كيف يساعد الطاعون العلماء على فهم الماضي؟

5 دقائق
حقوق الصورة: Pixabay

فيما يلي مقتطفات من كتاب "مبني على العظام Built on Bones" للكاتبة برينا هاسيت.

كغيري من علماء الآثار البيولوجية، لدي ولع بالطاعون. فهو يوضح الترتيب الطبيعي للأشياء، وتُقاطع عوامل الخطر العادية للانتهاء إلى العينات الأثرية، ويعطي لمحة من خلال الموت عن القدم والضعف، وأيضاً عن عينة من السكان (غير المحظوظين). إذ أن مأساة الإصابات الجماعية تؤثر على الأشخاص الذين نادراً ما يتعرضون للموت من الناحية الإحصائية، بما في ذلك المراهقين والبالغين الذين يشكلون الجزء الأكبر من السكان الأحياء، ونادراً ما يتعرضون للوفاة. إن بعض الكوارث مثل الطاعون الذي يودي بالجميع إلى المقبرة من خلال الانتشار العشوائي تشكل إحدى الفرص القليلة لعلماء الآثار البيولوجية للتغلب على ما يعرف باسم التناقض العظمي، وهو مصطلح أوجده الباحث جيمس وود وزملاؤه لتغطية نقطة صعبة جداً بأنه – أثناء دراسة الحياة السابقة – فإن الأدلة التي يجب على علماء الآثار البيولوجية أن يعملوا عليها هي الوفيات السابقة. وبدون الحصول على الرعاية الطبية الحديثة، فإن الاحتمال الأكبر للوفيات يحدث في سن الشيخوخة وفي مرحلة الطفولة المبكرة. ويكون خطر الموت أقل عند المراهقين والبالغين في سن الإنجاب، حتى يحدث شيء بمستوى ذلك.

إن ظاهرة المرض الوبائي واسع الانتشار والذي يودي بحياة أعداد هائلة من السكان بدون أي تمييز، تحمل جاذبية ثقافية خاصة. حيث تعكس الجماجم والهياكل العظمية للموتى في الفن الأوروبي في القرن الرابع عشر الفظائع التي أصابت النظام في العالم الأوروبي في أعقاب الموت الأسود، حيث حضر الموت في مقدمة ووسط تاريخ الحضارة الأوروبية. وفي الواقع، فإن الآثار المترتبة على الخسائر الفادحة في الأرواح والتي لوحظت خلال الموت الأسود كان لها عواقب بعيدة المدى، والتي بدأ الباحثون لتوهم باستكشاف نطاقها ومستواها. ولم يؤدِّ الموت الأسود إلى قتل الملوك فحسب، بل أسقط الملكية وطريقة حياة القرون الوسطى بأكملها في أجزاء أوروبا التي دمرها. ويلاحظ العلماء بشكل متزايد تأثير الطاعون على مناطق أخرى، فضلاً عن العواقب الأقل شيوعاً للوفيات الكارثية والتي انتشرت من المراكز في آسيا وأفريقيا. ولكن لماذا يجب أن يكون لمرض ما مثل هذا التأثير الفظيع؟ وما هي الظروف التي تشاركت لقتل الملايين من الأشخاص في ثلاث قارات؟ وما هو الطاعون بالضبط؟ وكيف حصلنا عليه؟

لا يعدّ الطاعون مرضاً واحداً، على الرغم من أن الاعتقاد الأول لمعظم الناس هو أن الطاعون الدبلي ينجم عن بكتيريا اليرسينية الطاعونية، والمعروفة باسم الموت الأسود. ويمكن للطاعون أن يكون أي مرض يصيب ما يكفي من الناس بالفوعة الكافية للقتل بأعداد كبيرة. وقد يختلف تعريف الشخص لكلمة "كبيرة" بشكل واضح بناءً على ما إذا كانت هذه الأعداد تتضمن أصدقاءه وعائلته. وتتطلب الأمراض الوبائية أعداداً كبيرة لتحدث بنفس طريقة الموت الأسود. فهو يجعل البكتيريا أو الفيروسات غير فعالة إذا كان الكائن الحي المضيف لوحده في نطاق معزول دون نقل العدوى أولاً. ومن الجدير بالذكر بأن لبعض أنواع العدوى فترة حضانة طويلة بما فيه الكفاية، أو يمكنها أن تتجول لفترة طويلة في الحيوانات القريبة، والتي يمكنها سد الفجوات بين المجموعات الصغيرة من الناس، وتشكيل سلسلة من العدوى يمكنها أن تنتشر بسرعة عبر المناطق. والشرطان اللذان يتطلبهما مرض الوباء المحلي ليتحول إلى جائحة هما إلى حد كبير من الشروط التي توجد في المدن: الكثافة السكانية، والطرق السيئة جداً فيما بينها. ولكن الشيء الذي لا نفهمه تماماً هو السبب في أن بعض أنواع العدوى تقفز تلك القفزة، حيث أن الأمراض المُعدية ليست شيئاً جديداً، فلماذا تهاجمنا أحياناً على حين غرة؟

وإن المساهمة الحقيقية لابتكار المدينة في الانتقال الوبائي هي التحول من العدوى إلى الوباء. فالعدوى هي مصدر إزعاج، وربما تكون مميتة. إلا أن الأوبئة تؤدي إلى مقتلك ومقتل من حولك ولا تترك أي شخص ليدفنك. ولا يمكن أن يكون هناك وباء دون وجود عدد كبير من السكان المعرضين للإصابة بالعدوى: وهذا ما يجعله مرضاً حضرياً. ولا يعني ذلك بأن الأمراض التي تسبب الأوبئة لا تحدث خارج المدن، إذ أن معظم الأمراض الوبائية الحديثة هي في الواقع عدوى مباشرة من الريف. ويمكن لها أن تبقى هناك أيضاً، ولكن في عالم شبكي من الطرق والحافلات والسيارات والناس، فإنها تصل الآن إلى التجمعات السكانية الحضرية الكثيفة حيث تريد الاندلاع. وإن الانتقال الجاهز للعدوى هو ما يجعل المرض يتحول إلى طاعون، أي شبكات الطرق والتجارة والأشخاص الذين يربطون العالم المتحضر بشكل متزايد. ومع ذلك، فإن الحساسية الناجمة عن أنماط الحياة غير المتكافئة في المدن  هي ما تسمح للطاعون بالازدهار.

