هل يوجد تعريف دقيق للمادة؟ إليك إجابة الخبراء

ما المادة؟ الجواب أعقد مما تعتقد
تتألف الذرة من بروتونات ونيوترونات وإلكترونات ونواة. ولكن للمادة أنوع عديدة مختلفة. ديبوزيت فوتوز
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تمثّل المادة التي نعرفها أقل من ثلث ما في الكون، نحو 31% منه على وجه الدقة. يؤكد حساب جديد هذا الرقم، واعتقد علماء الفيزياء الفلكية منذ زمن طويل بوجود شيء ما مختلف عن المادة الملموسة يشكّل غالبية واقعنا. إذاً فالسؤال هو ما المادة بالضبط؟

إحدى السمات المميزة لنظرية النسبيّة الخاصة التي توصّل إليها ألبرت أينشتاين هي أن الكتلة والطاقة وجهان لعملة واحدة. تتمتّع الكتل جميعها بطاقة جوهرية، وهذه هي النتيجة المهمة التي تُستخلص من معادلة أينشتاين الشهيرة التي تنص على أن الطاقة تساوي الكتلة مضروبة بمربّع سرعة الضوء (E=mc2). عندما يحسب علماء الكون وزن الكون، فإنهم يقيسون الكتلة والطاقة في وقت واحد. وتمثّل المادة نسبة 31% من هذه الكمية، سواء كانت مادة مرئية أو غير مرئية.

الفرق بين المادة المرئية وغير المرئية مهم جداً؛ إذ إن المادة لها أنواع. في الواقع، تمثّل المادة التي نستطيع رؤيتها ولمسها نسبة قليلة جداً من النسبة الأخيرة. والكون مليء بالأمثلة على أنواع المادة الأكثر غرابة.

اقرأ أيضاً: قد تصبح واحدةً من حالات المادة: ما هي بلورات الزمن؟

ما المادة؟

عندما نفكّر في المادة، قد نتصور الأشياء التي نراها، أو وحدات بنائها الأساسية، وهي الذرات.

تطوَّر مفهوم البشر للذرة على مر السنين. توصّل المفكرون عبر التاريخ إلى أفكار مبهمة تنص على إمكانية تقسيم الوجود إلى مكونات أساسية. لكن تُنسب عموماً الفكرة التي تشبه مفهومنا الحديث عن الذرة إلى الكيميائي البريطاني جون دالتون. اقترح دالتون في عام 1808 أن الجسيمات غير القابلة للتجزئة هي اللبنات الأساسية للمادة. تنشأ المواد الأساسية المختلفة، وهي العناصر، من ذرات ذات أحجام وكتل وخصائص مختلفة.

اقترح دالتون، الذي كان مدرّساً في جمعية الأصدقاء الدينية، أن كل عنصر يتألف من ذرات مميزة، وأن نسبة وزن الذرات في العناصر الناتجة عن تجمّع الذرات هي نفسها نسبة وزن المواد المتفاعلة. شراكة مدارس ساذك للتعليم/غيتي إميدجيز
اقترح دالتون، الذي كان مدرّساً في جمعية الأصدقاء الدينية، أن كل عنصر يتألف من ذرات مميزة، وأن نسبة وزن الذرات في العناصر الناتجة عن تجمّع الذرات هي نفسها نسبة وزن المواد المتفاعلة. شراكة مدارس ساذك للتعليم/غيتي إميدجيز

احتوى مخطط دالتون على 20 عنصراً. ويؤدي مزج هذه العناصر إلى تكوين مركّبات كيميائية أكثر تعقيداً. أدرج عالم الكيمياء ديمتري مندلييف 63 عنصراً في النسخة البدائية من الجدول الدوري التي ابتكرها في عام 1869. واليوم، يحتوي الجدول الدوري على 118 عنصراً.

ولكن الموضوع ليس بهذه البساطة. اكتشف الفيزيائيون منذ أوائل القرن العشرين أن وحدات البناء الأصغر توجد داخل الذرات، وهي الإلكترونات الدوامة السالبة الشحنة والنوى التي تحيط بها هذه الإلكترونات، التي تتألّف من بروتونات موجبة الشحنة ونيوترونات معتدلة. نعلم الآن أيضاً أن ذرات كل عنصر تحتوي على عدد معين من البروتونات.

