أظهرت دراسةٍ جديدةٍ أجراها باحثون ضمن إطار تعاون مشترك بين وكالة الفضاء الأوروبية ووكالة الفضاء الروسية، كيف تتغير أدمغة رواد الفضاء بعد العودة من رحلاتهم الفضائية. ركزت الدراسة على الطريقة التي يتكيف بها الدماغ مع التغيرات التي تحدث في الفضاء، ووجد الباحثون أن الخلايا العصبية الدماغية تُعيد توصيل ذاتها بشكل كامل تقريباً، كما وجدوا حدوث تغيرات بكل من شكل الدماغ وسوائله بعد العودة من الفضاء. وقد بيّن العالم "فلويس ويتس"، بروفيسور في جامعة أنتويرب البلجيكية وقائد هذه الدراسة، في بيان له أن: "تأثير الفضاء على أدمغة الرواد لم يقتصر على وجودهم في الفضاء، حيث استمرت التغيرات التي وجدناها لأشهر بعد عودة الشخص إلى الأرض".
اقرأ أيضاً: ماذا سيتعلم رواد الفضاء من السبات الشتوي عند السناجب؟
محتوى الدراسة
من الطبيعي أن يخضع رواد الفضاء لتغيرات فيزيولوجية في أجسامهم لكونهم يتعرضون لمدة طويلة من حالة "انعدام الوزن" في الفضاء، ولفهم هذا بشكل أفضل قام الباحثون بإجراء هذه الدراسة، وبناء على ذلك تم اختيار 12 رائد فضاء قبل إرسالهم إلى رحلة فضائية، بقي الرواد فترات متباينة في الفضاء وقُدرت بِـ 172 يوماً في المتوسط، تم الحصول على بيانات هؤلاء الرواد بواسطة جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي قبل إرسالهم إلى الرحلة الفضائية وبعد عودتهم كذلك، وتم تجميع البيانات لمقارنة النتائج.
وصف الباحثون ما وجدوه بأنه "تغيرات هيكلية مجهرية" في المادة البيضاء التي تدير الاتصالات داخل الدماغ من وإلى باقي أنحاء الجسم، وذلك من خلال تقنية الجريان التفاضلي، وهي تقنية تدرس التغيرات التشريحية في ألياف المادة البيضاء على المستوى المجهري وسرعة النقل العصبي فيها. شملت هذه التغيرات مساحات واسعة من المادة البيضاء، المكونة من أجسام الخلايا العصبية والخلايا الدبقية والمسؤولة عن تعديل وجمع المعلومات المنقولة من الخلايا العصبية الموضعية ومن المناطق البعيدة عبر حزم من المحاور الطويلة المايلينية، والمايلين هو طبقة دهنية بروتينية عازلة تحيط بمحاور الخلايا العصبية. ظهر التغيير واضحاً في كل من الجسم الثفني والحزمة المقوسة والمسالك القشرية النخاعية والمسالك المخيخية.
على وجه التحديد، وجد فريق البحث تغيرات في المسالك العصبية المرتبطة بالوظائف الحسية والحركية، وهذا التغيير في الوظيفة الحسية المتغيرة ما هو إّلا تكيف مع الحياة في ظروف الجاذبية المعدومة، وذلك بالنظر إلى الفيزياء الحركية في ظل بيئة الفضاء الفريدة.
استخدم فريق البحث تقنية تصوير الدماغ ثلاثية الأبعاد بالألياف الضوئية، والتي تساعد في تقييم المسالك العصبية باستخدام البيانات التي تم جمعها عن طريق تقنية تسمى التصوير بالرنين المغناطيسي الموزون بالانتشار (Diffusion-weighted imaging)، الذي يعتمد على قياس الحركة الحرارية لجزيئات الماء داخل المادة البيضاء الدماغية، حيث تميل جزيئات الماء إلى الانتشار بحرية أكبر على طول اتجاه الحزم المحورية، ما يظهر البنية الدماغية والاتصالات الدماغية بشكل واضح. وصرّح ويتس في بيان آخر له: "يعطي جهاز تتبع الألياف الضوئية نوعاً من مخطط الأسلاك للدماغ. دراستنا هي أول من استخدم هذه الطريقة لاكتشاف التغيرات في بنية الدماغ بعد رحلة الفضاء".
اقرأ أيضاً: ماذا يحدث إذا أصيب رواد الفضاء بالإسهال في الفضاء؟
نتائج الدراسة
تمكنت هذه الدراسة من إلقاء نظرة أفضل على الروابط الفعلية بين الخلايا العصبية وكيفية إعادة توصيلها. في البداية، رصد الباحثون تغيرات في الجسم الثفني، وهو السبيل المركزي الذي يربط نصفي الكرة المخية، وعند التحليل الدقيق، وجدوا توسعاً في البطينات الدماغية جانب الجسم الثفني، الأمر الذي أدّى إلى حدوث تبدلات تشريحية في الأنسجة العصبية المجاورة.
وعند البحث في التغيرات الفيزيولوجية التي نجمت عن هذه التبدلات التشريحية، وجدوا أن إعادة توصيل الخلايا العصبية للمادة البيضاء زادت من القابلية لتعلم مهارات جديدة وصنع ذكريات جديدة، أي أنها نشطت الذاكرة قريبة الأمد. وبالمقابل، أظهرت الدراسات وجود زيادة ضئيلة في سرعة تلف المادة الدماغية، الأمر الذي فَرَضَ وجود زيادة في خطر الإصابة بالخرف والأمراض التنكسية الدماغية.
هذه هي الدراسة الأولى التي تدرس تأثير الجاذبية في أنسجة الجسم على المدى الطويل، الأمر الذي وجّه البحث المستقبلي لدراسة التغيرات الوظيفية والسلوكية للدماغ المرتبطة بتغيرات المادة البيضاء نظراً لكون تأثيرها لا يزال غير واضح بشكل كامل، وأكد الباحثون أهمية بدء دراسة متخصصة بمقارنة التبدل الحاصل بين أدمغة الإناث والذكور نتيجة لهذا التكيف الدماغي باستخدام تقنية المسح ذاتها، حيث إنه كلمّا ازدادت معرفتنا بهذه التغييرات كلما كنا قادرين على الاستعداد بشكل أفضل للسفر إلى عوالم أخرى.