استغرق الأمر 181 عاماً فقط للقضاء على مرض الجدري بعد إيجاد طريقة للتلقيح ضده. كان ذلك المركّب هو أول لقاح ناجح، وأساساً لمعظم اللقاحات في المستقبل، ولكننا ما زلنا غير متأكدين مما كان يحتويه.
تتواتر قصة حول إدوارد جينر، مخترع اللقاح، وهي التي يعرفها معظم الطلاب في فصول علم الأحياء في المدرسة الثانوية، وهي صحيحة في معظمها، حيث تسير الأحداث كالتالي:
نشأ إدوارد جينر وسط مزارع البقر الإنجليزية خلال القرن الثامن عشر، حيث لاحظ أن الفتيات اللواتي يعملن في حلب الأبقار لا يصبن بالجدري أو يتعرضن للموت بسببه، واعتبر ذلك أمراً غريباً في عالم تقوم فيه الأمراض المعدية بقتل جزء كبير من السكان بشكل منتظم. ومضت الأيام وأصبح جينر طبيباً حسبما كانت تجري الأمور تلك الأيام، بمعنى أنه تتلمذ مع صيدلاني وطبيب جراح (والذي من الواضح أنه كان يكفي للترخيص)، وعاد إلى مسقط رأسه، حيث لاحظ الآخرون أيضا ظاهرة العاملات في حلب الأبقار.
ولاختبار فرضيته من أجل دراسة تلك الظاهرة، أخذ قيحاً من آفات جدري الأبقار المريضة ونقله إلى ابن البستاني البالغ من العمر ثماني سنوات. كان الوضع مختلفاً في ذلك الوقت، ولكن من الصعب أن نتصور بأن البستاني كان موافقاً تماماً على هذا الأمر، لكن بغض النظر عن ذلك، انتظر جينر ستة أسابيع ثم حاول إصابة الطفل بمرض الجدري. ومرة أخرى، نعود لنذكّر بشكل سريع بأنه كان يحاول إصابة الطفل بمرض مميت عمداً.
ملاحظة جانبية: تاريخ الطب مليء بالتجارب المشبوهة أخلاقياً، وكثير منها أجريت على المحرومين من الحقوق وتم تنفيذها في الواقع من قبل الرجال البيض الأغنياء الأقوياء، والتي نختار تجاهلها لأن المجتمع ككل لاحظ فائدتها. وقد يكون هناك بعض العزاء في هذه الحالة بالذات، حيث سار كل شيء على ما يرام: فالصبي الصغير لم يصب بالمرض، لأن جسده اكتسب مناعة تجاه فيروس الجدري. هكذا نشأ اللقاح، وإن كان مليئاً بالقيح بشكل أكثر بكثير من الحقن الموجودة اليوم.
إنها قصة جميلة، حصلنا منها على اسم "لقاح" من الطريقة المعتمدة على البقر والتي استخدمها جينر، لكنها غير دقيقة قليلاً بخصوص أحد التفاصيل الحاسمة: فالفيروس ربما لم يأت من البقر. إذ قام جينر بجمع القيح من إحدى الأبقار، ولذلك قد يبدو من السليم افتراض أن فيروس جدري البقر هو الذي وفر المناعة الأولية للجدري. ولكن مع التقنيات الحديثة في تسلسل الجينوم والوصول إلى بعض اللقاحات الأولى، يمكننا القول بأن الفيروس داخلها لا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بجدري البقر، بل هو أقرب بكثير من جدري الحصان.
هذه الفرضية كانت تتناقل في المجتمع العلمي مؤخراً، ثم وجدت دليلاً داعماً لها بعد أن نشر تسلسل جينومي للفيروس. حيث أظهر التسلسل أن لقاح عام 1902 كان يحتوي على فيروس مشابه بنسبة 99.7 في المئة لجدري الحصان الحديث، ونشر علماء الفيروسات النتائج التي توصلوا إليها في دورية نيو إنجلاند الطبية يوم الأربعاء الماضي.
في الواقع فإن هذا كله يتماشى مع ما اعتقده جينر نفسه، إذ أشار إلى أنه يعتقد بأن أفضل قيح لتلقيح الناس به جاء أصلاً من الخيول، والتي نقلت الإصابة إلى الأبقار، والتي بدورها يمكن أن تستخدم على الناس، حتى أنه أخذ عينات مباشرة من قروح جدري الحصان في حالات متعددة.
ويرجع معظم الالتباس هنا إلى حقيقة أن الفيروس الموجود داخل لقاحات الجدري غير موجود في الطبيعة. إذ يبدو بأن فيروس جدري البقر موجود فقط في المختبرات، وليس في أي كائن بيولوجي مضيف، فهو ليس جدري الحصان تماماً، ولكنه ليس جدري البقر بالتأكيد، كما أنه أيضاً ليس فيروس الجدري الذي يسبب الإصابة عند البشر. فجدري البقر يشبه جدري الإنسان بما يكفي لتوفير المناعة دون قتل المريض، لكن لا تحتوي كل اللقاحات على نفس السلالة من جدري البقر.
وقد صُنعت اللقاحات الحديثة بعناية لتكون متطابقة قدر الإمكان. مرة أخرى في عهد جينر، وبعده بسنوات عديدة، كان يتم نقل الفيروسات المستخدمة من كائن مضيف إلى آخر وتستخدم لإنتاج اللقاحات في نقاط مختلفة، وقد خلقت هذه الرحلة ظروفاً ممتازة للانتقاء التطوري، وبالتالي تغير فيروس جدري البقر كثيراً، وانتهى الأمر بمواجهة الأطباء للعديد من السلالات المختلفة.
ولذلك، فنحن نعلم بأن لقاح مولفورد في عام 1902 جاء من جدري الحصان، ولكننا لا نعرف بالضبط من أي مكان في العالم جاءت تلك العينة، أو عدد اللقاحات الأخرى التي نشأت من الخيول، وسيساعد إجراء المزيد من التسلسل على ملء بعض الثغرات في المعرفة، ولكن بدون وجود عينات من اللقاحات الأولى، فإن بعض أجزاء هذه القصة قد تضيع في كتب التاريخ بجوانبها الأخلاقية الملتبسة.