلايا الموجودة في مقدّمة الأنف هذه البكتيريا وتفرز الملايين من الحويصلات خارج الخلويّة في المخاط، تحاصر هذه الأكياس المليئة بالسوائل البكتيريا وتهاجمها. وفقاً لبلاير، فإن إفراز هذه الحويصلات يشبه "ركل عش زنابير".
بيّنت هذه الدراسة أن الحويصلات خارج الخلوية يمكن أن تحرك البروتينات الواقية المضادة للبكتيريا في المخاط من مقدّمة الأنف تجاه مؤخرته وعلى طول مجرى الهواء. تحمي هذه الآلية الخلايا الأخرى من البكتيريا قبل أن تتمكن هذه الأخيرة من الوصول إلى مناطق أكثر عمقاً داخل الجسم. ساعدت هذه الدراسة في التمهيد للبحث بشكل أكثر تعمّقاً في العوامل التي تؤثر في هذه الاستجابة المناعية التي تحدث في الأنف.
وجدت دراسات أخرى أن الحويصلات خارج الخلوية توجد في المجاري الأنفية لدى الأطفال الصغار المصابين بالفيروس المخلوي التنفسي وبعض الأمراض التنفسية الأخرى.
اقرأ أيضاً: لماذا يعد الشتاء موسم الأمراض وليس الصيف؟
استجابات مناعية مختلفة للفيروسات المسببة للأمراض التنفسية
فحص الفريق في الدراسة الجديدة الطريقة التي تستجيب فيها العينات من الخلايا والنسج الأنفية لثلاث أنواع مختلفة من الفيروسات. وهي فيروس كورونا، ونوعان من الفيروسات الأنفية التي تتسبب بنزلات البرد. تم تجميع هذه العينات من أنوف المتطوعين الأصحاء والمرضى خلال خضوعهم للعمليات الجراحية.
وجد الفريق أن كل فيروس من الفيروسات الثلاثة حفّز استجابة الحويصلات خارج الخلوية من خلال تنشيط مسلك إشارات مختلف عن ذلك الذي تم تنشيطه لمقاومة البكتيريا. عندما تم إفراز الحويصلات، أدّت هذه الأخيرة دور طُعوم تحتوي على مستقبلات يمكن أن ترتبط بها الفيروسات بدلاً من أن تحتوي على الخلايا الأنفية التي يمكن أن تصيبها هذه الفيروسات.
قال الباحث في مستشفى ولاية ماساتشوستس للعيون والأذن وجامعة نورث إيسترن والمؤلف المشارك للدراسة الجديدة، دي هوانغ (Di Huang)، في بيان صحفي: "كلما زاد عدد الطعوم، زادت قدرة الحويصلات على التخلص من الفيروسات في المخاط قبل أن تتاح لها الفرصة للارتباط بالخلايا الأنفية، ما يتسبب في تثبيط العدوى".
ما علاقة درجات الحرارة بالاستجابة المناعية؟
تؤثّر درجة الحرارة إلى حد كبير في المناعة الأنفية لأن درجة الحرارة الداخلية للأنف تتأثر بدرجة حرارة الهواء الذي يتم استنشاقه. لمعرفة كيفية تأثير درجات الحرارة المنخفضة على استجابة الحويصلات خارج الخلوية المناعية، نقل مؤلفو الدراسة المتطوعين الأصحاء من وسط له درجة حرارة الغرفة إلى وسط تبلغ درجة حرارته 4.4 درجة مئوية تقريباً وأبقوهم هناك لمدة 15 دقيقة، بعدما تعرض المتطوعون للهواء البارد، وجد المؤلفون أن درجات الحرارة داخل الأنف انخفضت بمقدار 5 درجات مئوية، بعد ذلك قاموا بتبريد الأنسجة الأنفية بنفس المقدار ووجدوا أن كمية الحويصلات خارج الخلوية التي تم إفرازها من قبل الخلايا الأنفية انخفضت بنسبة قريبة من 42%، وأن البروتينات المضادة للفيروسات والموجودة في الحويصلات تم تثبيطها أيضاً.
وفقاً للمؤلفين، تقدّم هذه المكتشفات تفسيراً للآليات المسؤولة عن الاختلاف في معدلات حالات العدوى التي تصيب الجهاز التنفسي العلوي.
في مقابلة مع موقع بوبساي (PopSci، العلوم للعموم)، أشاد مدير أبحاث الرئة في جامعة كانساس، نافنيت دهيلون (Navneet Dhillon)، بهذه الدراسة كخطوة تجاه الوصول لفهم للآليات وراء انتشار الأمراض الموسمية بشكل أفضل.
قال دهيلون: "أعتقد أنها دراسة ذات جودة عالية طبّقت آلية جديدة هي تعريض المشاركين للبرد"، وأضاف: "تتمثل الخطوة التالية في إثبات أنه يمكن استخدام الحويصلات خارج الخلوية كعلاج في ظروف حالات العدوى الحقيقية، أي التي تنسخ فيها الفيروسات نفسها. مع ذلك، أنجز المؤلفون دراسة مفصّلة للغاية من خلال التجارب التي قاموا بإجرائها". يجدر الذكر أن دهيلون لم يشارك في الدراسة الجديدة.
اقرأ أيضاً: ماذا يحدث عندما تصاب الخلايا بفيروسين تنفسيين في الوقت نفسه؟
قالت طبيبة أمراض الأنف وأستاذة طب الأنف والأذن والحنجرة وجراحة الرأس والرقبة في كلية الطب في جامعة ستانفورد في كاليفورنيا، زارا باتيل (Zara Patel)، والتي لم تشارك في الدراسة الجديد، لشبكة سي إن إن الإخبارية: "هذه هي المرة الأولى التي نحصل فيها على تفسير حيوي وجزيئي يتعلق بعامل واحد من استجابتنا المناعية الفطرية يبدو أنه يُثبَّط نتيجة لانخفاض درجة الحرارة".
أضافت باتيل قائلة: "من المهم أن نتذكر أن هذه دراسة مختبرية، ما يعني أنه على الرغم من استخدام الأنسجة البشرية لدراسة الاستجابة المناعية، لم يتم إجراء التجارب في هذه الدراسة على أنف شخص ما. في أغلب الحالات، يتم تأكيد نتائج الدراسات المختبرية بعد إجراء الدراسات على الكائنات الحية".
تشمل الخطوات التالية محاولة تكرار هذه النتائج في أثناء دراسة أمراض أخرى، ويعتقد الفريق أيضاً أن هذه العملية يمكن أن تساعد في تطوير علاجات يمكن أن تحفّز الاستجابة المناعية الفطرية الأنفية وتعززها.
قال أستاذ العلوم الصيدلانية في جامعة نورث إيسترن والمؤلف المشارك للدراسة، منصور أميجي (Mansoor M. Amiji)، في بيان صحفي: "اكتشفنا آلية مناعية جديدة في الأنف تتعرض لمسببات الأمراض بشكل دائم، وبيّنا العوامل التي تضعف هذه المناعة"، وأضاف: "أصبح السؤال الآن كيف يمكن أن نستفيد من هذه الظاهرة الطبيعية لإعادة إنشاء آليات دفاعية في الأنف وتعزيز هذه الوقاية، خصوصاً في الأشهر الباردة؟