عندما تدور الذرات والجسيمات دون الذرية وتصطدم ببعضها بعضاً داخل الدوامة المغناطيسية في مصادم الهدرونات الكبير (LHC)، والذي بنته المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية «سيرن» (CERN)، تقوم المستشعرات التي تراقب تصادماتها والطاقة العالية التي تولدها هذه التصادمات، بتوليد بياناتٍ حول ما يحدث، كمياتٍ هائلةٍ من البيانات في الواقع.
بيانات عشوائية يمكن الاستفادة منها
معظم هذه البيانات عشوائية ولا فائدة منها، ويتم استبعادها تلقائياً. وفقاً لتقديرات المنظمة الأوروبية، ينتج تشغيل المصادم كل عامٍ 90 بيتابايت من البيانات المحفوظة، وهو ما يكفي لملء 90 ألف محرك أقراص نموذجي سعة الواحد منها 1 تيرابايت. وعلى غرار أوبرا الفضاء (نوع فرعي من الخيال العلمي يركز على حرب الفضاء والمغامرة الميلودرامية التي تقع أحداثها بشكل رئيسي أو كامل في الفضاء الخارجي) التي سادت في الستينيات، تخزن المنظمة الكثير من هذه البيانات على وسائط تخزينٍ ضخمة من الأشرطة المغناطيسية في غرفةٍ فاخرة بالقرب من الحدود الفرنسية السويسرية. نظراً لضخامة حجم هذه البيانات، من الصعب على أيّ كان تصفيتها وتحليلها بسهولة.
ربما لن يكون من المستغرب أن تحتوي هذه البيانات المدفونة عميقاً في بنوك التخزين هذه كنوزاً مخبأةً من المعلومات المهمة جداً بانتظار من يكتشفها، وقد اكتشف علماء فيزياء الجسيمات بالفعل أحد هذه الكنوز مؤخراً، عبارة عن جسيمٍ غريب وله اسم غريب، وهو «جسيم إكس» (3872). إذا كانوا على حق، يمكن أن يسمح لنا هذا الجسيم بإلقاء نظرةٍ على اللحظات الأولى لنشوء الكون، وتحديداً كيف بدا الكون في أول جزء من المليون من الثانية بعد الانفجار العظيم. نشر الباحثون النتائج التي توصلوا إليها في دورية «فيزيكال ريفيو ليترز» في 19 يناير/كانون الثاني 2022.
اقرأ أيضاً: انظر إلى السماء: إنه انفجار نووي!
جسيم إكس 3872
لم يحصل الباحثون إلا على معلوماتٍ قليلة جداً حول طبيعة هذا الجسيم. يقول ين لي جي، عالم فيزياء الجسيمات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وأحد الباحثين: «لم تتفق التوقعات النظرية من مجموعات مختلفة مع بعضها بعضاً بشأن هذا الجسيم».
يبدو إكس (3872) اسماً لجسيم يُفترض وجوده، وقد كانت مشاهداته السابقة خاطفةً بالفعل. حدثت أول مشاهدةٍ له عام 2003، عندما لمح العلماء في تجربة «بيل»، وهو مسرّع الجسيمات الموجود في مدينة تسوكوبا شمال طوكيو في اليابان، جسيم إكس (3872) أثناء مصادمة الإلكترونات معاً. لسوء الحظ، تلاشى إكس (3872) واختفى بسرعة كبيرة لدرجة تعذر معها على العلماء معرفة الكثير عنه.
لكن العلماء يعتقدون أن بمقدورهم العثور على جسيم إكس (3872) في شيء يسمى بلازما «كوارك-غلوون». تحتوي نوى الذرات على كتل من البروتونات والنيوترونات، ولكن هذه الجسيمات الدقيقة تتكون في الواقع من جسيمات أصغر حجماً تسمى الكواركات. لتكوين جسيمات أكبر، ترتبط الكواركات ببعضها بعضاً بواسطة «الغلوونات»، وهي جسيمات أصغر حجماً بكثير، وتعمل كحاملات للقوى النووية الصغيرة.
في درجات الحرارة العالية جداً، لنقل تريليونات الدرجات، تتفكك البروتونات والنيوترونات والجسيمات الأخرى المماثلة لها وتذوب في ملاطٍ عالي الطاقة من الكواركات والغلونات يُدعى بلازما كوارك-غلوون.
لم يتمكن الفيزيائيون من إنشاء هذه البلازما حتى القرن الحادي والعشرين، وإحدى الطرق التي نجحت بذلك كانت تصادم الأيونات الثقيلة، والتي تنطوي على تحطيم النوى الذرية عند اصطدامها ببعضها بعضاً بسرعاتٍ عالية جداً. لحسن الحظ، قامت التجارب في مصادم الهدرونات الكبير بمصادمة ذرات الرصاص الثقيلة معاً وتحطيمها، تاركة وراءها كمياتٍ هائلة من البيانات في بلازما الكوارك-غلوون للباحثين لتحليلها.