ومن الممكن تقسيم الأمراض المُعدية التي تقتل البشر إلى فئات مختلفة. وقد يعتمد ذلك على ناقل المرض (أي من أين تحصل عليه)، أو عامل المرض (البكتيريا أو الفيروسات)، أو حتى المناخ والجغرافيا (من الصعب الإصابة بالملاريا في حال عدم وجود بعوض الملاريا في المنطقة). ويقدم الكثير من الناس فرصة كبيرة للمرض ليصبح طاعوناً كاملاً. إذاً كيف يكون الطاعون؟ والجواب بأن يكون هناك الكثير من الناس الأموات في أماكن غير عادية. وعندما نجول مرة أخرى خلال الزمن، فإن هناك عدداً قليلاً من المرشحين المناسبين لهذا الوصف، أي ذلك المرض الذي يعرف باسم الطاعون، والوباء الذي جاء قبله وهو الجدري.

ويذكر بأن الجدري كان الوباء الأقدم المعروف من الناحية الأثرية والوباء الحديث الأكثر فتكاً حتى الآن. وينجم عن العدوى بأحد نوعين من الفيروسات، الجدري الكبير أو الجدري الصغير. وهذا الأخير يسبب الجدري الصغير، وهو نمط حميد نسبياً من المرض الجلدي والذي نادراً ما يكون قاتلاً وهو متوطن في أجزاء من أمريكا الوسطى. أما الفيروس الأول فقد أدى إلى مقتل 500 مليون شخص حسب بعض التقديرات، وهو يترك طفحاً جلدياً مشوهاً عند كثير من الأشخاص الذين حالفهم الحظ بما يكفي للبقاء على قيد الحياة. وهذا هو المرض الذي نهتم به. إذ أن الجدري هو المرض الذي يؤثر على الجلد أولاً، حيث تحدث بقع، ثم بثور مملوءة بالسوائل. وهذه البثور هي التي تؤدي إلى التندب المروّع المرتبط بالجدري. وفي وقت لاحق، يمكن للعدوى أن تتقدم إلى العظام، مما يسبب التهاب العظم والنقي، على الرغم من أن ذلك لا يحدث إلا في نسبة صغيرة جداً من الحالات.

ويعدّ التهاب العظم والنقي هو فئة واسعة جداً من الأمراض. إذ يستخدم المصطلح لوصف أي عدوى تصيب العظام بحدّ ذاتها. وهو إحدى العلامات التي يمكن الوصول إليها بواسطة علماء الآثار البيولوجية الذين يعملون على عظام الإصابات المحتملة بعدوى الجدري. وعندما تصاب العظام بالعدوى، يحدث فيها استجابة التهابية مثل غيرها من أنسجة الجسم، والتي تقابلها بدورها عملية ترميم تؤدي إلى تغييرات مميزة في شكل العظام. وقد تكون العدوى بسيطة الظهور كتغيرات عظمية ارتكاسية على السطوح الداخلية أو الخارجية للعظام. ويمكن أن تؤدي إلى تشكّل خراج - وهو آفة مليئة بالقيح - والذي قد يفرض تشكيل قناة من خلال العظام، حتى يتمكن القيح من الخروج. والمصطلح السريري لهذه القناة هو "مذرق cloaca"، وهو المصطلح اللاتيني لمجرى التصريف، ويكون كل جزء فيه مثيراً للاشمئزاز بنفس الدرجة التي تتصور أن تكون عليها المجاري الرومانية. ويمكن للعظام الجديدة المتشكلة على السطح كاستجابة للعدوى أن تغير عرض أو ثخانة العظام، ولذلك عند مقارنتها مع نسبة مقابلة في جزء آخر من الجسم، يكون الشكل متغيراً جداً.

وبالطبع فإن معظم حالات التهاب العظم والنقي لا تنجم عن الجدري وإنما عن مجموعة من العوامل المُعدية المنقولة عن طريق الدم، وتكون نحو 90 في المائة من الإصابات الحديثة ناجمة عن بكتيريا المكورات العنقودية الذهبية.

وعلى الرغم من أن الجدري نادراً ما يترك علامات تدل على العدوى العظمية، إلا أن علم الآثار البيولوجية كان لديه وسيلة أخرى للكشف عن المرض في العصور القديمة، وذلك من خلال المومياوات. ففي عام 1979، تم منح الطبيب دونالد هوبكنز إذناً خاصاً لفحص النصف العلوي من الجسم غير المغطى للفرعون المصري رمسيس الخامس، والذي توفي عام 1143 قبل الميلاد. وقد أظهر جلد المومياء دليلاً على وجود طفح جلدي بثري، يشبه الجدري بشكل كبير، وبعد ذلك أصبح رمسيس الخامس مشهوراً، وذلك ليس بسبب إجرائه لمسح ضريبي متكامل وواسع النطاق في عهده المحدود، ولكن لكونه أول دليل أثري على الجدري.

المحتوى محمي