ما تعريف الصحة؟ ربما يجد البعض أن الإجابة البديهية لهذا السؤال هي غياب المرض، لكن هذا ليس دقيقاً بشكلٍ كامل؛ في الواقع، تتسلل الأمراض إلى الجسم قبل وقتٍ طويل من ظهور الأعراض؛ أي أن عدم وجود أعراض المرض لا يعني أنك غير مصاب به بالضرورة.
انطلاقاً من هذه الفلسفة، حاول الباحث وطبيب الباطنية ويليام لي، عبر أبحاثه التي استمرت ثلاثة عقود، إيجاد الرابط الذي يجمع بين العديد من الأمراض للوقاية منها وعلاجها، فكان النظام الغذائي.
في كتابه "تغلب على المرض بتناول الطعام" (Eat to Beat Disease) الذي نُشر عام 2019، قدّم لي نهجاً علمياً مدعوماً لاستخدام الغذاء كدواء، موضحاً كيف يمكن للجسم أن يشفي نفسه من خلال 5 أنظمة دفاع، وكيف يمكن تنشيط هذه الدفاعات بدمج الأطعمة التي نفضّلها بالفعل في أي برنامج غذائي.
ما أنظمة الدفاع بالجسم؟
مع بدء تشكل الإنسان كجنين في رحم الأم، تتطور في جسمه أنظمة دفاع قوية تساعده في الحفاظ على الحالات الجسدية والعقلية والعاطفية المثلى، وهي:
1. تولد الأوعية الدموية
يحتوي جسم الإنسان على أكثر من 9600 كيلومتر من الأوعية الدموية في الجسم، مهمتها نقل الدم المحمل بالمغذيات والأوكسجين إلى أنحاء الجسم كافة، وأي زيادة أو نقصان فيها قد يترتب عليها العديد من المشكلات، وهو ما يمكن لبعض الأغذية التحكم به.
لدى بحث الدكتور لي عن القاسم المشترك بين 70 مرضاً، منها السرطان والسكري وألزهايمر والتهاب المفاصل والسكتة الدماغية وحتى العمى، تبين أنه خلل في عمل نظام تولد الأوعية الدموية، وهو الطريقة التي تنمو بها الأوعية الدموية في أجسامنا. فإذا كان هناك فرط في نموها قد تغذّي الأمراض.
قد يبدو من المخيف معرفتك أن خلايا سرطانية تتشكل في الجسم في كل ثانية، نتيجة خطأ في انقسام الخلايا، لكنها تبقى ذات حجم ضئيل غير قادر على تهديد الصحة العامة لعدم توفر إمدادات الدم لها. لذا تتمكن أجسامنا بالحالة الطبيعية من منع السرطانات من النمو من خلال التحكم في تكوّن الأوعية الدموية.
اقرأ أيضاً: ثلثا طفرات السرطان تنتج عن الأخطاء العشوائية في الحمض النووي
2. تجديد الخلايا الجذعية
ربما لا يمتلك الإنسان القدرة على تجديد أطرافه مثل نجم البحر، ومع ذلك فإنه يتمتع بخاصية التجديد من الداخل من خلال الخلايا الجذعية، وهو ما نشاهده في التئام الجروح أو تجدد خلايا الكلى أو الكبد أو البشرة أو الشعر. يحتوي الجسم على نحو 750 مليون خلية جذعية مخزنة في نخاع العظم، بحيث يتم تحريرها لدى الحاجة إليها.
ما يجدر ذكره أن للسرطانات أيضاً خلايا جذعية سرطانية صغيرة تظهر في الجيل التالي من السرطان، إلّا أنه يمكن لبعض الأغذية القضاء على هذه الخلايا الجذعية السرطانية، وهو أمر لم يتمكن الباحثون من إيجاد دواء له.
3. ميكروبيوم الأمعاء
يحتوي جسم الإنسان على نحو 39 تريليون خلية بكتيرية في الأمعاء في الحالة النموذجية. يمكن لهذه البكتيريا التحكم بالتمثيل الغذائي والتواصل مع الدماغ وتحفيز عملية الشفاء.
