تستيقظ في الليل لتشرب كأساً من الماء وأنت شبه نائم وشبه تحلم، وفجأة يتراءى لك خيال أحد ما يقف خلفك! في هذه اللحظة لا يطير النوم من عينيك فقط، بل إن جسدك بكامله يرتعد خوفاً، حتى إنك تسمع ضربات قلبك في أذنيك. لتتيقن لاحقاً أنه ليس سوى خيال حمالة المعطف، ولكنك الآن غير قادر على العودة للنوم بتلك السهولة لأن جسدك ما زال في وضعية تأهب!
في الواقع، صُممت أجسامنا لتساعدنا على التعامل مع المواقف الخطرة حقاً، أو حتى التي نعتقد أنها تهدد الحياة، في آلية تُعرف باستجابة الكر والفر، لمساعدتنا على التحرك بشكلٍ أسرع وأفضل وأقوى. فما الذي تحدثه هذه الاستجابة في الجسم من تغيرات؟ وكيف يمكنها مساعدتنا؟
ما هي استجابة الكر والفر؟
يعود أول ذكر لاستجابة الكر والفر إلى الباحث الأميركي الفيزيولوجي والتر برادفورد كانون (Walter B. Cannon) عام 1915، في كتابه التغيرات الجسدية في الألم والجوع والخوف والغضب (Bodily Changes in Pain, Hunger, Fear and Rage)، حيث وصفها بأنها رد فعل فيزيولوجي يحدث استجابة لحدث ضار أو هجوم أو تهديد للبقاء على قيد الحياة.
تشكلت استجابة الكر والفر عند الإنسان خلال ملايين السنين من التطور عبر أجيال لا حصر لها، كان أساسها غريزة البقاء ضد التهديدات البيئية التي نواجهها. أدرك كانون أن سلسلة من ردود فعل سريعة تحدث داخل الجسم، تساعد على تعبئة موارد الجسم للتعامل مع الظروف المهددة. أشار كانون إلى أنه عندما تتعرض الحيوانات للتهديد، مثل هجوم كائن مفترس، فإن جسدها يمر تلقائياً بسلسلة من التغييرات الداخلية، والتي من شأنها مساعدة الحيوان على الهروب أو القتال أو تمثيل الموت.
اقرأ أيضاً: هل يمكن أن يقتلنا التوتر بالمعنى الحرفي للكلمة؟
طرق استجابة الكر والفر
تتجلى استجابة الكر والفر في عدة أنواع من الاستجابة:
- القتال (الكر): اتخاذ إجراءات للقضاء على الخطر.
- الفرار (الفر): محاولة الهروب من الخطر.
- التجمد: أي عدم القدرة على الحركة أو اتخاذ إجراءات ضد الخطر.
يبدأ رد الفعل بتنبه اللوزة الدماغية، وهي جزء من الدماغ مسؤول عن الشعور بالخوف. ترسل اللوزة إشارات عصبية إلى منطقة ما تحت المهاد (الوطاء أو الهيبوثالاموس) لتحفيز الجهاز العصبي الذاتي. يتكون الجهاز العصبي الذاتي من:
- الجهاز العصبي الودي المسؤول عن استجابة الكر والفر.
- الجهاز العصبي اللاودي المسؤول عن استجابة التجمّد.
يتحدد نوع الاستجابة وفقاً لنوع الجهاز العصبي المهيمن لحظة الاستجابة، فيبقى من الصعب التحكم في الأمر. عامة يمكن للجسم أن ينتقل بين الكر والفر والتجمد.
ماذا يحدث في الجسم في استجابة الكر والفر؟
يحفّز الجهاز العصبي الذاتي الغدة النخامية والغدة الكظرية على إفراز الكاتيكولامينات، بما في ذلك الأدرينالين والنورادرينالين والكورتيزول (هرمونات التوتر)، بسرعة كبيرة. يمكن لهذه الهرمونات أن تحدث عدة تغيرات فيزيولوجية بالتسلسل التالي:
- القلب: قد ينبض القلب بسرعة لإيصال المزيد من الأوكسجين إلى العضلات الرئيسة.
- الرئتان: تزداد سرعة التنفس للحصول على المزيد من الأوكسجين. في المقابل، قد تسبب استجابة التجميد حبس التنفس أو تقييده.
- العيون: تتوسع حدقة العين، للسماح بدخول المزيد من الضوء والرؤية بشكلٍ أفضل.
- الآذان: تقوي حاسة السمع.
- الدم: تزداد سماكة الدم بسبب زيادة محتواه من عوامل التخثر، تحسباً لأي إصابة.
- الجلد: يفرز الجسم المزيد من العرق ويصاب بالبرد والقشعريرة، أو يتغير لونه ويبدو شاحباً.
- عتبة الألم: تزداد عتبة إحساس الجسم بالألم.
- عادة ما يعود الجسم لحالته الطبيعية، ويزول تأثير الهرمونات بعد 20-30 دقيقة.
اقرأ أيضاً: هل يمكن للخوف أن يؤدي إلى الموت حقاً؟
كيف تساعدنا استجابة الكر والفر؟
اليوم، لا نتعرض لمخاطر مهددة للحياة، مثلما تعرض لها أسلافنا، لكن هذا لا يعني أننا فقدنا استجابة الكر والفر اللاإرادية. يلجأ الجسم لهذه الاستجابة في مواقف عديدة يومية. على سبيل المثال:
- الصعود على متن الطائرة.