لكن الأمر ليس بهذه البساطة. يقول لي: «لم يحاول أحد اكتشاف جسيم إكس (3872) في تجارب تصادم الأيونات الثقيلة من قبل، لأنها مهمة صعبة للغاية».
اقرأ أيضاً: السنوات الضوئية ووحدات القياس في الفضاء
أهمية مصادم الهدرونات الكبير في مثل هذه التجارب
عادةً ما يقوم مصادم الهدرونات الكبير بتحفيز اصطدام جزيئاتٍ أصغر كالبروتونات، ولكن الجسيمات الأكبر، مثل النوى الذرية، تخلف وراءها حطاماً أكثر بكثير. يقول جينج وانج، باحث ما بعد الدكتوراه في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وأحد الباحثين: «ينتج تصادم بروتون بآخر بضع عشرات من الجسيمات في كل اصطدام، بينما تنتج تصادمات الأيونات الثقيلة عادةً عدة آلاف أو حتى 10 آلاف جسيم في كل تصادم».
في الحقيقة، العثور على جسيم إكس (3872) بين كومة بيانات مصادم الهدرونات الضخمة هذه أشبه بمحاولة العثور على إبرةٍ في كومة قش، لذلك ابتكر وانج وزملاؤه طريقة لتحليل البيانات تعتمد على التعلم الآلي، حيث قاموا بتدريب خوارزمية للعثور على آثار أو بصمة جسيم إكس (3872)، لأنه يتحلل إلى جسيماتٍ أخرى. وبعد إجراء بعض التعديلات الدقيقة، عثرت الخوارزمية على جسيمٍ له كتلة جسيم إكس (3872) عشرات المرات.
تعطينا النتائج لمحةً أوضح عن اللحظات الأولى لنشوء الكون. لقد ملأت بلازما الكوارك-غلوون الكون في أول جزء من المليون من الثانية من حياته، أي قبل أن يتشكل ما يُعرف بالمادة- الجزيئات أو الذرات أو حتى البروتونات والنيوترونات. ويقول لي إنه يمكن في المستقبل استخدام الكواركات والغلونات في البلازما لتفكيك الجسيمات ومعرفة ما يكمن بداخلها.
يعتقد بعض الفيزيائيين أن إكس (3782) يمكن أن يكون جسيماُ بأربعة كواركات، أو بتعبيرٍ آخر تيتراكوارك. في الواقع، تتكون الجسيمات دون الذرية التي نعرفها، أي البروتونات والنيوترونات النموذجية، من ثلاثة كواركات. أما الجسيمات رباعية الكواركات فهي غريبة، وعادةً ما تحتاج إلى كمياتٍ كبيرة من الطاقة كي تبقى مستقرة. لقد اكتشف الفيزيائيون خلال العقد الماضي العديد من الأمثلة الأخرى على الجسيمات رباعية الكواركات في تجارب مسرع الجسيمات التي أجروها.
الاحتمال الآخر هو أن إكس (3782) مكون من الميزونات في الواقع. إنها نوع آخر من الجسيمات دون الذرية وتتكون من جسيمين: الكوارك والكوارك المضاد، إنها نظير المادة المضادة للكوارك. يمكن أن تظهر الميزونات أحياناً بشكل عابر على الأرض، عندما تصطدم الأشعة الكونية عالية الطاقة بمادة نموذجية. لكن لم يرَ أحد قط جسيماً أكبر حجماً مكوناً من عدة ميزونات.
هذا أمر مثير كما يقول لي، لأنه إذا كان جسيم إكس (3872) مكونٌ من الميزونات، فهذا دليل على أن الكون كان مليئاً بمثل هذه الجسيمات الغريبة.
ولكن كي يعرف العلماء المزيد عن هذا الجسيم، عليهم انتظار المزيد من البيانات. تجري حالياً عملية صيانة وترقية على مصادم الهدرونات الكبير تستمر لثلاث سنوات، وتدعى فترة الصيانة هذه «الإغلاق الطويل 2»، وقد تم تأجيل إعادة تشغيله عدة مرات بسبب جائحة كوفيد-19 (قد تجري إعادة تشغيله الشهر القادم). سيكون هناك المزيد من تجارب الاصطدام، والمزيد من بلازما الكوارك-غلون، وبالتالي المزيد من البيانات التي تحتاج إلى الغربلة.
يقول لي: «سيكون من المثير متابعة هذا النوع من الدراسة مع كميةٍ أكبر من البيانات».