ولكن مجدداً، الموضوع ليس بهذه البساطة؛ إذ اكتشف الفيزيائيون بحلول منتصف القرن العشرين أن البروتونات والنيوترونات تتألف في الواقع من جسيمات أصغر حجماً تحمل اسم الكواركات. ولنكن دقيقين أكثر، تتألف البروتونات والنيوترونات من 3 كواركات، ويسمّي الفيزيائيون هذه التشكيلة من الجسيمات الباريونات. لهذا السبب، تسمّى البروتونات والنيوترونات والمادة التي تتألف منها “المادة الباريونية” غالباً، وهي المادة التي نتفاعل معها في حياتنا اليومية.

مادة غريبة في السماء

توجد المادة الباريونية عادة في واحدة من 4 حالات في العالم الذي نختبره في حياتنا اليومية، الحالة الصلبة والحالة السائلة والحالة الغازية وحالة البلازما.

مع ذلك، لا تقتصر المادة على هذه الحالات البسيطة؛ إذ إنها يمكن أن تأخذ أشكالاً متعددة جداً وأغرب ضمن الظروف المتطرفة. يمكن أن تتحول المواد عند ضغوط عالية بدرجة كافية إلى ما يدعى بالموائع فوق الحرجة، وهي مواد سائلة وغازية في الوقت نفسه. ويمكن أن تتجمّع عدة ذرات معاً لتكوين ما يدعى بتكاثف بوز-أينشتاين في ظروف درجة الحرارة المنخفضة بما يكفي. تتصرّف هذه الذرات على أنها مادة واحدة، وتتبع مختلف السلوكيات الكمومية الغريبة.

اقرأ أيضاً: ما هي الجسيمات دون الذرية؟

لا تقتصر مثل هذه الحالات الغريبة على المواد في المختبر. ما عليك سوى أخذ النجوم النيوترونية في الاعتبار؛ إذ لا تتمتّع بواطنها الحية الميّتة بالحجم الكافي لتنهار مشكلة الثقوب السوداء بعد التحوّل إلى مستعرات أعظمية. وبدلاً من ذلك، تمزّق القوى الشديدة نوياتها الذرية وتسحق الجسيمات الناتجة معاً عندما تنهار البواطن. النتيجة في الأساس هي كرة عملاقة بالغة الكثافة من النيوترونات، والبروتونات التي تمتص الإلكترونات وتتحول إلى نيوترونات بالنتيجة. يبلغ وزن ملعقة صغيرة واحدة من مواد النجم النيوتروني مليار طن.

يصوّر هذا الرسم المتحرك نجماً نيوترونياً (آر إكس جيه0806.4-4123، RX J0806.4-4123) مع قرص من الغبار الدافئ الذي يصدر إشارة من الأشعة تحت الحمراء، كما رصده تلسكوب هابل الفضائي التابع لوكالة ناسا.
لم يُصوَّر القرص مباشرة، ولكن تتمثّل إحدى طرق تفسير البيانات المرصودة في افتراض وجود بنية قرصية يمكن أن يصل عرضها إلى 28.9 مليار كيلومتر. وكالة ناسا، وكالة الفضاء الأوروبية ونوكس تورينو (جامعة ولاية بنسلفانيا)

من المحتمل أن مجرة درب التبانة وحدها تحتوي على مئات الملايين من النجوم النيوترونية. يعتقد بعض العلماء أن الضغوط ودرجات الحرارة في مراكز النيوترونات مرتفعة بما يكفي لتمزّقها أيضاً. قد تتفكك هذه النيوترونات مشكّلة الكواركات.

يدرس الفيزيائيون النجوم النيوترونية للتعلّم عن هذه الجسيمات، وما حدث في بداية الكون. المادة التي نراها حولنا لم تكن موجودة دائماً؛ إذ إنها تشكلت في أعقاب الانفجار العظيم. كانت البروتونات والنيوترونات تعوم وحدها عبر الكون قبل تشكّل الذرات. وحتّى قبل ذلك، أي قبل تشكّل البروتونات والنيوترونات، كان الكون عبارة عن مزيج كواركيّ شديد السخونة.

يستطيع العلماء إعادة إنشاء هذه الحالة، أو أحد أنواعها، في مسرعات الجسيمات. ولكنها تختفي خلال زمن بالغ القصر يساوي جزءاً واحداً من الثانية. لا تُقارن هذه الحالة بحالة النجوم النيوترونية الطويلة الأمد، ويقول عالم الفيزياء في جامعة سان دييغو الحكومية، فريدولن ويبر: “هذه النجوم هي مختبرات طبيعية أبدية”.