في الواقع يتركز نحو 70% من جهاز المناعة داخل الأمعاء، فإذا كنت تغذّيها بأغذية غير صحية فأنت تعرّض جهازك المناعي للتسمم. وفقاً للدكتور لي ارتبط العديد من الحالات المرضية كالتوحد وألزهايمر والفصام ببكتيريا الأمعاء، حيث يمكن للغذاء أن يعزز تواجد البكتيريا النافعة أو السيئة في الأمعاء.
4. مكافحة الشيخوخة عبر إصلاح الحمض النووي
نتعرض بشكلٍ يومي للعديد من العوامل المسببة لإحداث تغيرات في الحمض النووي، مثل أشعة الشمس الحارقة والأبخرة السامة والتدخين، إلّا أنه يمتلك آليته الدفاعية الخاصة لحمايتنا من البيئة.
يحتوي الحمض النووي على بنية مُركّبة في نهاية الكروموسوم هي التيلومير، وهي قطع غير مشفرة من الحمض النووي مهمتها حماية الكروموسومات في أثناء الانقسام. ومع ذلك، تفقد الخلية خلال كل انقسام جزءاً من التيلوميرات، وبمرور الوقت يتم الوصول إلى طول معين تتوقف فيه الخلايا عن الانقسام، وذلك يسبب الالتهاب أو حتى موت الخلية، ما يُسرّع من عملية الشيخوخة.
يؤكد الدكتور ويليام فاعلية بعض الأغذية في إطالة عمر التيلوميرات.
اقرأ أيضاً: كيف نحمي أنفسنا من العوامل المسرطنة التي تحيط بنا؟
5. جهاز المناعة
يمتلك جسم الإنسان جهازاً مناعياً قوياً بما يكفي لمحاربة السرطان حتى لدى من يبلغ من العمر ثمانين عاماً. اقترح الدكتور لي أن من شأن بعض الأغذية تقوية الجهاز المناعي، بينما يمكن لبعضها الآخر إضعافه.
الغذاء من أجل الصحة
أشار الدكتور ويليام إلى أن الصحة لا تعني غياب المرض، وإنما هي نتيجة لعمل أنظمة الدفاع الخمسة في الجسم. وبالتالي فإن ما نتناوله يتحكم في دعم هذه الأنظمة وتفعيلها أو إعاقتها.
وفي كتابه، تحدث لي عن أكثر من 200 غذاء يمكنه تنشيط أنظمة الدفاع في الجسم للحفاظ على الصحة، بالاعتماد على حمية البحر الأبيض المتوسط والطعام الآسيوي، مثل الأطعمة النباتية الكاملة والفواكه والخضروات والحبوب الكاملة والمكسرات والبقوليات والبذور والزيوت الصحية، بحيث يتم تناولها على 5 وجبات في اليوم وهي: الإفطار، والغداء، والعشاء، ووجبتان خفيفتان ما بين الوجبات.
على سبيل المثال، يمكن اتباع الخطة الغذائية التالية:
الإفطار
يقترح لي بدء اليوم بوجبة فطور تحتوي على بعض الأغذية التالية:
- كوب من الشاي الأخضر كامل الأوراق أو القهوة، وبعض الفاكهة مثل التوت والكيوي في الصيف والحمضيات في الشتاء، إذ يمكن لهذه الأغذية والمشروبات أن تنشّط أنظمة الدفاع الخمسة.
- تناول خبز العجين المتخمر، لأنه مُصنّع باستخدام بكتيريا البروبيوتيك "الملبنة الروتيرية" (Lactobacillus reuteri)، وهي بكتيريا معوية صحية تساعد حتى بقاياها بعد الطهي على:
- تنشيط جهاز المناعة.
- تسريع الشفاء.
- تنشيط الدماغ وحثه على إفراز هرمون الأوكسيتوسين الذي يمنح شعوراً بالحب والسعادة.