- عندما يخيفك أحدهم.
- التأخر عن موعد إنجاز المهمة النهائي.
- التحدث أمام الجمهور.
- التعرض للسرقة، أو لصدمة ما.
هذه المواقف ليست خطيرة حقاً، لكنها تُثير استجابة الجسم للضغط والتوتر، فيتأثر الجسم بها كما لو كانت كذلك، باعتبارها وسيلة لمواجهة الإجهاد النفسي والعقلي أو الهروب منه.
فوائد استجابة الكر والفر
تؤدي استجابة القتال أو الطيران دوراً مهماً في كيفية تعاملنا مع الإجهاد والخطر في بيئتنا، حيث تحدث جملة تغيرات استجابة الكر والفر في الجسم بسرعة كبيرة. في الواقع، ترسل اللوزة الدماغية والوطاء أوامرها بإحداث التغييرات حتى قبل أن تُتاح الفرصة للمراكز البصرية في الدماغ لمعالجة حقيقة مصدر الخطر وشدته بشكلٍ تام. هذا هو السبب الذي يدفع الناس للقفز من مسار سيارة متجهة نحوهم بشكلٍ لا إرادي دون التفكير فيما يفعلونه.
عامة، يمكن لما تتسبب به استجابة الكر والفر من تنبيه أو توتر أن تزيد من القدرة على مواجهة التهديدات والضغوطات التي نتعرض لها، مثل العمل أو المدرسة. وفي حالات الخطر المهدد للبقاء على قيد الحياة يمكن لهذه الاستجابة أن تمنحك الاستعداد والجاهزية إمّا لمواجهة الخطر أو الهروب منه.
وفي الحالات التي تتعرض فيها لتهديد حقيقي للحياة، تساعدك استجابة الكر والفر في النجاة من خلال تجهيزك للقتال أو الفرار، فتحميك من الخطر.
أضرار استجابة الكر والفر
عندما تصبح بعض الضغوطات التي لا تهدد الحياة مستمرة، مثل العمل والشؤون المالية والصحية والزواج وتربية الأطفال، تتنشط استجابة الكر والفر بشكلٍ خاطئ، ما يؤدي إلى إجهاد مزمن يؤثّر في الصحة العامة.
مع بقاء محور (الوطاء - الغدة النخامية – الكظرية) في حالة تنشيط منخفضة المستوى، يمكن أن تصاب بالمشكلات الصحية التالية:
- تلف الأوعية الدموية والشرايين، بسبب الارتفاع المستمر في الإيبينيفرين.
- زيادة ضغط الدم وخطر الإصابة بالنوبات القلبية أو السكتات الدماغية.
- المستويات المرتفعة من الكورتيزول تسهم في تراكم الأنسجة الدهنية وزيادة الوزن، لأنه يزيد الشهية، ويزيد تخزين العناصر الغذائية غير المستخدمة مثل الدهون.
اقرأ أيضاً: خطوات بسيطة تساعدك على التخلص من التسويف والمماطلة
تقنيات لمواجهة التوتر المزمن
لحسن الحظ، يمكن للناس تعلم تقنيات لمواجهة استجابة الكر والفر المزمنة، مثل:
- الاسترخاء: وفقاً للدكتور هربرت بنسون (Herbert Benson) في مستشفى ماساتشوستس العام، يمكن مواجهة الإجهاد، باتباع تقنيات الاسترخاء، بما في ذلك:
- التنفس العميق من البطن.
- التركيز الذهني على السلام أو الهدوء.
- تصور المشاهد الهادئة.
- ممارسة اليوغا والتاي تشي.
- النشاط البدني: يمكن تحرير التوتر بممارسة بعض التمارين، مثل المشي السريع، لأنه يساعد على:
- تقليل هرمونات التوتر، بما في ذلك الأدرينالين والكورتيزول.
- زيادة الإندورفين.
- تحسين النوم.
- الدعم الاجتماعي: يوفّر الأصدقاء والأقارب والعائلة وزملاء العمل شبكة اجتماعية ودعماً عاطفياً، يساعد بشكلٍ غير مباشر على الحماية من التوتر والأزمات المزمنة.
- التأريض الذهني: تتضمن تقنيات التأريض الذهني:
- الغناء أو كتابة الشعر.
- ممارسة ألعاب عقلية مثل السودوكو أو الأبجدية.
- تخيُّل نفسك متغلباً على مخاوفك أو المصاعب.
- التأريض المادي، ويتضمن:
- التنفس والتركيز على سرعتك وثباتك.
- الإمساك بجسم ما بإحكام.
- حمل أوزان بقدميك.
- شد الجسم ثم تحريره ببطء من الجبهة إلى أصابع القدمين.
اقرأ أيضاً: هل يمكن محو الذكريات المؤلمة بإعادة تعيين نقاط التشابك العصبي في الدماغ؟
إذاً، يمكن لاستجابة الكر والفر أن تحميك من خطر محتمل، لكن ينبغي ألّا تنشط في حالة الضغوطات اليومية غير المهدّدة والمتواصلة. فإذا كان الأمر كذلك، ولم تتمكن من كبح الاستجابة والتحكم بها، عليك باستشارة أخصائي لتحديد السبب الكامن للتوتر، وتعلم التحكم في الاستجابة واستخدامها لصالحنا.