ربما نجح الفيزيائيون أخيراً في توليد أصغر العواصف الكمومية حتى الآن، وذلك في بعض الظروف المادية الأكثر تطرفاً.
هذه «الأعاصير الكمومية»، والتي ولّدها باحثو الكم من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وهارفارد، هي أحدث مظاهر ميكانيكا الكم، الشيفرة الغريبة للقوانين التي تحكم الكون في أدق أبعاده دون الذرية. وتتكون من سحب صغيرة من ذرات الصوديوم تدور في درجات حرارة لا تزيد سوى بجزءٍ صغير للغاية من الدرجة فوق الصفر المطلق.
كيف تم تجميد الذرات للحصول على هذه الأعاصير الكمومية؟
هناك طريقة راسخة لتجميد الذرات في درجات الحرارة شديدة البرودة، وتبدأ بحجز الذرات، والتي غالباً ما تكون معادن قلوية، في قفص مغناطيسي، ثم تسليط ليزر عليها. قد يبدو من الغريب استخدام الليزر كطريقة للتبريد، لكن الليزر ينتج شعاعاً بطول موجي واحد فقط من الضوء (في هذه الحالة، الأصفر، لمطابقة لون بخار الصوديوم). وعندما يتم ضبطه بدقة، يمكنه إبطاء الذرات إلى النقطة التي لا تعود قادرةً عندها على إنتاج الحرارة.
ما قد يتبقى في النهاية هو تكاثف بوز- آينشتاين، وهو حالةٌ غامضة من المادة حيث تعمل الذرات المتعددة كوحدة واحدة وتتصرف بجميع أنواع الطرق الكمومية الممكنة التي لا يمكن تصورها.
قد تبدو مكثفات بوز-آينشتاين غريبة، وهي كذلك بالفعل. لكن الفيزيائيين قد اعتادوا على التعامل مع هذا النوع من الغرابة. كان العلماء قد تنبأوا بوجود حالة المادة هذه منذ عشرينيات القرن الماضي، ونجحوا في إثباتها مخبرياً عام 1995، وقد نال مكتشفوها جائزة نوبل في الفيزياء عام 2001.
منذ ذلك الحين، حاول الفيزيائيون دفع مكثفات بوز-آينشتاين إلى حدودٍ جديدة (أو مستوياتٍ منخفضة كما كانت). حيث أراد العلماء لبعض الوقت معرفة ما إذا بمقدورهم تجميد الذرات في هذه الحالة من المادة هذه لحثها على الدوران.
اقرأ أيضاً: ما هو التشابك الكمومي؟ ولماذا يريد الفيزيائيون استخدامه؟
تكاثف بوز- آينشتاين
كان الباحثون مهتمون بفعل ذلك لأن المادة أظهرت سلوكاً يشبه سلوك شيءٍ يُسمى «موائع هول الكمية». باختصار، في ظل ظروف كمومية معينة وفي مجال مغناطيسي، فإن سحابة من الإلكترونات التي عادةً ما تدفع بعضها بعضاً، ستبدأ بدلاً من ذلك في محاكاة خصائص بعضها البعض. من شأن ذلك أن يدفعها لسلوك سلوك جزيئات الماء إلى حد ما في السائل والتدفق بحرية.
من الصعب رصد الإلكترونات، لكن الفيزيائيين يعتقدون أن تدوير مكثف بوز-آينشتاين في دوامة يمكن أن يجعل الذرات تتصرف بنفس الطريقة. وذلك أمر مثير للاهتمام حقاً، لأن الذرات أكبر بكثير من الإلكترونات.
لم تكن المجموعة البحثية الأخيرة الوحيدة التي حاولت إنشاء دوامةٍ كمومية. لقد أصبح التحدي الآن هو جعل الذرات تدور دون انهيار مكثف بوز-آينشتاين. يقول بيتر شاوس، الفيزيائي في جامعة فيرجينيا، والذي لم يشارك في التجربة الأخيرة: «من الصعب بعض الشيء التحكم في هذا الدوران. إنشاء دوامة أمر سهل نوعاً ما، لكن من الصعب جعلها تدور بطريقةٍ لا تؤدي إلى تسخنها».
قامت مجموعة هارفارد- إم آي تي بمحاولتها من خلال تجميع مليون ذرة صوديوم، وتبريدها إلى 100 جزء من المليار من الكلفن فوق الصفر المطلق، ووضعها داخل حقلٍ مغناطيسي كهربائي قوي. ثم قاموا بتدوير المكثّف حولها على أمل رؤية سائلٍ مائع كمي في حالة الحركة.
نجحت التجربة إلى حد ما. شكلت الذرات بنية رقيقة تشبه الإبرة لها خصائص السائل الذي كانوا يتوقعونه. نشر الباحثون نتائجهم في دورية «ساينس» في يونيو/حزيران عام 2021.
لكنهم كانوا يعلمون أن بإمكانهم الذهاب إلى أبعد من ذلك، فقرروا الاستمرار في تدوير تلك الإبرة لمعرفة ما حدث، إلى أن لاحظوا شيئاً غير عادي؛ حيث بدأت الإبرة في التموج. في البداية، بدأت تلتف بشكلٍ حلزوني. بعد ذلك، تحطمت الضفائر، محطمة الإبرة إلى القليل من النقط الكمية الصغيرة، حيث بدأت كل منها في الدوران. ومن هنا جاءت الأعاصير الكمومية.
يقارن الباحثون هذا بنظرية الفوضى (فوضى الكون). إن إنشاء هذه الأعاصير يشبه المثال الشهير لخفقان أجنحة الفراشة والتسبب في عاصفة على الجانب الآخر من الكوكب، إلا أن العملية تحدث على نطاق كمومي. نشر الباحثون وصفهم لهذه الدوامات في دورية «نيتشر» في وقت سابق من هذا الشهر.
ماذا يمكن أن يحدث بعد ذلك؟ كما قد يتخيل المرء، فإن جعل الذرات تتعاون على هذا المستوى ليس بالأمر السهل. يقول شاوس: «لا يزال هناك عمل قيد التقدم للحصول على ليزر أكثر استقراراً من أجل إجراء هذه التجارب بكفاءة أكبر. يتوقف إجراء الكثير من هذه التجارب على هذا الأمر في الواقع».
اقرأ أيضاً: مفارقة كمومية جديدة تلقي بظلال الشك على أسس الواقع المرصود
هناك تحدّ آخر؛ امتلكت أصغر هذه الأعاصير الكمية عشر ذراتٍ فقط. لكن بعض الفيزيائيين يعتقدون أنه من الممكن الذهاب إلى أبعد من ذلك وإنشاء مكثف بوز-آينشتاين باستخدام ذرةٍ واحدة فقط. من شأن ذلك أن يساعد الفيزيائيين حقاً على مشاهدة المعادلات الغامضة لميكانيكا الكم تعبر عن نفسها في العالم الحقيقي (باستخدام كاميراتٍ متطورة للغاية بالطبع).
مع استمرار العلماء في تحسين طريقتهم في صنع هذه الدوامات وأشكال أخرى من المواد شديدة البرودة، يمكن استخدام إبداعاتهم في تقنيات مثل أجهزة الاستشعار. لقد تم تمويل بحث هارفارد- إم آي تي من قِبل وكالة مشاريع البحوث المتطورة الدفاعية (داربا)، والتي تريد استخدام مكثّفات الغزل لاستكشاف الحركات الدقيقة تحت الماء، ولكن حتى الآن، لم تكن الدقة جزءاً من المعادلة.