- الأجبان مثل الكاممبرت أو الجودا أو المونيستر، أو صفار البيض أو فخذ الدجاج، لأنها تحتوي على فيتامين كي 2. وهو فيتامين مفيد لصحة القلب، ولإبطاء نمو الأوعية الدموية التي تعزز نمو الورم.
اقرأ ايضاً: القهوة والشاي قد يقللان خطر الإصابة بالخرف
الغداء
ينصح لي بغداء يتضمن:
- سلطات الخضر الورقية كالجرجير والسبانخ وأي نبات من العائلة الصليبية (Brassicaceae)، لأنها:
- تحتوي على مركبات مضادة لتولد الأوعية الدموية.
- تحمي الحمض النووي.
- تعزز جهاز المناعة.
- المكسرات والبذور لأنها تنشّط أنظمة الدفاع الخمسة.
- بالإضافة إلى الأسماك الصغيرة المعلبة كالسردين والماكريل والأنشوجة، لأنها تحتوي على أحماض أوميغا 3، ويقل محتواها من الزئبق، لأنها الأقل مراكمة له في السلسلة الغذائية.
كما ينصح لي بتخطي وجبة غداء أو فطور من حين لآخر، لأنها تقلل من السعرات الحرارية، ما يحسّن من أداء التيلوميرات.
اقرأ أيضاً: لفرص شفاء أفضل: تعرّف على المؤشرات المبكرة للإصابة بالسرطان
العشاء
لوجبة العشاء ينصح لي بكل ما هو طازج وفي الموسم. وبشكلٍ عام يفضّل:
- وجبات الخضار مع شرائح السمك المطبوخة بالبخار والبطاطا الأرجوانية المشوية. تحتوي البطاطا الأرجوانية على صبغة خاصة يمكنها قتل الخلايا الجذعية السرطانية.
- المعكرونة المصنوعة من القمح الكامل من وقتٍ لآخر، لأن قشرة الحبوب تحتوي على خصائص مضادة لتوليد الأوعية الدموية وتعزيز المناعة.
- الطماطم لأنها تحتوي على صبغة الليكوبين المضادة للأكسدة.
- زيت الزيتون البكر لأنه يحتوي بشكلٍ خاص على مركب بوليفينول هو هيدروكسي إيروسول، والذي يتمتع بخصائص مضادة لتولد الأوعية الدموية وحماية الحمض النووي وتعزيز المناعة.
- نبات القبار لأنه يحتوي على جرعة كبيرة من الكيرسيتين، وهو أحد مضادات الأكسدة المقاومة للالتهاب التي تمنع نمو أنواع متعددة من السرطان.
الوجبات الخفيفة
على سبيل المثال، يمكن تناول الشوكولاتة الداكنة التي تحتوي على الكاكاو بنسبة لا تقل عن 70%، أو شراب الكاكاو الساخن، لأنها قادرة على تنشيط جميع أنظمة الدفاع في الجسم.
أظهرت دراسة نُشرت في مجلة الكلية الأميركية لأمراض القلب (Journal of the American College of Cardiology)، أن الأشخاص الذين تناولوا كوباً من الكاكاو الساخن المصنوع من الشوكولاتة الداكنة مرتين يومياً لمدة شهر، ازداد لديهم عدد الخلايا الجذعية المنتشرة في مجرى الدم وانخفض ضغط الدم لديهم. بالإضافة إلى القهوة لأنها تحتوي على حمض الكلورجينيك، وهو مُركّب يمكنه تحفيز أنظمة دفاع الجسم المختلفة، إلّا أن لي يحذّر من شربها مع منتجات الألبان لأن دهونها ترتبط به وتغلفه بما يعوق قدرة الجسم على امتصاصه.
يؤكد الدكتور لي أنه على الرغم من أن هذه الأطعمة تقدّم فوائد صحية كبيرة، فمن الأهمية بمكان تكيُّف نظامنا الغذائي بناء على الاحتياجات الفردية والظروف الصحية بالتشاور مع المتخصصين في الرعاية الصحية أو أخصائيي التغذية.