المادة في الكون الشاسع المنظّم

طوّر علماء الفلك عدة طرق لفهم المعالم الأساسية للكون على مدى العقود العديدة الماضية. يستطيع هؤلاء رصد بنية الكون على المقاييس الكبيرة وتحديد التقلّبات الدقيقة في كثافة المادة التي يمكنهم رؤيتها. ويستطيعون أيضاً رؤية الضوء العابر وهو ينحني بفعل جاذبية الأجسام.

إحدى الطرق الدقيقة لقياس كثافة المادة؛ أي كمية المادة المرئية وغير المرئية في الكون، هي دراسة تفاصيل إشعاع الخلفية الكونية الميكروي الناجم عن الانفجار العظيم. سبر مرصد بلانك التابع لوكالة الفضاء الأوروبية هذا الإشعاع من عام 2009 إلى عام 2013، ما أسفر عن أدق حساب توصّل إليه العلماء لكثافة المادة في الكون حتى الآن، وهو 31%.

استخدم البحث الأحدث تقنية مختلفة تحمل اسم علاقة الكتلة والثراء، التي تنطوي على رصد العناقيد المجرية وحساب عدد المجرات في كل عنقود واستخدام هذه المعلومات لحساب كتلة كل عنقود ثم حساب كثافة المادة. هذه التقنية ليست جديدة، ولكنها كانت غير دقيقة من قبل.

يقول عالم الفيزياء الفلكية في جامعة كاليفورنيا في مدينة ريفرسايد وأحد مؤلفي الدراسة المنشورة في مجلة أستروفيزيكال جورنال (The Astrophysical Journal) بتاريخ 13 سبتمبر/أيلول 2023، جيليان ويلسون: “عندما أنهينا عملنا، كانت تلك أول مرة (على حد علمي) تُستخدم فيها علاقة الكتلة والثراء للتوصّل إلى نتيجة متوافقة جداً مع أرصاد مرصد بلانك”.

اقرأ أيضاً: تعرّف إلى مكونات الطيف الكهرومغناطيسي

ولكن تذكّر، الموضوع ليس بهذه البساطة. لا يمكننا رؤية سوى جزء صغير من الكون يُعتقد أنه يمثّل نحو 15% من المادة، أو 3% من الكون. ويعتقد العلماء أن ما تبقّى هو المادة المظلمة. نستطيع رصد الآثار التي تحدثها المادة المظلمة في الجاذبية. ولكننا لا نستطيع رصد هذه المادة مباشرة.

تستطيع المضاعِفات الضوئية المملوءة بالزينون البالغ عددها 494 الموجودة في جهاز رصد المادة المظلمة إل يو إكس-زيبلن (LUX-ZEPLIN) أن تستشعر الفوتونات الإفرادية الآتية من الفضاء السحيق. تجربة إل يو إكس-زيبلن
تستطيع المضاعِفات الضوئية المملوءة بالزينون البالغ عددها 494 الموجودة في جهاز رصد المادة المظلمة إل يو إكس-زيبلن (LUX-ZEPLIN) أن تستشعر الفوتونات الإفرادية الآتية من الفضاء السحيق. تجربة إل يو إكس-زيبلن

بالنتيجة، نحن لا نعرف بالضبط ما المادة المظلمة. يعتقد بعض العلماء أنها مادة باريونية، ولكنها من نوع لا يمكننا رؤيته بسهولة. قد تكون هذه المادة هي ثقوب سوداء تشكّلت في بداية الكون. يعتقد آخرون أنها تتألف من جسيمات بالكاد تتفاعل مع المادة المألوفة. ويعتقد بعض العلماء أنها مزيج من الاثنتين. يعتقد بعض العلماء على الأقل أن المادة المظلمة غير موجودة على الإطلاق.

اقرأ أيضاً: «التتراكواركات»: علماء يرصدون نوعاً جديداً من الجسيمات

إذا كانت موجودة، فقد نتمكن من رؤيتها باستخدام جيل جديد من التلسكوبات، مثل تلسكوب إي روزيتا (eROSITA)، ومرصد روبن وتلسكوب نانسي غريس الروماني الفضائي وتلسكوب إقليدس، وهي تلسكوبات تستطيع رصد مناطق أوسع من الكون ورؤية مجموعة واسعة من المجرات التي تقع في أزمنة مختلفة من تاريخ الكون. يقول عالم الفيزياء الفلكية في جامعة كاليفورنيا في مدينة ريفرسايد وأحد مؤلفي الدراسة السابقة الذكر، محمد الحشاش: “قد تغيّر المسوحات التي ستجريها هذه التلسكوبات الجديدة فهمنا للكون بأكمله [وللمادة] فيه. وهذا ما أتوقعه شخصياً”.